الحرب على غزة … السيناريوهات والتداعيات

بقلم : هاني المصري

تاريخ النشر: 17/10/23 | 18:34

مضت حتى الآن عشرة أيام على عملية طوفان الأقصى، وأصبح واضحًا أن ما بعدها مختلفٌ عما قبلها، ففضلًا عن
أن قواعد اللعبة قد تغيرت، فإن الحكومة الإسرائيلية، بل إسرائيل نفسها ستتغير، والقيادة الفلسطينية وسلطتها ستتغير، وكذلك حركة حماس لن تبقى على ما هي عليه، وإذا تحوّلت الحرب إلى حرب إقليمية سيتغير الشرق الأوسط برمته. ويتوقف مدى التغير على المدى الذي ستصل إليه الحرب، وهل سنشهد حربًا برية، وإذا بدأت إلى متى، وكيف ستنتهي؟

هل تجرؤ قوات الاحتلال على الحرب البرية؟

كانت عملية طوفان الأقصى بمنزلة زلزال أصاب إسرائيل، وستكون له تداعيات وارتدادات كبيرة لسنوات، بل لأجيال قادمة، ولذلك لن ترضى حكومة الطوارئ أو أي حكومة أن توقف حربها وانتقامها قبل أن تحرز نصرًا واضحًا، أو قبل أن يلوح أمامها خطر وهزيمة أكبر، والنصر الواضح لا يقل عن توجيه ضربة قاصمة لحركة حماس وبنيتها العسكرية والتنظيمية والقيادية، وستعمل لسحق الحركة وتصفيتها، وبناء شرق أوسط جديد، كما جاء على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في تصريحاته، خصوصًا خطابه بعد إقرار الكنيست قانون الحرب، وإلى أكثر من القضاء على “حماس” وفق تصريح تساحي هنغبي، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي.

قد يقول قائل إن الخسائر الفادحة التي يمكن أن تقدمها إسرائيل إذا توغلت بريًا في قطاع غزة، والخشية على حياة الأسرى الذين عددهم أكثر من 150 أسيرًا، ستحول دون إقدامها على الحرب البرية، والرد على ذلك بأن وقف الحرب من دون نصر واضح ومن دون بروز تطورات تحمل مخاطر أكبر سيؤدي إلى خسائر أكبر لإسرائيل؛ لأن الإهانة والهزيمة المخزية وسقوط الردع الإسرائيلي سقوطًا مدويًا من دون جباية ثمن متناسب مع المسبب؛ سيشجع “حماس” وغيرها من الفصائل الفلسطينية، كما سيشجع حزب الله وسوريا وإيران وغيرهم، على توجيه ضربات مماثلة؛ ما يضع مليون علامة سؤال على مستقبل وجود إسرائيل. لذا، لن تضع إسرائيل الأسرى قيدًا للعملية البرية، فالعدوان يتصاعد يومًا بعد يوم، وهناك أكثر من 25 قتيلًا من الأسرى الإسرائيليين، ولم تكترث إسرائيل لذلك.

إن حجم الخسائر المتوقعة في الحرب البرية يمكن أن يؤجلها بعض الوقت ولكن لا يلغيها، وسيدفع القوات الإسرائيلية إلى المضي في مواصلة سياسة الأرض المحروقة، وتحويل القطاع أو أجزاء منه إلى منطقة غير قابلة للاستخدام البشري، وذلك مع استمرار القصف الوحشي التدميري، والإبادة، والعقوبات الجماعية، والتهجير والتطهير العنصري، والحصار الخانق المحكم لأطول فترة ممكنة؛ للاستفراد بالمقاومة وعزلها عن حاضنتها الشعبية، وكي وعيها، ودفعها إلى التحول ضد المقاومة، ودفع أهل غزة إلى الانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه، ومنه إلى سيناء للنجاة بحياتهم، ومن أجل تأمين سبل الحياة من طعام وماء ودواء.

إن الحكومة الإسرائيلية أمام خيارين أحلاهما مر، فهي بحاجة إلى حسم الحرب بسرعة، وهذا غير ممكن. أما الحرب الطويلة تعرضها ليس فقط لخسائر بشرية كبيرة، وإنما لانتهاء الضوء الأخضر الذي منح لها ولا يمكن أن يستمر لفترة طويلة؛ نظرًا إلى الأضرار والتداعيات الاقتصادية والإستراتيجية على الاقتصاد الإسرائيلي المعطل بشكل كبير أثناء الحرب، أو على الاقتصاد العالمي المتضرر كثيرًا، والذي سيتضرر بصورة أكبر في حال تدحرجت الأمور نحو حرب إقليمية.

لن تحدث الحرب البرية في هذه الحالات

الحالة الأولى: إذا استسلمت المقاومة، واستجابت لشروط العدو، وأوقفت المقاومة عبر إيقاف إطلاق الصواريخ، ووقف قيام المجموعات الفدائية بالهجوم على القوات المحتلة على غلاف غزة، وأطلقت سراح الأسرى بلا شروط، كما تطالب بذلك إسرائيل ومعها الغرب الاستعماري وأصوات فلسطينية وعربية ودولية، وهذا مستحيل؛ لأن المقاومة التي سببت الصدمة والترويع للكيان المحتل والذهول والإعجاب بها على امتداد العالم كله بمبادرة طوفان الأقصى، على الرغم من بعض الأخطاء التي وقعت فيها المقاومة بقصد أو من دون قصد فيما يتعلق بالمدنيين والفئوية وغياب الغرفة المشتركة والبرنامج الوطني، لا يمكن أن تلقي السلاح وتستسلم، بل المتوقع أنها تخفي مفاجآت أخرى لقوات الاحتلال إذا أقدمت على الحرب البرية.

الحالة الثانية: إذا استطاعت الضربات الجوية الإسرائيلية أن توقع خسائر كبيرة في قيادات المقاومة السياسية والعسكرية وبنيتها ونظام السيطرة والقيادة، وهنا يمكن أن تؤدي الاغتيالات، سواء داخل غزة أو خارجها، دورًا كبيرًا إذا نجحت في اصطياد رؤوس فلسطينية كبيرة وكثيرة، ومست بقدرة المقاومة على مواصلة العمليات؛ أي إذا هُزمت عسكريًا ولم تستسلم سياسيًا، وهذا مستبعد جدًا.

إن هزيمة المقاومة عسكريًا يمكن أن يدفع القوات المعادية إما إلى وقف الحرب، أو مواصلة حرب الإبادة والعقوبات الجماعية لأطول فترة ممكنة قبل ومع التقدم بريًا.

الحالة الثالثة: إذا فُتحت الجبهة الشمالية مع حزب الله، وهذا سيضع المنطقة والعالم مباشرة أمام اندلاع حرب إقليمية يمكن أن يبدأها حزب الله، وتشارك فيها لاحقًا سوريا والحوثيون وإيران، وهي حرب لا أحد يريدها، فالولايات المتحدة تريد مواصلة التركيز على أولوياتها في المحيطين الهندي والهادئ وعلى الحرب الأوكرانية، أما إيران فلا تريد حربًا ستكلفها غاليًا في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى وآثار الحصار المستمر منذ الثورة الإيرانية. كما أن الأطراف الأخرى مثل الصين والسعودية وغيرهما فلا تريد الحرب، حفاظًا على مصالحها، وحتى لا تؤثر الحرب على مشاريعها المستقبلية، مع ملاحظة أن التنافس الشديد على قيادة العالم، خاصة بين المعسكرين الشرقي بقيادة الصين والغربي بقيادة الولايات المتحدة، يجعل احتمال الحرب الإقليمية وغير الإقليمية واردًا، وإن ليس مرجحًا.

ولكن يمكن أن تنزلق الحرب الدائرة حاليًا إليها نتيجة تدافع الأحداث وعدم وقف الحرب على الفلسطينيين، ووصولها إلى حد الكارثة الإنسانية الشاملة، أو لحظة انكسار المقاومة الفلسطينية. وهي إذا اندلعت لن تبقي ولا تذر، ونتيجتها غير مضمونة، وكما قال حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية الإيراني، بأن أميركا حينها ستُلحق بها خسائر فادحة كذلك.

وإذا أضفنا إلى فتح الجبهة الشمالية فتح جبهة الضفة والداخل الفلسطيني التي يمكن أن تُفتح إذا تواصلت الحرب وفتحت الجبهة الشمالية، على الرغم من العوائق الكبرى التي حالت حتى الآن دون الدخول الواسع للضفة وأراضي 48، وقد تحول دون فتحها مستقبلًا.

ومثلما أدى أو يمكن أن يؤدي حشد الأساطيل الأميركية والتهديد بالمشاركة الأميركية والبريطانية في الحرب إلى منع فتح جبهات جديدة، فإن فتح الجبهة الشمالية بشكل متدحرج ومدروس قد يوقف الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة.

جبهة الشمال … تسخين، وكرة متدحرجة قد تصل إلى حرب

إنّ فتح الجبهة الشمالية وارد، بدليل أنها تسخن أكثر وأكثر، وسط استعدادات أكثر وأكثر لفتحها، وأكبر دليل أن قادة حزب الله وإيران والحوثيين أطلقوا تصريحات واضحة الدلالة بأنهم سيدخلون الحرب إذا تجاوزت إسرائيل وحماتها خطوطًا معينة، وإذا تواصلت حرب الإبادة والتهجير، وإذا وصلت المقاومة نقطة حرجة، خصوصًا إذا طلبت منهم المقاومة الفلسطينية التدخل.

ويمكن أن يأخذ فتح الجبهة الشمالية شكل الكرة المتدحرجة كما يحصل فعلًا؛ لأن الهدف منها منع استمرار الحرب على غزة وليس توسيعها وفتح جبهات جديدة، ولا شك في أن حزب الله وحلفاءه يدرسون عواقب دخول أميركا الحرب إذا فُتِحت الجبهة الشمالية، وهم أمام اختبار تاريخي حاسم، فإما تنفيذ وحدة الساحات والجبهات، وإما الامتناع عن الحرب خشية من عواقبها على لبنان وإيران وسوريا والمنطقة، وما يعنيه ذلك من هزيمة معنوية وسياسية كبرى لحزب الله وإيران ولخيار المقاومة.

وما يعزز من فتح الجبهة الشمالية أن إقدام إسرائيل على هزيمة المقاومة سيجعل حزب الله الهدف الثاني لشن الحرب عليه؛ لأن استمراره قويًا في ظل امتلاكه ترسانة كبيرة من الأسلحة ونفوذًا كبيرًا في لبنان يهدد بتكرار ما فعلته المقاومة الفلسطينية في غزة، وسيشجع إسرائيل على مواصلة تطبيق مخططاتها لتصفية القضية الفلسطينية، ويسرع من إقامة “إسرائيل الكبرى”، وما يعنيه ذلك من ضم الضفة الغربية المحتلة، وتهويدها، وطرد أكبر عدد ممكن من أهلها وسكانها الأصليين.

وفي هذا السياق، لا يمكن استبعاد كلي لسيناريو إقدام إسرائيل على ضرب إيران، مع أنه ضعيف وغير مرجح، وذلك بالتركيز على ضرب المنشآت النووية، مستغلة الاستنفار الإسرائيلي، والمشاركة الأميركية.

حرب لتصفية القضية، والقضاء على حلم الحرية والعودة والاستقلال

على جميع الفلسطينيين أن يروا أن ما يجري ليس حربًا حمساوية إسرائيلية ولا فلسطينية إسرائيلية، وإنما حرب فلسطينية عربية إسلامية مسيحية إنسانية عالمية لتصفية القضية الفلسطينية، واستكمال القضاء على حلم الحرية والعودة والاستقلال الوطني، أو تكون بداية للشروع في تحقيقه، وكذلك فهي حرب لرسم خريطة المنطقة الجديدة في سياق رسم خريطة العالم الجديد، فمن دون شك النظام العالمي القديم ينهار، ونمر بمرحلة انتقالية، يدور فيها صراع وتنافس شديد على شكل ومضمون العالم الجديد الذي لم يولد بعد.

إسرائيل هُزِمت، وتسعى لتحويل الهزيمة إلى نصر

لا بد من القول إن حكومة (نتنياهو سموتريتش بن غفير) هُزمت هزيمة ساحقة في عملية طوفان الأقصى، لذا تحاول بشراكة أميركية بريطانية كاملة، وبدعم أوروبي وغربي شامل، وعبر تشكيل حكومة الطوارئ، أن تحوّل الهزيمة إلى نصر. فهزيمة إسرائيل من فصيل صغير أظهرها بوصفها طرفًا ضعيفًا، ووضعها خطر، ومستقبلها غير مضمون، وتلجأ من أجل ذلك إلى الغير لمساعدتها، وإلى شن حرب إبادة جماعية، وتدمير شامل، وإحكام الحصار الكامل، وإلى التعامل مع الفلسطينيين كما قال يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، بوصفهم “حيوانات بشرية”، فضلًا عن شيطنة الفلسطينيين كونهم يحتضون المقاومة، كما برر الرئيس الإسرائيلي استهداف المدنيين؛ ذلك للتغطية على المجازر الواسعة ومسح أحياء سكنية ومقومات الحياة من على الأرض في القطاع أو أجزاء واسعة منه، وتهجير واسع في إطار تطهير عرقي للتخلص من الكتلة البشرية الكبيرة في قطاع غزة، وإسكان أكبر عدد ممكن تهجيره في سيناء تطبيقًا للمشروع القديم المتجدد بحل القضية الفلسطينية على حساب الأرض الفلسطينية والبلدان العربية المحيطة.

السيناريوهات المحتملة

تتراوح السيناريوهات الممكنة والمحتملة ما بين حدوث هزيمة فلسطينية، من أبرز معالمها ضرب المقاومة ضربة قاصمة وحدوث نكبة فلسطينية جديدة من خلال التهجير، أو نصر فلسطيني يتجلى في نهوض فلسطيني شامل، أو تنتهي الحرب من دون نصر أو هزيمة؛ حيث يدعي كل طرف أنه انتصر، وأن الطرف الآخر لم يحقق أهدافه.

السيناريو الأول: الهزيمة والنكبة الجديدة

من أبرز معالم هذا السيناريو ما يأتي:

أولًا: نجاح حرب “السيوف الحديدية” في تهجير كل أو قسم كبير من شعبنا في قطاع غزة، وجعل القطاع أو مساحات واسعة منه منطقة عازلة (Buffer Zone) غير قابلة للاستخدام البشري، والقضاء على حلم الحرية والعودة والاستقلال. وفي هذا السياق، فإن حجم ونوعية القصف والأهداف التي تتعرض للقذائف والصواريخ من البر والبحر والجو؛ تدل على أن هذه الأهداف موجودة في قائمة الأهداف الإسرائيلية، سواء صرحوا عنها أحيانًا أو أخفوها.

ثانيًا: توجيه ضربة قاصمة للمقاومة بصورة عامة، و”حماس” بصورة خاصة؛ لأن هدف القضاء على “حماس” الذي يردده نتنياهو وأركان حكومته غير قابل للتحقيق، فمن غير الممكن القضاء على حركة تحرر وطني شعبية، خصوصًا بعد معركة طوفان الأقصى التي زادتها قوة وشعبية، وستجعلها قادرة على الاستمرار بغض النظر عن نتائج الحرب، وقد تصبح ضعيفة عسكريًا نعم، ولكنها ستكون قوية شعبيًا وسياسيًا، وهذا سيمهد الطريق أمامها لاستعادة قوتها العسكرية وتبوء مكانة أكبر فلسطينيًا.

المقاومة بعد طوفان الأقصى أكثر شعبية

ما يعزز التقدير باستحالة القضاء على المقاومة أنها كما ظهر في طوفان الأقصى باتت أكثر قوة وتجذرًا، وأن المقاومة انطلقت منذ نشأة القضية الفلسطينية ولا تزال مستمرة موجة مقاومة وراء موجة وثورة وانتفاضة وراء ثورة وانتفاضة، وبقيت القضية الفلسطينية حية أولًا وأساسًا جراء عدالتها وتفوقها الأخلاقي، وإذا هُزمت “حماس” ستولد حركة أخرى أقوى منها، فالمقاومة مستمرة، على الرغم من كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتهجير وتطهير عرقي وعدوان وهزائم وحروب ومجازر، ومن تخلي النظام الرسمي العربي عن القضية الفلسطينية، وتخاذل القيادة الفلسطينية التي عقدت اتفاق أوسلو الذي لم يؤد إلى دولة، وإنما إلى كارثة.

كما أن المقاومة تستمد المزيد من القدرة على الاستمرار من عدم وجود شريك إسرائيلي للسلام، بل أصبحت إسرائيل أكثر وأكثر تحت سيطرة الاتجاهات والأحزاب والأفكار القومية والدينية الأكثر تطرفًا وعدوانية وتوسعية، وكذلك من فشل اتفاق أوسلو والمفاوضات، وكل المحاولات التي بذلت منذ ثلاثين عامًا وأكثر للتوصل إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، على الرغم من التنازلات الكبرى التي قدمتها القيادة الفلسطينية.

وهنا، يجب الحذر من المراهنة على تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية بحكومة أقل تطرفًا منها، مع تمسكها باللاءات الإسرائيلية المعروفة. فأهم درس أكدته التجربة الفلسطينية أن تحقيق الأهداف الوطنية لا يمكن إلا عن طريق المقاومة الشاملة، وعلى أساس المقولة الخالدة “المقاومة تزرع والسياسة تحصد”، ومن لا يزرع لا يحصد.

مخطط التهجير فَشِل، لكنه لم يُدفن

إذا أخذنا بتطور الأحداث على الأرض وتداعياتها السياسية، نرى أن مخطط تهجير شعبنا في قطاع غزة إلى سيناء قد تعثر بعد موجة الرفض العربية والدولية، لدرجة أن مصر والأردن وخلفهما الدول العربية مجتمعة رفضوا التهجير وحذروا منه؛ ما أدى إلى تراجع تكتيكي واضح من حكومة الطوارئ التي استبدلت الدعوة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء بالاستعداد لفتح ممر آمن للذهاب من شمال القطاع إلى جنوبه وإلى سيناء فيما بعد، كما ظهر في دعوات صريحة من نتنياهو وغيره من القيادات الإسرائيلية، ومن تصريح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي دعا إلى فتح ممر آمن لخروج الأجانب والمدنيين إلى سيناء، وتم تغيير ذلك كله بالدعوة الأميركية والدولية الآن إلى إيجاد منطقة أو مناطق آمنة للمدنيين، وفتح المعابر، وخصوصًا معبر رفح، لدخول المساعدات الطبية والمعيشية والوقود ونقل الجرحى.

وهنا، يجب الحذر وعدم التسرع بالاستنتاج بأن مخطط التهجير دفن نهائيًا، بل سيتواصل العمل من أجله بطرق أخرى، خصوصًا إذا استمرت الحرب وطالت. فوجود مئات الآلاف خارج بيوتهم بلا خدمات عامة، ودون عمل، وفي ظل بنية تحتية مدمرة كليًا ومناطق غير صالحة للاستخدام الآدمي، سيعزز واقعيًا وتلقائيًا – خصوصًا إذا طالت الحرب – من سيناريو إقامة مناطق لجوء تُقام فيها مصانع ومزارع ومساحات للاستثمار في سيناء بعيدة عن الاستهداف الإسرائيلي.

وضمن سيناريو الهزيمة والنكبة، لن يتم إحياء عملية السلام على أساس حل الدولتين، كما روج أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، أثناء جولته بأن على الرئيس عباس أن يضمن هدوء الضفة بالتعاون مع الاحتلال، إلى أن تتم هزيمة المقاومة و”حماس”، وهذا سيؤدي إلى فتح أفق سياسي، وهذا خداع كامل، فإذا هُزمت المقاومة ستتوقف التسوية إلى إشعار آخر، وستتقدم أكثر وأكثر خطة إقامة “إسرائيل الكبرى”، وسيُطلب من القيادة الفلسطينية أن تكون عميلة وإلا يتم الاستغناء عنها.

السيناريو الثاني: النصر الفلسطيني وبدء النهوض الشامل

يتحقق هذا السيناريو من خلال وقف الحرب والمقاومة لا تزال واقفة على قدميها وسلاحها والأسرى في يدها، ومن خلال عدم حدوث الحرب البرية، أو بحصولها مع تكبد قوات الاحتلال خسائر فادحة تدفعها إلى التقهقر؛ حيث سيفتح هذا السيناريو الباب لعقد صفقة تبادل يتم فيها تبييض السجون الإسرائيلية مقابل أسرى الاحتلال، وهذا السيناريو يفتح المجال لوجود أفق سياسي جراء تغير موازين القوى، بما قد يسمح بتسوية تحقق الحد الأدنى، أو تحقيق ما يمكن تحقيقه من حقوق؛ أي إنه ستكون هناك فرصة أفضل لإنهاء الاحتلال بسبب قوة المقاومة، وخشية المجتمع الدولي من أن يؤدي عدم حل القضية الفلسطينية إلى حروب وأزمات تهدد الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة والعالم كله.

ويعزز من هذا السيناريو أن الحكومة الإسرائيلية لا تملك إستراتيجية للانتصار ولدخول غزة؛ ذلك لأن غطرسة القوة والاستهتار دفعا إلى عدم وضع مثل هذه الإستراتيجية بسبب عدم الحاجة إليها، فلقد اعترف مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يقدم المعلومات والتقديرات للحكومة، بخطأ تقديره أن “حماس” بعد معركة سيف القدس أصبحت مردوعة، وأنها لن تجرؤ على الدخول في معارك مع إسرائيل لسنوات قادمة.

كما تعاني إسرائيل من نقطة ضعف أخرى قديمة متجددة، وهي عدم وضع إستراتيجية خروج من غزة بعد دخولها، وبالتالي يمكن أن تغرق في مستنقع غزة، وتبقى فيه لسنوات، فهي لا تريد إعادة احتلال القطاع والبقاء فيه، “فهي ما صدقت عندما خرجت منه”، فكيف ستعود إليه؟، فهي تعرف أن السلطة في الضفة ضعيفة وغير قادرة ولا راغبة في استعادة غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية، ويمكن لإسرائيل في حال رفضت القيادة الحالية ذلك تنصيب قيادة عميلة لحدية، لن تملك أي شرعية ولا أي نوع من التمثيل.

لذا، طُرح للتداول في إسرائيل وجود قوات أميركية أو دولية أو عربية أو مختلطة، وهذا غير ممكن؛ لأن العرب لا يمكن أن يساهموا مباشرة في تصفية القضية الفلسطينية وسط نهوض شعبي عربي نصرة للقضية مختلف هذه المرة عن المرات السابقة، كما عبر عن نفسه بكل الأشكال منذ بدء الحرب وحتى الآن، كما أن الأمم المتحدة لا يمكن أن ترسل قوات لمساعدة الدولة المحتلة من دون أن يكون ذلك جزءًا من حل دولي ضمن قرارات الشرعية الدولية، فهناك أصدقاء للقضية الفلسطينية في مجلس الأمن يملكون سلاح الفيتو، وهناك أغلبية كبيرة داعمة للفلسطينيين في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ولا شك أن الأزمة الداخلية العميقة التي دخلتها إسرائيل منذ تولي الحكومة الكهانية الحكم وضعتها الحرب الراهنة مؤقتًا وراء الباب، ولا ينهيها، ولا يقلل منها تشكيل حكومة طوارئ لخوض الحرب، وهذه الأزمة الإسرائيلية سترافقها طويلًا، وستساهم في القضاء عليها، وهي أحد أهم الأسباب لوقوع الهزيمة التي سببتها مبادرة طوفان الأقصى التي حدثت وإسرائيل في أسوأ وأضعف حالاتها.

ومن شروط هذا السيناريو تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس برنامج مشترك وشراكة حقيقية، فمثلما توحدت إسرائيل وتشكلت حكومة الطوارئ كان من الأولى استعادة الوحدة، فهي قانون الانتصار، وهناك دوافع كبرى لإنجازها.

السيناريو الثالث: لا غالب ولا مغلوب

يتحقق هذا السيناريو من خلال عدم تحقيق إسرائيل أهدافها (القضاء على “حماس” وتغيير الشرق الأوسط ومحو قطاع غزة عن الخريطة وتهجير سكانه)، وعدم تحقيق المقاومة لأهدافها (تحرير الأسرى، ووقف مخطط تغيير مكانة الأقصى، ورفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف الاستيطان، والتقدم الملموس على طريق إنهاء الاحتلال).

ويتعزز هذا السيناريو إذا صمدت المقاومة ولم تحرز إسرائيل أهدافها، أو أي أهداف سياسية وعسكرية، ويزيد من احتماله فتح الجبهة الشمالية، سواء إذا أدت أو لم تؤد إلى حرب إقليمية. وفي هذه الحالة، يمكن إقناع الرأي العام الإسرائيلي المتعطش للدماء والانتقام والنصر بأن فتح جبهتين، حتى بمشاركة أميركية في الحرب، لا يضمن النصر، ويضاعف خسائر إسرائيل، ويزيد من احتمال هزيمتها الساحقة.

تغييرات إسرائيلية وفلسطينية حتمية بعد طوفان الأقصى

أولًا: أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وأكدت استحالة القفز عن الفلسطينيين في أي حل، وأضعفت إسرائيل وأسقطت نظرية الردع ومخططها للقيام بدور رادع أو مهيمن في المنطقة.

ثانيًا: ستؤدي عملية طوفان الأقصى والحرب التي تبعتها إلى حدوث تغييرات كبيرة، بغض النظر عن نتائجها، فالنتائج تغير مدى التغيير وشكله. فقيادة نتنياهو ومعه النخبة السياسية والعسكرية ستحاسب حسابًا عسيرًا على ما حصل، وهذا يظهر في نتائج الاستطلاعات التي أدت إلى تراجع شعبية الليكود والأحزاب المشكلة لحكومة نتنياهو، إذ حصل الليكود في آخر استطلاع على 19 مقعدًا، بينما حاليًا له 32 مقعدًا في الكنيست، إضافة إلى المطالبات الواسعة باستقالة نتنياهو ومحاكمته على الرغم من الحرب التي يشنها على الفلسطينيين.

ثالثًا: برهنت الحرب على أهمية التغيير في الساحة الفلسطينية، مع أن التغيير الممكن لن يكون إلا من خلال إنجاز الوحدة الوطنية على أساس برنامج القواسم المشتركة بوصفها مدخلًا للاحتكام إلى الشعب من خلال الانتخابات.

إن غياب المؤسسات الرسمية الفلسطينية عن المشهد وضعف الخطاب السياسي الرسمي، بدا واضحًا من خلال عدم اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولا المجلس المركزي، ولا اللجنة المركزية لحركة فتح، ولا حتى ما يسمى “القيادة الفلسطينية” بصيغة الأمناء العامين، ولا تشكيل قيادة موحدة لقيادة العمل خلال الحرب.

كما لم يخاطب الرئيس حتى كتابة هذه السطور شعبه في أي خطاب، ووافق وزير الخارجية الفلسطيني في اجتماع الجامعة العربية على بيان يساوي بين الضحية والجلاد بالنسبة إلى استهداف المدنيين، ولم يتحفظ عليه على الرغم من تحفظ كل من لبنان والجزائر وسوريا على البيان. كما أصدر الرئيس عباس – الذي يتعرض لضغوط شديدة إسرائيلية وأميركية وأوروبية لإدانة “حماس” إدانة صريحة – عشية وغداة لقائه مع بلينكن تصريحات استجاب فيها نسبيًا لهذه الضغوط حينما ساوى بين الضحية والجلاد بالنسبة إلى استهداف المدنيين، وطالب بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من دون ربط ذلك بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وتحدث عن أن منظمة التحرير هي التي تمثل الفلسطينيين، وليس أي تنظيم آخر، فيما فهم بأنه محاولة لسحب الغطاء عن المقاومة التي تخوض معركة حامية ضد الحرب البربرية الإسرائيلية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وتمثل بذلك الفلسطينيين جميعًا.

القيادة الفلسطينية الآن أمام فرصة قد تكون الأخيرة للانحياز لشعبها، وإعطاء الأولوية للوحدة؛ لأنها بعد هذه الحرب بغض النظر عن نتائجها مطالبة بأن تكون عميلة، أو يتم الاستغناء عنها، واستبدالها بسلطة عميلة.

كما على حركة فتح أن تبادر إلى التقاط اللحظة التاريخية، وإلا سيكون مصيرها كمصير حزب العمل، مع فارق التشبيه، الذي أسس إسرائيل وقادها لفترة طويلة، ثم أصبح يتجاوز نسبة الحسم بصعوبة.

رابعًا: حركة حماس مطالبة بحكم المسؤوليات الجديدة التي ألقيت على عاتقها بعد طوفان الأقصى، بإطلاق مبادرة من أجل توحيد الفلسطينيين، على أساس برنامج وطني ديمقراطي في قلبه إنهاء الاحتلال، وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال. فمن دون مشروع سياسي واضح يلتف حوله الشعب الفلسطيني لا يمكن تحقيق الحقوق والأهداف الوطنية؛ ما يجعل التضحيات الغالية والجسيمة والبطولات الملهمة صفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة