في المجنون والبحر وهيب نديم وهبه يختار الكتابة الصعبة في الزمن الصعب

كتبَ الناقد: نور عامر

تاريخ النشر: 25/10/22 | 10:00

لا شك أن أكثر الكتابات الأدبية ترتبط بمناخ الحركة السياسية والاجتماعية، وهذا الزمن الصعب قد يفرض أحيانًا كتابة صعبة، خاصة حين تدخل هذه الكتابة في مجال الحداثة التي تتسم بغموض التركيبات الصورية، وغموض الأهداف، فتصبح بحاجة إلى صبر وتأمل كي تفهم، وقد تفهم أو تفسر بأشكال مختلفة كما في المجنون والبحر للشاعر وهيب نديم وهبة.

الديوان عبارة عن قصيدة واحدة ذات بنية دائرية مفتوحة متحولة، وهي تأخذ اثنتي عشرة حلقة، والمجنون والبحر يوحدا جميع الحلقات.

المجنون فيه سمات وجودية، وهو يتطلع إلى الخلاص الطوباوي المثالي فيتخذ في سيره شكلًا عموديًا حين يصبح الواقع الأفقي مؤلمًا وغير محتمل. وهو يذكرنا إلى حد ما بمجنون جبران الذي عبر عنهُ أدونيس بأنهُ: “التقاء بالذات الحقيقية، ومن ثم غوص في أسرارها”

وقد أبتكر الشاعر رمزًا جعلهُ محوريًا أساسيًا في القصيدة وهو (البحر) الذي اكتسبَ ملامح المخلص كما في قصيدة يوسف الخال “الدعاء”
والبحر يرمز هنا للصيرورة والحياة، وفيه إشارة إلى قوله تعالى:
“وجعلنا من الماء كل شيء حي”
أما (هالة) المحور الثالث في القصيدة، فهي التي تمثل الحركة المتجددة، ولكنه التجدد التراكمي، أو الدوران في حلقة مفرغة. لذلك فهي تنتهي برحيل المجنون. ولكن حضورها كغريزة يظلُ ماثلًا. والشاعر برجوعه إلى الغريزة أو الفطرة الأولى ينطلق من النظرية التي انحدرت من الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” هذه النظرية التي تجعل تصرفات الإنسان وحياة النفسية تعود بالدرجة الأولى إلى الحركات والأفعال الغريزية العضوية وغير الواعية، لكن الهادفة في الوقت نفسه.

المجنون، الرمز المركزي في القصيدة يصبو إلى عالم نظيف متطهر من الفساد، عالم جديد لا يتم تكوينه إلا من خلال العودة إلى بناء نسل جديد وقوي. مما يذكرنا بِ “السوبرمان” عند الفيلسوف الألماني “نيتشه”

وهذا النسل يتم من خلال (هالة) في شكلها الآخر الذي يمثل الخصب والولادة، والعالم الجديد المثالي.
ضمَّ الْمجنونُ وجهَ هالةَ بالرّاحتينِ…
وقالَ: “تعالي بكلِّ هذا الْخيرِ، الرّزقِ
والْحبِّ، نصنعُ منْ هذهِ الدّنيا عالمًا آخرَ
لا يعرفُ الْجوعَ، والْعطشَ والْأحزانَ.”

والقصيدة درامية الطابع لأنه يتصارع فيها تياران أساسيان، تيار الخير وتيار الشر، أو تيار الموت وتيار الانبعاث وهي تأخذ شكل الحوار المسرحي بين شخصيتين: هالة والمجنون. وإذ نتعمق في النص نكتشف أن أسطورة آدم وحواء تدخل عضويًا في نسيج القصيدة، وتعبر عن معاناة الإنسان الكونية. ولعل الشاعر – اعتبر غواية حواء لآدم بمثابة أحياء لهُ. ثم اخذ هذا الإعجاب يتضاءل حين قرر بطل القصيدة الممسرحة، أن يتطهر من عقيدة الخطيئة، ثم يهرب إلى “الخيمة” السماء. ذلك الهروب الذي يذكرنا بآدم حين يتوق للعودة إلى الله هربًا من الأسر الذي يعانيه في الأرض.

وتبقى (هالة) وحدها على الشاطئ عرضة لتشاؤم أبي العلاء، وقطع النسل…
“كنْتُ أعرفُ، سيّدي، زمنَ الْغيبةِ،
زمنَ الْحضورِ والْغيابِ، وكنْتُ أخافُ!
ووحدي الْآنَ – وأنتَ موتي.
أموتُ بعدَكَ، سيّدي.
أينَ أنتَ!”

هذه الرموز ذات الملامح الصوفية، يمكن أن تفسر أيضًا بشكل آخر: غياب الحاكم بأمر الله الفاطمي في المقطم… ولكن لا مجال هنا لاستقصاء هذا الموضوع نظرًا لضيق المساحة… ولا يفوت القارئ المطلع أن ثقافة الشاعر وهيب نديم وهبة الواسعة أدت إلى الالتقاء الفكري أو التعبيري مع بعض الأعلام العربية ذات النزعة الثورية التحررية، ولا سيما في قضية الجوع الروحي والجسدي التي تحتل حيزًا في الديوان.

وفي المجنون والبحر تصبح شبكة الصيد رمزًا للوحدة، وسلاحًا ضد آفة الجوع، ولكن هذه الشبكة قد تخيب الآمال لأن رزقها الأكيد مرهون بزوال الكابوس، وانتقاء الواقع من سوداويته، وهذا لا يتم إلا بإعلان الثورة التي تزهق فيها الأرواح.
عانقَ الْمجنونُ الشّبكةَ، سلاحَ الصّيدِ.
الْموتُ. الرّزقُ. الْقتلُ. الْخيرُ. الْجوعُ.

وإذا عدنا إلى أبي ذر الغفاري نستحضر من ثورته الجامحة قوله:
“عجبتُ ممن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه”
فأننا نجد تشابهًا كبيرًا في التعبير، حيثُ يقول:
“في داخلي صهيلُ الْمهرِ الْجامحِ، أجمعُ ما بينَ الرّغبةِ والثّورةِ،
في أنْ تخرجَ منْ تابوتِكَ الْمفتوحِ إلى النّاسِ، إلى النّورِ، إلى الْعالمِ،
في كلّ زمانٍ كانَ… مثل هذا الزّمانِ!
في كلِّ زمانٍ كانَ، كانَتِ الْحربُ، وكانَ الْموتُ، والْقتلُ، والْحرمانُ والشّقاءُ.”

وبعد:
لا ازعم أن هذا المقال السريع يكفي لاحتواء هذه القصيدة الطويلة الخصبة، ولا يسعني سوى الاعتراف بأن هذا العمل الإبداعي بهرني بما يحمله من طاقات إيحائية، وومضات دلالية تؤكد أننا أمام شاعر يتميز بموهبة خلاقة وبسعة الخيال ألابتكاري.
إشارات:
• نور عامر: ناقد محترف وأديب مرموق لهُ إصدارات نقدية وأدبية، يواكب الحركة الثقافية والسياسة منذُ عقود.
• إعادة نشر المقال بمناسبة صدور الطّبعة التّاسعة “المجنون والبحر” بالعربيّة والانجليزيّة 2022.
• كما تمَّ تسجيل المجنون والبحر في مكتبة المنارة العالميَّة بصوت الإعلاميّة القديرة فادية نحّاس.
• لوحة الغلاف والرّسومات الدَّاخليّة للرَّسّامة الرَّائعة – هيام يوسف مصطفى… الإصدار الأخير بالاشتراك مع الرّسامة الأردنية آلاء مرتيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة