وقفة مع زناطم الشاعر أحمد حسين

تاريخ النشر: 24/10/11 | 0:35

«لا تنصتوا للشاعر الأعمى فإنَّ الأرضَ تسكنُ إسمَه غصباً»

–        لأن «الفلاشا» يحرثون الأرض حول أبي!

 قلم: سامي ادريس

  من دفتر الذكريات :

 لو تعرفون كم كنتُ قريباً منكم،حينما كنتُ أُعلّم في تلك القرية المعلقة على سفح الجبل، إنها مصمص، تلك القرية التي تحيط بها هالة من الرهبة والخشوع اجلالاً للراحل راشد حسين. وقد “مصمصتني” بزعترها الجبليِّ، وسحرتني بنسيمها العليل، ودماثة أهلها وطيب معدنهم، حتى كِدتُ أنتقل للسكن فيها، وأترك طيبتي الغالية. هذا، ولستُ في طريقي لكتابة ذكرياتي المثيرة المشردة، ولكنني أنتشلُ من بئرها السحيقة بعض المياه الشتوية، لأقدمها لكم في كؤوس من عبير.

وقد ذكرتني قصيدة الصديق العزيز الشاعر أحمد حسين بما مضى ، وأثارت في النفس لواعج الذكريات.

وعليكم أن تتحملوا هذه  المقدمة الطويلة ، فمن المقدمات ما تكون هي الأساس، فحين تقرّر نفيي الى مصمص يممت شطرها بعد أذان الفجر بقليل، وعندما نزلت على الشارع الرئيسي ، بدأتُ رحلة الصعود الحاد الى المدرسة الجاثمة في قمة الجبل الذي يرتفع 1203 أقدام عن سطح البحر، وفي الطريق أنهكني التعب وأنا أضع يدي وراء ظهري محاولاً سنده عبثاً، فأخذت في لعن اليوم الذي التحقتُ فيه بدار المعلمين،ولم يسلم من لعناتي مديرها ومدير المعارف الذي أمر بنقلي الى هذه القرية النائية عقاباً لي على بيتين من الشعر هما:

” وقد ربطتم لنا في القُدسِ نافرَكم   إن رقّّ ينقلنا أو عقَّ ينفينا “

” ” عامَ” الزمانُ فأصبحتُمْ أساتذةً       لكنْ ” بِغرقتهِ” صِرتمْ مديرينا ”

استقبلني أبو لؤي مهنئاً بسلامة الوصول ومشيراً الى مسؤول القهوة والشاي أن أَعدوا له كأس شاي حتى يلتقط أنفاسة ، بينما تابع هو لفَّ سيجارته العربية ملصقاً اياها بلعاب لسانه. بعدها عرفتُ أنه إذا ورد المدرسة، وجلس على مقعده ، فإنه لا يغادره الى نهاية الدوام. وبعدها اكتشفت كم هو انسان طيب الى أبعد الحدود. بعدها قدم الى الغرفة أبو شادي ” أحمد حسين” فعرفني به قائلاً :  هذا شاعرنا وأديبنا وقلعتنا الحصينة” ومن يومها صرتُ أحب التعليم للوصول الى هذه القرية المثيرة. وصاروا ينادونني بلقب ” أبو جبران” ، وقد سألني أبو شادي يوماً أنه إذا مَنَّ عاهل السماء عليك بولد فهل ستسميه جبران، وبالفعل عندما ولد البكر لم أتردد في تلبيسه هذا الاسم الجميل، ولكنه للحقيقة لا يوجد  تشابه بينه وبين جبران خليل جبران. وتمرُّ الأيام بحادثاتها التي لا يمكن البوح بها كلها على صفحات العلن، لذاكم استميحكم عذراً… إلى جولة أخرى…

القصيدة  ” الزناطم” : على طريقة أبي الطيب المتنبي

فدعوني أنتقل الى الشاعر والقصيدة المطولة التي كُتبت على طريقة أبي الطيب المتنبي. والزناطم لفظة غريبة مبتدعة، لعلها تعني في لغة يومنا البلطجية ، أو الشّبيحة وكل الدمى التي يستعملها السلطان بهدف كسر شوكة المواطنين الثائرين. وللكلمة قصة ظريفة أنتجها إمام من النوع الذي تُكتب له خطبة الجمعة فيقولها دون تفكير، وقد كتبوا له : ” الزِّنا  طمَّ ” أي أن الزنا تفشى وانتشر بين العباد، فما كان من الشيخ إلا أن قال ايها المؤمنون ألا لعنة اللهِ على الزناطم ، دون أن يفهم لها معنى.

وهي على طريقة أبي الطيب المتنبي لأن فيها أبياتاً تشبه أبيات المتنبي الشهيرة

وسآتي عليها لاحقاً.

وأحمد حسين ، كما عهدتموه، لا يأبه للتعتيم الاعلامي المفروض عليه وعلى زمرة من شعرائنا الأحرار، ويؤمن أن البقاء للكلمة الصادقة، وأن سفهاء الكلام وأدباء السلطان الذين يتلاعبون بالألفاظ الوطنية تلاعباً شكلياً ليكسبهم الشهرة الممجوجة، سيظلون على هامش التاريخ، لا يكاد مثقفونا يذكرون كلمة من نثرهم أو بيتاً من الشعر سطروه بتكلف لا يمت الى الشعر الحقيقي باي صلة. ويتنافسون فيما بينهم على المناصب التي يتصدق بها السلطان عليهم. وظل أحمد حسين في الظل في قريته الجبلية الشامخة، بينما هم ينهشون جثة الأدب بأظفارهم وأسنانهم . الأمر الذي حدا بأحدهم الى القول:

” أحمد حسين أديب من أدبائنا لا يتميز بأي ميزة خاصة تجعله شهيدًا،وقد عاش أحمد ما عاش وهو معلم في مدرسة قريته(مصمص) الابتدائية،ولا يكاد يدري به أحد أنه شاعر…” . عذراً يا صاحب الكلام، ولو كنت مكان أبي شادي لما ألقمتك حتى حجراً ، فإنك تساهم في التعتيم على شيخ شعرائنا واعظم الشعراء على المستوى العربي عامةً، وإذا كان لا يعجبك هذا القول فاقرا ” زناطم” لتسمع المتنبي والجواهري من بعده يصرخان من قمقم هذا الشعر،أم أنك من زمرة المطبلين للسلطان؟  وسآتي على جماليات الابداع في القصيدة لاحقاً. كيف لا وهو القائل:

لماذا مزّقتْ روحَك القصائدُ حول «ريتا»؟

– لأن «الفلاشا» يحرثون الأرض حول أبي!

ولستُ بحاجة للإشارة الى المعاني التي تقبع خلف هذا الشعر! فقد تكلم بما نحسه كلنا على جلودنا…

النقاش الحاد بين أحمد حسين ومحمود درويش

وهو القائل الذي لا يتردد لحظة في أن يقول ما يحس به وبكل قساوة لا هوادة فيها ، فلا مهادنة في جهنم:

«لا تنصتوا للشاعر الأعمى فإن الأرض تسكن إسمه غصباً»،وهو يقصد بالشاعر الاعمى محمود درويش، ويقصد موقفه  السياسي والفكري ، ويجب أن نلاحظ  أن أحمد حسين هو الشاعر الوحيد الذي لم يتزلف لمحمود درويش، وقال بأعلى صوته ما يُملي عليه وجدانه واعتقاده، ولم يتعربش على العربه الدرويشية ويختم لها بالعشرة، دون أي مناقشة، حتى ليصل الأمر الى تقديس الشخصية، فيتفاخر بقربه من السُّدة والحضرة الدرويشية المعظمة. لكن أحمد حسين يصف درويش بأنه ” شُرفة إبداعية عالية”

وهو يوضح موقفه منه بهذه الكلمات:

” إن نقاشي مع محمود هو صدام سياسيّ وفكريّ محض، يقع خارج قضية الإبداع. أستطيع بسهولة أن أقرّ لمحمود بالصدارة الإبداعية، ولكن وجع الالتزام الذي أحمله يجعل من المستحيل عليّ أن أتجاوز له أو لغيره عن أية حادثة مساس بصورة هذا الالتزام. وموقفي من محمود هو موقفي من المرحلة أصلاً، وهي مرحلة بلغ بها تدنّي المواقف السياسية والثقافية حدّ الفجور والموافقة على تدمير الذات الوطنية نيابة عن النقيض…”

أحمد حسين وجد نفسه مديناً لمواصلة مشروع أخيه راشد الملتزم، فسار في هذا الدرب الوعر.

وقال في رثائه:

جــدّدت عـــهـــدك والـــعــهــود وفــاء               إنا على دربِ الكفاح سواءُ        

نــــم فــــي ثــراك فلـــست أول عـاشق              قتلته أعينُ أرضه النجلاءُ

اسمعوا معي راشد حسين، فكأنما هو بيننا اليوم يرى ويسمع كيف تتهاوى عروش الطغاة أمام ارادة الشعوب:

إذا ثار شعبٌ فاسجدوا عند نعلهِ…   لتحصُدَ كفُ الثائرينَ الجماجما

ونادوا إذا شئتم حليفاً مجنّحاً …    ليرجع زحافاً على الوجهِ لاطِما

ألم تروا الطوفان في أرضِ دجلةٍ… يفُكُ عن المجدِ السجينِ الطلاسِما ؟

ألم تروا الأوثان كيف تحطَّمَت….   فُتاتا وقد حلّلنَ أمسِ المحارِما ؟

تمرَّدَ شعبي كالبراكين ناقماً….      وأودَعَ عرشَ الخائنينَ القماقِما

وألقى إلى مستنقع العارِ عِزَّهم ….    ورصّعَ تاريخَ العراقِ مكارِما

وهشَّمَ مجدَ “الهاشميينََ ” زِندُه ….   ليبني مجداً ثائراً لا مساوِما

يقولونَ في عمانَ مسخٌ مراهقٌ ….تشدَّق أن يضحي لبغدادَ حاكِما

غرابٌ يغني فاضحكي يا نسورَنا…. ويا سيفَنا افطرْ اذا كنتَ صائماً

 وأحمد حسين هو صاحب القصيدة الملحمية ” عنات” وهو اسم لربة كنعانية، إلهة الخصب، والحب، والحرب معاً، وهو يهديها الى أخيه راشد ، وعبد الرحيم محمود.ويقول فيها:

سبقتُ إليكَ الحزنَ بالحزنِ باكيا     وكذّبتُ أفراحاً، وصدّقتُ ناعيا

ستخرجُ من حيفا لأنكَ عاشقٌ    وتمشي علي عصرٍ من النّارِ حافيا

تزيدكَ حباً كلّما ازددتَ لوعةًً       وتذكرُها حتي ولو كنتَ ناسيا

تغادرُ طفلاً ساحةَ الدار عارياً   ً وتركض بين البحر والبحر عاريا

أما الزناطم ، فلا شك عندي أنها من أعظم القصائد المنظومة على أسلوب المتنبي والجواهري :

الفُرْسُ والتّركُ والألبانُ سادتنا    والسودُ والشُّقرُ والخِصيانُ والخَدَمُ

وهذا البيت يأتي على غرار بيت المتنبي الشهير:

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني      والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

وهي على نفس البحر الشعري ونفس القافية

يا زنطمَ العصرِ بادتْ أُمّةٌ كشفتْ  وجهَ النهارِ، ووارتْ وجهها الظُلَمُ

ماذا تريدُ صلاةُ الفجرِ من مُدُنٍ       لا تبصرُ الضوءَ إلا حين تنهدمُ

ثم ينتقل الى وصف العواصم العربية وما يحدث فيها من تخاذل ، ويقول لمصر:

يا أهلَ مصرَ لنا في مصركم جَدَثٌ   ما زالَ يحمله في سرهِ الشممُ

لا تقرأوا عنده شيئاً فإنَّ بهِ          مما بكم لوعةٌ يبكي لها الهرمُ

وهو يقصد بهذا الجدث ، جدث عبدالناصر

ويقول في أرض بلادنا :

أرضُ المواعيدِِ هل غنّتْ بلابلها     ومالَ كالغصنِ في أنحائها النغمُ

كم مدتِ الروحُ عن بُعدٍ رسائلها        وأوشكَ الشملُ بالتذكارِ يلتئمُ

عصفورةٌ روّعتْ عن عشها زمناً   لا الروع باقٍ، ولا الأعشاشُ تنهدمُ

واليومَ لا الروحُ تدنو من نوافذها          ولا يحاولها في ليلنا حُلُمُ

ويأتيك على غرار المتنبي بالحكمة إذ يقول :

واتركْ لغيرِكَ شأناً لستَ صاحبَهُ    تمشي الحذاءُ الى ما ترغب القدمُ

ولنا جولة أخرى مع زناطم أحمد حسن، فإلى لقاء.

 

 

 

‫5 تعليقات

  1. الشكر كل الشكر للاخ الشاعر الاديب سامي ادريس ومع حبي وتمنياتي لاعز معلم لغه عربيه علمني للاستاذ احمد حسين ( ابو شادي ) اطال الله عمره بالصحه والعافيه :: لكن اخي سامي كان ليسعدني ان تنشر قصيدته التي كتبها لصدام حسين قصيده نشرت باحدى الصحف المحليه لمره واحده ” بودي ان اضيف ان الاستاذ احمد حسين يحب الصراحه شديد جداكان يخافه الطلاب وانا منهم لا يحب الكذب والمداهنه شخصبه قويه وطينه رائع جدا الان اعلم من هو لكن عندما كان يعلمني لم اكن احبه بصراحه والان هو من اعزالناس واحبهم الي وانا اؤكد ان كل من علمه هذا الرجل ذو شخصيه قويه يعود الفضل لك استاذي ولامثالك وسلمت يداك التي اشبعتنا (كفوف وشلاليط) لولاك انت وامثالك الاخيار ما كنا نساوي شي بهذا المجتمع تحياتي لك وللاخ العزيز سامي ادريس ولكم مني جزيل الشكر

  2. لقد ابدعت ايها العزيز استاذ سامي ادريس بما تفضلت به من ذكريات عزيزة ، ولا تزال مصمص تتذكر اياديك البيضاء وتشتاق لك . فكل التحية والتقدير ، وهل ما زلت تمارس التعليم ؟ ومرحباً بعودتك الى حديقة الادب ، وانت احد زنابقها .

  3. أشكر الأخ الشاعر قاسم محاميد على ما تفضل به،وجزيل الشكر للأخ الكاتب شاكر فريد حسن . إن أبا شادي عزيز علينا ، وما هذه الا قطرة من بحر أفضاله، وأنا أعتبر مصمص أجمل محطة في تاريخ ذكرياتي، وربما لو وجدتُ تجاوباً من قبل الجمهور لتابعت الحكاية .. أرجو أن تصل المقالة الى مسامع ابي شادي فترتسم على محياه تلك الابتسامة المعروفة .. كما أرجو أن يثير الموضوع كل من علم في مصمص في تلك السنوات السِّمان بالذكريات .
    لقد أنهيت التعليم هذا العام، لعلها تكون فاتحة وفتحاً مباركاً على الأدب

  4. تحياتي من القلب للاديب والشاعر الاستا ذ سامي ادريس(لما ترى ان لا تجاوب من الجمهور؟ ثم اني ارجو من حضرتك المتابعه فهذه ليست حكايه بل واقع فالاستاذ احمد حسين ابو شادي قمه بالاخلاق والشعر ويستحق ان تنشر مشاعره وشعره على كل موقع حتى يقرءاها الشباب ويتعلموا من فكره اعلم بانه رجل معطاء وكبير الشان عندي ” استاذ سامي اذا كان عندك مشكله بالتواصل مع الاستاذ احمد باستطاعتي ان اصله وازوره في بيته واطلب منه ما تشاء اي بامكاني المساعده بما تريد وارجو ان تكمل هذه الرساله دمت بالف وحياك الله ثم اني اقدم لك اجمل التهاني بمناسبه التقاعد ( وقرعقة لولاد)

  5. [email protected]

    أرجو من الأخ قاسم محاميد كتابة بريده الالكتروني للتواصل من أجل تنسيق زيارة لأديبنا أحمد حسين أنا والشاعر احمد سلامة برفقتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة