رفيقة عثمان: رواية “مدينة الله” والحضارة التي تستحق الحياة

تاريخ النشر: 16/08/21 | 12:03

صدرت رواية “مدينة الله” للأديب حسن حميد عن الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله، لعام 2021. احتوت الرّواية على ثلاث مئة وخمسة وثلاثين صفحة.

قدّمت هذه الرّواية سردًا شيّقًا؛ لحياة الفلسطينيين وخاصّةً في مدينة القدس، حيث وصفت حياتهم اليوميّة السيّاسيّة، ومعاناتهم في ظل الاحتلال، كما وصف الكاتب حياتهم الاجتماعيّة، والاقتصاديّة لنفس المرحلة.

لعب المكان دورًا هامّا في أحداث الرّواية، وحضور القدس بارز للعيان، ومن الممكن استنباط الزّمان وهو طوال فترة الاحتلال، وخاصّةً بعد عمليات الحفر للأنفاق في مدينة القدس، واستمرار عمليّات الاستيطان في فلسطين.

نجح الكاتب في الوصف الدّقيق لحياة الفلسطسنيين بكافّة التفاصيل، خاصّة الصّراعات والصّدامات الدّائرة والمواجهة بين المواطنين الفلسطينيين والجنود على الحواجز والمعابر.

أبدع وصف المعاناة الفلسطينيّة اليوميّة وانعكاساتها على حياته اليوميّة، من خلال مشاهدات الراوي شبه اليوميّة عند مراقبته لها أثناء جلوسه في مقهى أبو العبد قرب حاجز قلنديا؛ ومن خلال حواره مع أحد الأسرى عباس الياسين، والدّليل فرج، والمرافق جو، ومن خلال جولاته المتكرّرة وزياراته لبععض السّكان الأصليين.

بينما ظهر جهل للأبعاد المكانيّة والمسافات الزّمنيّة، والتي ظهرت جليّا عند ذكر الكاتب لأسماء الأماكن التي تنقّل فيها البطل “فلاديمير” خلال فترات زمنيّة محدودة بين أماكن بعيدة، وخارج مدينة القدس بعيدة وتحتاج لساعتين سفر في سيّارة؛ للوصول الى شمالي فلسطين التّاريخيّة. بينما البطل سافر عبرعربة الحوذي جو.

ظهر في رواية “مدينة الله” التكرار جليّا عند وصف الأحداث ذاتها خلال النصوص كافّة، اعتقد بأنّ الراوي وظّف ظاهرة ” الموتيف Motive – أي ظاهرة التكرار في الأدب بمعنى “الدّالة وهي عبارة عن حدث أو موقف أو فكرة نمطيّة أو عبارة لغويّة أو نمط معيّن مماثلا ومتكرّرا في شتّى الأعمال الأدبيّة، وظيفته أن يثير حالة قد تؤدّي الى التّعرّف والكشف أو يكون شاهدا ورمزا على وضع معيّن” ويكبيديا.

في هذه الرواية وردت عبارات ” البغال – البغالة – الكلاب المتوحّشة – سيّارات الصّفيح” تكرّرت هذ العبارت مرّات عديدة لا حصر لها؛ تعبيرًا عن وجود الجنود المُعتدين، وكلابهم، وسيّاراتهم المصفّحة، والمُتسبّبة في تعكير صفو حياة الفلسطينيين اليوميّة، عند التفتيش وفحص الهويّات والتصاريح للداخلين والخارجين من مدينة القدس.

هذا الموتيف يرمز لأهميّة الموضوع الشائك في نفسيّة الكاتب، ورغب الكاتب أن يكون شاهدا ورمزا على هذا الوضع المؤلم. لذكر أمثال أخرى. كما ورد في نهاية كل رسالة ملاحظة من البطل “فلاديمير” لصديقه، يخبره عن مشاعره وتساؤلاته لمواقف معيّنة، ومشيرا إليه ان يراسله، وهو قلق عليه من عدم المُراسلة. أوردت مثالين فقط، لأنوع التّكرار أو الموتيف في الرواية، وهنالك متّسع لذكرعدّة أحداث ومواقف.

تحدّث الرّاوي عن عادات وتقاليد تخص الشّعب اليهودي بالتّفصيل؛ منها ما هو متّبع حتّى الآن ومنها ما اندثر، كذلك تطرّق حول معتقداتهم وأحلامهم ومخاوفهم، وعلاقاتهم؛ وكيفيّة انعكاساتها على حياة المواطنين الفلسطينيين.

اختار الكاتب شخصيّات لرّواية؛ لملاءمتها لأحداث الرّواية: الشخصيّة الرئيسيّة: السيد فلاديمير – وهو سائح روسي، حضر الى فلسطين؛ ليتعرّف عليها، بعد وفاة زوجنه رشيدة فلسطينيّة الأصل من عكّا.

الشخصيّة الثانية: السيّد جو وهوالحوذي المرافق – الشخصيّة الثالثة: سيلفا صديقة فلاديمير اليهوديّة، والتي انكشفت بأنّها تعمل في سجّانة داخل السّجن في المسكوبيّة؟

والشخصيّة الثّالثة: شخصيّة الدّليل فرج.- شخصيّة أم هارون.

من خلال استخدام تلك الشّخصيات، حرّك الكاتب الأحداث عن طريق الحوار الدّائم بين البطل “فلاديمير” ومرافقه الحوذي جو، كما أنّه استخدم الحوار الذّاتي خلال السّرد.

من قراءتي للرّواية اعتقد بأنّ زواج فلاديمير من رشيدة غير مقنع للقارئ إلى حدّ ما، كما أن ّعلاقة سيلفا مع البطل فلاديميرغيرمقنعة تماما؛ وذلك لطبيعة عمل سيلفا في السّجن وما تقوم بها من أعمال تنكيل وتعذيب للأسرى الفلسطينيين داخل السّجن، بنفس الوقت الذي يُظهر فيها فلاديمير تعاطفا قويّا مع القضيّة ، ومع معاناتهم في ظل الاحتلال، ولم تظهر علامات الصّراع النّفسي للبطل من طبيعة التناقضات القويّة لهذه العلاقة، خاصّةً بعد ان اكتشف طبيعة عملها الإجرامي. ظهر الصّراع عند نهاية الرواية تقريبًا، بعد أن التقى فلاديمير بفتاة أرمنيّة واسمها ميرنا، كانت تسقي السيّاح الشراب عند دخولهم ساحة القيامة، فأحبّ مظهرها!

اعتمد الكاتب في التقنيّة الفنيّة للأسلوب في الرّواية، تقنيّة الاسترجاع الفنّي – الفلاش باك (Flashback)؛ وذلك بواسطة استخدام الرسائل المُتراكمة، والمُرسلة من قِبل فلاديمير، لصديقه خارج البلاد (روسيا)؛ وهذه الرسائل احتجزتها موظّفة البريد، وأودعتها قبل وفاتها عند أحد الأصدقاء، والّذي بدوره نشرها في صفحات هذه الرّواية على لسان الرّاوي فلاديمير.

محتوى هذ الرسائل يصف زيارة فلاديمير لأماكن فلسطينيّة متعددة، القدس، وأريحا، والخليل، والرامة؛ حيث تكرّرت الزّيارات عدّة مرّات لنفس المكان، وخاصّةً في مدينة القدس.

بنظري كانت زيارت الأماكن خارج القدس إضافة غير موفّقة؛ حيث أثقلت على السّرد من ناحية الوصف والاستطراد فيه، حبّذا لوتقيّد الكاتب في مكان محدّد وهو القدس نفسها؛ للتّركيز على أحداثها، وذكر أماكنها ومقدّساتها، وتراثها وما إلى ذلك، خصوصا أنّ الكاتب أطلق اسم الرّواية “مدينة الله” مدينة الأديان السّماويّة والمُقدّسات.

هذا الاستطراد أطال في عدد صفحات الرّواية، لتصل الى 330 صفحة، والتي تبعث الملل في نفس القارئ، خاصّةً عند تكرار الأحداث والوصف الموسّع للأماكن والأشخاص؛ وذكر تفاصيل لا حاجة لها، وعدم ذكرها لا يشوّه النصوص، مثالا على ذلك، عندما وصف الكاتب دكّانا زاره، فذكر كل محتوياته من الإبرة للخيط، وقس على ذلك لأماكن أخرى.

بإمكان الرّوائي اختصار الرّواية للنصف تماما، مع الاحتفاظ بكافّة عناصرها، دون التأثير عليها.

وصف الكاتب النساء الفلسطينيّات والمقدسيّات، بأوصاف جميلة جدّا كما ورد صفحة 78 في وصف النساء في بيت لحم ” النساء الطويلات الجميلات بأثوابهن المُطرّزة بخيوط ملوّنة من فتحة الصّدر وحتّى القدمين، نساء يمشين بأثواب كأنّها الألوان.”. كما وصف النساء في الخليل: ” ها هي النسوة بثيابهن المطرّزة ومناديل رؤوسهن المُلوّنة. تشدّني إليها (الخليل) الشّرفات الدانية سحرنا بأزهارها وأخشابها الملوّنة، والصّبايا الجميلات اللّواتي يجلسن فيها وكأنّهن أميرات في المقصورات، يحضرن عرضا مسرحيّا. أراهن يدرن البصر في كل الإتجاهات”.صفحة 112. في الوصف للنساء المقدسيّات ” ظهرت النّساء المقدسيّات بأثوابهن السّود المطرّزة، وهنّ يقفن في الشّرفات، بعضهن ينشرن الغسيل على الحبال، وبعضهن يسقين النباتات، وأخريات يشربن القهوة وينظرن إلينا”. صفحة 125.

من الوصف أعلاه والمُتكرّر في وصف المرأة من الشكل الخارجي، كما أبرزها الكاتب، ولم يتطرّق إلى فكرها ووجهات نظرها بطريقة عميقة! أعتقد أنّ محدودية الوصف اعتمدت على الشكل الخارجي؛ من وجهة نظر سائح أجنبي.

استخدم الروائي الخطاب بضمير الأنا للسارد أي الراوي، عن طريق بطل الرواية فلاديمير، وتدخل بسيط للروائي. هذه التقنية أدخلت الصّدق في سرد الرّواية؛ لكن هذا الاختيار للشخصيّة السّاردة أفقدت بعض التّفاصيل للقارئ الفلسطيني، ولم تقنعه بها كما لو كانت شخصيّة فلسطينيّة تسرد الأحداث من وجهة نظر حقيقيّة داخليّة؛ كما حدّت من وصف بعض الأماكن المقدّسة والرّموز الإسلاميّة، كما حدث عند زيارة السائح فلاديمير للحرم الإبراهيمي بالخليل، لم يصفه بدقّة، من الدّاخل والخارج، ونفس الأمر عند زيارة المسجد الأقصى بالقدس، على الرّغم من تكرارا الزّيارات للقدس.

اعتماد الكاتب على عامل الصّدفة في الرّواية، كما ورد عندما صعد فلاديمير درج سلوان، وأراد أن يضع يده على كتف الحوذي جو، وبالصدفة طلعت سيلفا من بين آلاف الأشخاص المحتشدين!؛ مثال آخر: عندما اكتشف فلاديمير بأنّ عشيقته الرّقيقة، كانت هي نفسها التي عذّبت عارف الياسين الّذي كان أسيرا في المعتقل، وقامت ببتر أصابع يده.

وردت أحداث آخرى للصدفة في نصوص الرّواية، حسب رأيي هذه الصدف المستصدفة لا تقنع القارئ بمصداقيتها؛ وإنّما هي من صنع خيال الكاتب.

يبدو اعتماد الكاتب على عرض معلومات توثيقيّة من خلال سرده، والتي احتلّت حيّزا لا بأس به، من تفاصيل، والتي من الممكن الاستعانة بها بمصادر علميّة، دون الحاجة لذكرها بالرّواية.

قام الكاتب بوصف عادات اليهود في طلب المطر، والّتي ظهرت في وضع القطن فوق مسامير؛ لطلب المطر، وكان التباس بتشبيهه في صلاة الاستقصاء عند المسلمين صفحة 282؛ حيث لا توجد مقارنة بينهما بتاتًا، الأولى اعتمدت على العادات والمعتقدات، بينما الثّانية اعتمدت على اتّباع تعاليم دينيّة إسلاميّة.

طغت على الرّواية عاطفة الحزن، وعاطفة الغرام، عاطفة الانتماء والمؤازرة للقضيّة الفلسطينيّة، كما ذكرت سابقا استخدمت العاطفة في الرّواية لأهدافٍ آنيّة تخدم مصلحة خاصّة في نفس كل بطل من أبطال الرّواية؛ فمنها عاطفة صادقة ومنها غير ذلك.

لغة الروائي انسيابيّة وجميلة، وتزخر باستخدام المحسّنات البديعيّة، والتي أضافت تشويقا للسرد؛ إلا أنه ظهر التكلُّف فيها.

تعتبر هذه الرّواية غنيّة جدّا بالأحداث وبالمعلومات والتفاصيل للأماكن، عن الحياة الاجتماعيّة، والسّياسيّة والاقتصاديّة في فلسطين؛ وهي تبعث الشوق والحنين في قلوب المغتربين في كافّة بقاع العالم، ولكل إنسان عربي يتوق لزيارتها وزيارة الأماكن المقدّسة، وخاصّة مدينة القدس أو “مدينة الله” كما أطلق عليها كاتبنا.

برأيي القيام بتقسيم الرّواية من قبل الروائي، الى ثلاثة أجزاء، يساهم في قراءاتها المتعدّدة وخاصّة عند طلّاب المدارس؛ لأهميّتها في التطرّق لحياة شاملة ومتكاملة؛ وأنصح باقتنائها وتوفيرها في كافّة مدارس العالم العربي. بل تعتبر هذه الرّواية أرشيفا لحضارة تستحق الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة