الكتابة الأدبيّة عن المحرَّمات موضوعٌ قديم مُتَجدِّد

بقلم: د. كلارا سروجي-شجراوي

تاريخ النشر: 18/06/22 | 8:03

قراءة في كتاب “في بوتقة الثالوث المحرّم- الكاتبة الخليجية بين الأدب النسوي وأدب السجون “-
د. لينا الشيخ حشمة

أبارك للصديقة الغالية الدكتورة لينا الشيخ حشمة على إصدارها لكتابها الجديد الضخم “في بوتقة الثالوث المحرَّم – الكاتبة الخليجيّة بين الأدب النسوي وأدب السجون” عن دار الشامل للنشر والتوزيع في الأردن وفلسطين.
لفتَت نظري صورةُ الغلاف السورياليّة بامتياز، حيث يصعُب على المشاهِد تحليلُها، إنّما هي تنقُل إحساسًا غريبًا فقد ظهرت لي رؤوسٌ ثلاثة ليس لها معالمُ واضحة، تُخرج رؤوسَها بقوّة من داخل صندوق. إلّا أنّها، وبشكل يخالف المألوف والمتوقَّع، تبدو سائلة على جوانب الصندوق. اللون الأصفر يغلب على الغلاف كما على اللوحة، خالطه لونان أساسيّان هما الأخضر والليلكيّ المائل أحيانًا إلى البنّيّ؛ ألوان قد تناغمت معًا لتزعزعَ إحساس المشاهد، فهي في ذات الوقت تمنحه شعورًا بظهور المخبَّأ.. المستور.. أو العيب الممنوع فيفرح، ولكنّه يحزن في نفس الوقت من هَول ما يُكشَف من أمور. ولا تستقرّ عواطفُ المشاهِد أو تخيّلاتُه إلّا بعد أن يتجرّأ على القراءة عن الممنوعات والمحرّمات في الأدب، وتحديدًا ما تكتبه المرأة الخليجيّة التي تعيش ضمن حصارٍ من التقاليد والأعراف والقوانين الظالمة.
تُشبه الرواياتُ التي تُكتَب عن الممنوعات أو المحرّمات صندوقَ ﭘﺎندورا الذي يَنفتح فجأة أمام القرّاء لتظهر أمامهم سيّئاتُ الواقع وعيوبُه في دائرة الأسرة والعملِ والعلاقاتِ بين المواطنين وأصحاب السلطة والقيادات الدينيّة. هي حكايات تزعزع القرّاءَ لأنّها تذكّرهم بأحداث خاصّة في حياتهم، أو تجعلهم يواجهون ذاتهم الحقيقيّة التي أرادوا دومًا طمسها لأنّهم يخجلون منها.
لقد تربّينا في طفولتنا على القصص الخياليّة والخرافيّة التي تتصارع فيها قوى الخير مع الشرّ والظلم، لتكونَ الغلبةُ دائما للبطل الذي يمثّل الشهامة والكرامة والخيرَ والجمال. أراحتنا مثلُ هذه الحكايات، تمامًا كما أنّنا نسعد عند مشاهدتنا لأحداث فيلمٍ ينتهي نهاية سعيدة. لذلك، تزعجنا تلك الرّوايات التي قد تمدح الخصمَ السّياسيّ مثلا، أو تصف علاقة محرّمة بين أب وابنته، أو تصوّر النزاعَ الطائفيّ الدينيّ مع ميل واضح لأحد الأطراف المتنازعة، أو تسخر من رموز دينيّة أو من شخصيّات قياديّة لها بصمتُها الخاصّة في التاريخ، أو تصف مشاهدَ جنسيّة بشكل صريح. مثلُ هذه الروايات تزعجنا، وقد نرفضها أو ننتقدها بشدّة لأنّنا لا نريد كشفَ المستور منذ قرون طويلة، بل نجتهد في إبقائه مقموعًا.
في اختيارها لِعيّنة مُمَثِّلة من الرّوايات النسويّة (مثل أعمال ليلى العثمان وبثينة العيسى وفوزيّة رشيد وغيرهن)، تبيّن الدكتورة لينا في تحليلها لهذه الأعمال عَمّا تعانيه المرأةُ من قمع قد يصل إلى المحاكمة والسّجن أو التهجير أو التكفير ومنع النشر، لأنّ المرأة تحديدًا قد اخترقت الثالوثَ المحرَّم بشجاعة تُرعب المجتمع الذكوريّ، وذلك عندما تتحدّى ثلاثة أشكالٍ للرقابة على الأدب: السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة. فكانت هذه الأعمال كشفًا للمجتمع الخليجيّ بقيوده الدينيّة، وبأعرافه الاجتماعية حول ما هو مقبول وغير مقبول في علاقات العشق بين الرّجل والمرأة مثلا، أو انتقاد للمؤسّسة الدينيّة المسيطرة. هكذا تتحوّل كتابة المرأة إلى “فعل انتقام ومحاسبة وتمرّد وإدانة للسلطات من جهة، كما تُمسي اكتناهًا للذات وآليّة للانسحاب من أسر الماضي (…) نحوَ مستقبل حُلمي تصنعه لهفة الخلاص من جهة ثانية” (ص. 70).
لقد مهّدت الباحثة لدراستها بفصل تناولَ ملامحَ الأدب النسوي ومراحلَ تطوّرِه بشكل عام، ثمّ درست تطوّره عند المرأة الخليجيّة بشكل خاصّ. كما بيّنت ما يميّز الكتابة النسويّة من مضامينَ وتقنياتٍ سرديّةٍ جماليّة خاصّة، مثل هيمنة الشخصيّة الأنثويّة والميتاقص، وتيّار الوعي والتناص، واستخدام الحُلم، وتقديم صورة عن الرجل القامع والسجّان بشتّى الأشكال، وأحوال السجينات النفسيّة، وغير ذلك من خصائص مُميِّزة — لتقومَ بتوضيح كلّ ذلك بشكل مفصّل وبأسلوب تطبيقيّ على الروايات قيد البحث، في الفصلين الرابع والخامس. أعتبر هذين الفصلين من أهمّ الفصول لأنّهما يشكّلان خارطة طريق مُوجِّهة لِكلّ مَن يريد دراسة أعمال المرأة الروائيّة ذات التوجُّه الحداثيّ بشكل عامّ. فالمرأة الكاتبة “لم تقتصر ثورتها على المضامين، بل شملت التقنياتِ الفنيّةَ والأسلوبيّةَ بهدف تقويض النظريّة الأدبيّة الذكوريّة وتأسيس أعراف أدبيّة جديدة خاصة بها” (ص. 423).
أعجبني تأكيدُ الباحثة على أنّ مصطلح “الأدب النسوي” الذي تخجل منه أو تتنكر له وترفضه بعضُ الأديبات كأنّه وصمة عار، وأذكر من بينهنّ الكاتبة الجزائريّة أحلام مستغانمي – لا ينتقص من جماليّة أدب المرأة أو يشير إلى دونيّته، بل على العكس قد يتفوّق على ما يكتبه الرجل في مرّات كثيرة. هنا أشير إلى أنّ الأدب النسوي الحديث هو أدب إنسانيّ في الأساس، لا يقتصر فقط على هموم المرأة الخاصّة أو يتناول ما له علاقة بجسدها بيولوجيّا، بل هو أدب حُرّ يتناول مختلف قضايا المجتمع بخصوصيّته وبمعاناته الوجوديّة على مختلف الأصعدة. وبالتالي، لا انفصالَ بين الهَمّ الذاتيّ عن الهَمّ العامّ.
تؤسِّس الدكتورة لينا لمفهومٍ جديدٍ هو “أدب السجون النسوي”، لِما بين هذين الجنسين الأدبيّين من تعالُق وارتباط. من هنا يجمع هذا المفهوم بين ما يُكتَب في السجن الحقيقيّ وما يكتب بين جدران سجنٍ مجازيّ معنويّ أكثر فظاعة، فهو غير مُحدَّد المدّة، بل مستمرّ طالما أنّ الرّقابة الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة موجودة. فالنظام يخشى المثقفين الرجال ويقمعهم، ولذلك من الطبيعيّ ألّا يهادن مع الجنس اللطيف الذي لا يحقّ له أصلا الاعتراضَ وانتهاك المحظور الذي حدّدته السلطة الذكوريّة ذاتُ الطابع المقدَّس بأشكال مختلفة.
يقول الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي: “إنّ أفضل السُّبل كي تُحافظ على عدم هروبِ سجينٍ أن تجعله لا يُدرِك أبدًا أنّه داخلَ سِجن”. وبالتالي، فإنّ تلك النسوة الكاتبات في الخليج العربي على الأخصّ، قد وصلن بعد أن نِلن ثقافة كنّا قد حُرِمن منها طويلا، إلى إدراك أنّ مجتمعهنّ يُشكّل سجنًا كبيرًا لهُنّ، فاخترنَ الكتابةَ طريقًا للثورة، والتي على ما يبدو هي الأسلوب الوحيد المُتاح للمهمّشين والضعفاء والمقهورين.
بطبيعة الحال هناك قواسم مشتركة بين ما يكتبه الرجل المقموع، المأزوم في كتاباته عن السجن، وما تكتبه المرأة عند تناولها للسجن بمعناه الحقيقيّ أو المجازي. ولذلك تَعتبر الباحثة لينا أنّ ما يُكتب في هذا المجال، بشكل عام، هو فِعل محاسبة وبَوح وفضح وتطهير للذات من درائن المجتمع، ومحاولة للتحرّر من كل قيود الأسر.
يجب التنويه أنّ لجوء الباحثة للمنهج السيميائي الذي يعمل على فكّ شيفرات النصّ الأدبيّ وكشف دلالاته برهافة وشفافية، دونَ إنكارِ الجانب الحواري التواصلي للأدب مع جمهور القرّاء قد فتح لها الباب على مصراعيه للكشف عن خصوصيّة كلّ عمل من الأعمال التي تناولتها، بحسب تقسيمها للمضامين والتقنيّات، فبيّنت الاختلافاتِ إلى جانب القواسم المشتركة لروايات الكاتبة الخليجيّة.
أسلوب الدكتورة لينا واضح، سَلِس، يبتعد عن جفاف النظريّات النقديّة، ولكنّه يحافظ في الوقت ذاته على عُمق الطرح والتحليل. لذلك، يصلح للقرّاء المتخصّصين في الأدب كما يصلح لجمهور القرّاء الواسع، ويكشف عن طبيعة المجتمع الخليجيّ من وجهة نظر أنثويّة.
أجد بأنّ قضيّة اجتياز الخطوط الحمراء للمحرّمات لها علاقة وثيقة بمجتمع الجمهور المتلقّي الذي له أعرافُه وتقاليده الخاصّة، كما أنّ ذلك لا ينفصل عن الفترة الزمنيّة والمكانيّة التي يتمّ فيها إشهار العمل الأدبيّ. على سبيل المثال، تمّت محاكمة الكاتب الفرنسيّ جوستاف فلوبير بسبب روايته “مدام بوفاري” (1857) (Madame Bovary) واتّهمه المدّعي العام بأنّه يشجّع الزّنا ويحرّض على عدم الوفاء للزوج، وذلك بسبب تعاطف فلوبير مع إيما بوفاري ((Emma Bovary حين يتكلّم عن فرحتها بوجود حبيب في حياتها (ليس زوجها)، وأنّها أخيرا ستختبر مُتع الحبّ وملذاته، وستعبّ من تلك السعادة المحمومة. هذه الرواية أخرجت القراء (في عصر فلوبير) من حالة اليقين بقيمهم الاجتماعيّة وزعزعت أحكامهم الأخلاقيّة.
مثال آخر، عندما ترجم أنطوان جالان ألف ليلة وليلة قام بحذف بعض المشاهد الجنسيّة مثل مشهد الحمّام في حكاية “الحمّال مع البنات” باعتبارها تخدش حياءَ القرّاء الفرنسيّين في ذلك الزمان وأقصد أوائل القرن الثامن عشر.
طبعا، هنا لا يجب أن ننسى محاكمة ألف ليلة وليلة في مصر عام 1985 والمطالبة بحرقها في ميدان التحرير وحظر بيعها في المكتبات وذلك لأنّها تتضمّن عباراتٍ ومفردات جنسيّة إباحيّة. يبدو لي أنّهم قد غاب عنهم ما هو أخطر من ذلك في هذه الحكايات التي أنتجتها المخيّلة الشعبيّة، وذلك حين انتقدت السلطة الحاكمة واستهتارها في إحدى الحكايات عن “الأمين”، ابن الخليفة هارون الرّشيد. والأدهى من كلّ ذلك، عندما صُوِّر الخليفة ذاته (في حكاية هارون الرشيد وأبو يوسف) بأنّه لا يستطيع النوم بسبب اشتهائه لإحدى الجاريات الحسناوات التي اشتراها وزيره جعفر البرمكي ورفض أن يهبها للخليفة، فطلب الرشيد حضور القاضي “أبو يوسف” في منتصف الليل لإيجاد حَل. والحكاية مليئة بعبارات فيها تهكّم واضح كأن يقول القاضي في نفسه: “ما طُلبتُ في هذا الوقت إلّا لأمر حدث في الإسلام”، ولنشهد في الحَلّ تعاوُنًا ما بين السلطة الدينيّة والقضائيّة والسلطة الحاكمة، فيها تحايل واضح على الدين.
قد تكون الرّقابة على النصوص إمّا بإعلان حظر الكِتاب وإدانة الكاتب أو الكاتبة، والّذي قد يؤدّي إلى نتيجة معاكسة لدى جمهور القرّاء، كما حدث مع كثير من الأدباء الفلسطينيّين، أو قد تستخدم الرّقابة حيلة أدهى عندما تتجاهل عَمدًا العملَ الأدبيّ مِمّا يجعل القرّاءَ لا يعيرونه أيّ اهتمام، وهذا أصعب بكثير من السجن والمحاكمة وحتّى التهجّم، لأنّ فيه دعوةً لوئد العمل الأدبيّ في المهد، وهذا ما يفسّر السكوتَ عن كثير من النصوص الأدبيّة الجيّدة.
بطبيعة الحال، المرأة الأديبة لا بُدّ أن تنال حكما أقسى في حال كتبت عن الحب والجنس والعنف والزّنا والاغتصاب ونقد المؤسّسة الدينيّة، فقد اعتُبر صوتها عورة لقرون طويلة، فما بالها تتجرأ اليوم وتكشف المستور وتكتب عنه بجرأة بالغة؟
هناك طبعًا الكثير من الكاتبات في العالم العربي اللاتي أثبتنَ أنفسهن محلّيًا وعالميّا عندما قرّرن اعتمادَ كشفِ المحظورات أمثال الكاتبة المصريّة نوال السعداوي (كما في روايتها “جنّات وإبليس”)، وكاتبة رواية “صمت الفراشات” الكويتيّة ليلى العثمان، والكاتبة اللبنانيّة حنان الشيخ (على الأخصّ في روايتها “عذارى لندنستان”) وكاتبة “برهان العسل” السوريّة سلوى النعيمي وغيرهنّ كثيرات. مقابل كلّ هؤلاء نجد أنّ تهمة الكاتبة الجزائريّة أحلام مستغانمي مختلفة، وذلك لتميّزها على الصّعيد اللغوي، بشكل خاصّ، فتمّ التشكيك بأنّها هي بالفعل التي كتبت روايتها “ذاكرة الجسد”.
أختتم كلامي بعبارة للكاتبة العراقيّة عالية ممدوح جاءت في روايتها “المحبوبات”: “من الجائز أن يكون الرّقصُ عنفوانَ الشعوب الضعيفة”. في هذه الحال، لا أرى لنا نافذة أخرى غير الرّقص والغناء على أنغام كلمات أوجاعنا ومتاهتنا الوجوديّة والإنسانية.
مبارك للدكتورة لينا مع تمنياتي لها بمزيد من العطاء الرّاقي.
(ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 26/05/2022.)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة