ختم الكبراء سيف على الرقاب رواية قنابل الثقوب السوداء

تاريخ النشر: 27/03/21 | 8:53

فور وصول جاك إلى مكتب رئيس وكالة ناسا الفضائيّة ناوله الخطاب، فتحه وهو يحدق في جاك، اتسعت عيناه دهشة من عبارات التوصية العريضة على جاك. عاود مجددًا التحديق في جاك، تفرسه جيدًا، فسقط في روعه إجلال للفتى، ثم ما لبث أن رحب به قائلاً: «مرحبًا بك يا فتى.»
– «مرحبًا بكَ سيدي الرئيس.»
– «أنت قريب الشبه جدًا بالطالب العبقري الذي يلقب نفسه بجاك الولايات المتحدة الأمريكية، أتعرفه؟»
– «أنا جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة.»
هلل بصوت عالٍ، ثم التزمه مرحبًا به أيما ترحيب، وقال له وهو يربت على كتفيه: «مرحبًا، مرحبًا يا جاك أمريكا، مرحبًا أيّها الفتى المحلّق دائمًا في السماء (يقصد ذكر بطولته في واقعة حريق الجامعة)، أنت تذكرني بفتى البركان الملثم.»
لم ينبس بكلمة، وآثر أن يتوارى عن الإعجاب بنفسه فلم يبح له بأنه هو فتى البركان الملثم.
قال رئيس ناسا: «أين زميلك المصري الذي أطفأ معك حريق الجامعة؟» لم يمهله وقتًا للإجابة وعاجله بسؤال فيه حسرة: «لماذا لم يأت معك بخطاب مثل هذا الخطاب؟ (يجز على أسنانه وهو يهز الخطاب بيده).»
أجابه جاك متحسرًا: «لقد ذهب إلى جنيف.» صمت لحظة ثم قال: «يريد مصادم الهادرونات الكبير.»
– «هذا الفتى سوف يكون له شأن كبير، دعك من هذا الحديث الآن وهيّا بنا كي أوصّلك إلى أمهر رائد فضاء عرفته ناسا حتى الآن.»
– «بكْ!»
– «نعم، بكْ أيّها الشقيّ.»
– «لكن، عفوًا سيدي، لا يليق بك ذلك، فأنتَ ما أنتَ أنت النجم الأكبر بين الكواكب، وأنا كوكبٌ صغير.»
ابتسمَ من قلبه قبل شفتيه ثمّ قال له: «هيّا، هيّا أيّها الكوكب.»
أقبلا على بكْ، وكان جالسًا فاعتدل، ثمّ وقف وانحنى لرئيس ناسا حبًا وتبجيلاً. فسلّم على بكْ ثم قال الرئيس: «خذْ هذا الكوكب الجاك ودرّبه، استودعته أمانة عندك.»
ردّ بكْ: «أعرفه، والله يا سيادة الرئيس كلّ عطاياك إلينا هدايا ثمينّة، ولكنّ هذا الذي أتيتني به لأعظم هديّة حزتها في حياتي.»
ثمّ نظر بكْ إلى جاك وأقبل قبالة وجهه، مدّ يديه على منكبيه يهزّهما مع هزة رأسه وهو يقول: «بكْ يرحب بِكَ يا جاك.» ثم صمت لحظة ثم استأنف: «يا جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة.»
ما إن انتهى جاك من مقابلة المدير وبكْ؛ حتى تقصص خبر الأول، فقال له أحد الأساتذة الحكماء الأمناء: «إنّ المدير من أصول إسرائيليّة، لكنّه رجلٌ حقّر كلّ شيء دون العلم، لا يرى في أيّ شخص أمامه إلّا علمه وخلقه مهما كانت جنسيته أو دينه.»
فأعجب به جاك وأحبّه.
***
فور وصول فهمان سويسرا -بعد وصول جاك ناسا بنحو خمس ساعات- اتّجه إلى السفارة الأمريكيّة بها وفي يده جواب جامعة بيركلي، ثم واصل طريقه حتى قارب على الوصول إلى مصادمي الهادرونات الكبير والمستقبلي HLC، FCC-1.
قابله الحرس، وأدخلوه بعد أن نظروا في جواب بيركلي، ثم ما لبث أن أشار إليه واحد منهم عن الوجهة التي تمكنه من بلوغ مأربه.
ووصل أخيرًا إلى رئيس جامعة بيركلي وسلمه الخطاب.
تناوله، ثمّ شرع في قراءته، ثمّ ما لبث أن طأطأ رأسه وهو يحملق في الكلمات، ثم قال بصوت منخفض: «الاسم، فهمان فطين المصريّ، التقدير، امتياز، وشهادة تقدير تفوق متميز، وتوصية من الحكومة الفيدراليّة تليها توصية رئيس الجامعة.» أغلق الخطاب وأشاح به نحوه قائلا: «لِمَ كلّ هذا؟»
لم يفهم فهمان سبب السؤال وقد قال له مخمنًا: «لعل سيادتكم تقصد التوصيات؟»
أجاب: «ليس بالضبط، وإنما أقصد …» تمتم ثم سكت متفكرًا.
ثمّ سأله بعد أن انتبه له: «أنت الذي أطفأت حريق الجامعة المشهور؟»
– «لا، أطفأها جاك صديقي.»
أشار له بالسبابة والوسطى وهو يقول: «لا، كانا اثنين.»
– «نعم، جاك أطفأها وأنا كنت أساعده.»
– «كنت تساعده! كنت تساعده يا فتى بابتكار خلية صمامية سوف تحل محل كل مواد الإطفاء المستخدمة حاليًا!»
تنهد تنهيدة ثم قال مازحًا: «اذهب يا فتى، اذهب قبل أن أقتلك.»
أشّر له على الجواب، وناوله إياه ثم أرسله على الفور إلى وليم -أبرز الباحثين في المصادمين- خرج فهمان مِن مكتب المدير ولم يتوجّه مباشرة إلى وحدة الإدارة الخاصة بالإقامة؛ بل قرّر أن يقابل وليم أولاً. في طريقه رأى مساكن القاطنين في ال FFC ، LHC؛ فتسمر مكانه، ونسي كل الدنيا، ثم هبط مهرولا إلى النفق ليعاينهما ويمتع نظره الذي لطالما كان يحلم بهما منذ بضع سنين.
نظرَ بعينين حالمتين، حلم بما يخبّأه هذا المصادم مِن أسرار قد تتحكم في مصائر البشريّة في الأعوام المقبلة إذا طور أكثر ليعمل بطاقات أعلى. تملكته الفكرة فغيبته مجددًا عن الوجود حتى إنّ الباحثين وكافة العاملين بهما يذهبون ويجيئون وهم في مرمى بصره ولم يرهم. وأخيرًا استوقف أحد الباحثين وسأله عن وليم فقال له: «وليم باحث كبير هنا، محبّ للعلم مبتكر، أمريكيّ الجنسيّة، يعمل في تجارب سيرن منذ زمن، يقوم بتحضير حفنة البروتونات التي تسير عبر الأنبوبيْن لتحدث التصادم، ويقوم بتدوين النتائج أحيانًا، يرجع إليه بعض الباحثين عندما تستعصي الأمور عليهم، وقد تكون الدرجة العلمية لهؤلاء الباحثين الذين يلجأون إليه أعلى. أمّا أخلاقه، فهو ودود وطيب ومتعاون إلى أقصى حدود، وتكاد الابتسامة لا تفارق وجهه أبدًا.» توقف الرجل أخيرًا بعد عزف سمفونية الإطراء هذه؛ ثم اعتذر لفهمان قائلا: «معذرة، فإني أحب هذا الرجل، وكذلك هم (قالها وهو يشير بسبابته إلى العاملين).»
ودخل على وليم بعد أن أشار الرجل عن وجهة مكتبه، سأله وليم متعجبًا بعد أن رأى حداثة سنه: «ما هي درجتك العلمية يا فتى؟»
– «بكالوريوس سيدي.»
فصدم وليم، وتمتم فقد فقد صوابه، وفارقته ابتسامته المعهودة حتى انطبقتْ شفتاه، وقد شعر فهمان بما انتاب وليم مِن حزن وألم.
استأذنه وليم: «لحظة وأعود، لا تجلس، معذرة يا فتى.»
ثمّ اتّجه إلى باب المدير حانقًا، وفور دخوله انطلق بقذائف من كلمات اللوم له بسبب عدم إحساسه بالمسئولية التي ألقيت على عاتقه، فهدّأ المدير مِن روعه في رصانة.
وقال له: «لقد تعجلت يا وليم في حكمك على الفتى، وسأعاقبك على سوء ظنك بي، ولن أخبرك عما يحمله الفتى الصغير في عقله الكبير، الكبير جدًا.»
خرج وليم يتوقّد ولم ينبس بكلمة أخرى، خوفًا أن تنفلت أعصابه؛ فيتفوّه بكلمة قبيحة. دخل على فهمان وكان قاعدًا فقام، قعد وليم على مكتبه وأقعده ولم ينظر له، وظلَّ يفرك في يديه ويلتفت يمنة ويسرة ثمّ هبَّ مندفعًا تلقاء وجهه بسؤال: «بكالوريوس بأيّ تقدير؟»
– «امتياز سيدي.»
– «هل لك اختراعات أثناء عملك في الكليّة؟»
– «لا سيدي، منحك الله وإياي علمًا نافعًا.»
تمتم لحظات وهمس لنفسه: «ما الكبير في هذا الفتى؟ كبير! يبدو أن الرئيس يسخر مني، لا سامحه الرب.»
ثم قال لفهمان بصوت هادئ: «كلُّ ما لديك الشهادة.»، ثم هب منتفضًا ضاربًا سطح المكتب بكلتا يديه قائلا: «كلُّ ما لديك الشهادة، اذهب يا فتى، اذهب وابحث لك عن حضانة واجر فيها تجاربك.»
لم يردّ فهمان على تهكّمه له.
قال وليم باستسلام: «ائتني غدا مع الفريق، ولا تنس أن تأتي بممحاة، وقلم رصاص، وحقيبة مدرستك.»
فلما دلف الباب ناداه وليم: «ماذا تريد من المصادم يا فتى؟»
– «الاختراق.»
– «اختراق! أيّ اختراق؟»
– «البعد ذات الوتر المهتزِّ الناريِّ.»
– «البعد الناريّ، احذر يا فتى أن تلعب بأعواد الثقاب.»
فور وصول مبيته رقد، فقد أنهكته الرحلة، فلما ذهب في النوم أتته النوبة؛ فهبَّ فزعًا، وهذه المرّة كانتْ الفزعة أشدّ بكثير من يوم حصوله على البكالوريوس، فقد صاحَبَها اختناق شديد، وسعلات شديدة، خرج لسانه وجحظت عيناه.
وحدّث نفسه مِن جديد: «إنّ الكابوس لا يأتيني إلّا بعد أن أخطو خطوات ثابتة نحو ما أرنو إليه، يبدو أن هدفي ملآن بالصعاب التي لا قبل لأحدٍ منا بها؛ لذلك ينزل الله علي وحيًا في صورة حلم لكي أتثبت ولا أضعف.»
نهض مترنحًا يتخبط في الذي أمامه.
أما جاك، فهو يحبُّ السباحة في الفضاء، ويتمنى لو يخترق ثقبًا أسود. اتّجه جاك إلى مكتب بكْ، وفي طريقه كان يفكر في شأن الثقوب السوداء القاتلة، هو يشعر في قرارة نفسه أنّ عزيمته أكبر مِن توهج الثقب الأسود، ورسالة العلم قُدسيّة نورانيّة وجب على أربابه أن يحفظوا العالم من الفناء حتى لو كانت أرواحهم فداء لذلك. قابله بك ثم أراه أحدث ما وصلتْ إليه ناسا من صواريخ حاملة للمركبات الفضائيّة، كما أراه قاعدة السلم الفضائيّ الأمريكيّ.
اتّجه بكْ إلى شاشة عملاقة مفتوحة لا تغلق أبدًا -إنّها تصوّر خبراء الفضاء على الهواء مباشرة وهم يثبّتون المصعد على القمر، كما تصوّر الروبوتات وهي تسوق العربات القمريّة الجوّالة بخامات مِن القمر وتضعها عند خبراء النوويّ لاستخلاص الهيليوم-3- ثمّ أشار بكْ إلى شكل المحطة الشمسيّة النانويّة الأمريكيّة التي صممها مهندسو ناسا -تلك التي انتهوا منها منذ وقت قريب- ثمّ قال بكْ: «ما رأيك في هذه التكنولوجيا الراقية يا جاك؟»
أجاب: «هل تأذن لي بالوقوف جانب الشاشة لأبيّن بعض المقترحات؟»
– «لا مانع مطلقًا؛ بل يسعدني.»
نهض جاك، وأدار بالعصا على بعض المناطق على القمر وهو يقول: «هذه المنطقة المظلمة منه و ..وهذه المنطقة التي .. الخ.»
وشرح جاك جغرافية القمر كأنّه قضى فيه عمره كلّه يسير في دروبه وشعابه.
فذهل بَكْ وأخذه الإعجاب به.
أشار جاك بالعصا على المحطة الشمسيّة النانويّة، ثمّ أشار إلى منطقة فارغة بجانبها، ثمّ إلى منطقة ثالثة.
فقال بكْ: «هذه المحطة عرفتها، لكن لماذا تشير إلى هاتين المنطقتين الفارغتين؟»
أجاب: «المنطقة الفارغة الأولى سيدي نبني فيها محطة ليزر عملاقة، والمنطقة الثانية نبني فيها مفاعلي انشطار واندماج نوويّ.»
حدق فيه بك دهشة بما يسمع.
استطرد جاك: «إنّي اقترح أستاذي مدّ الليزر بطاقة كهربائيّة مِن المحطة الشمسيّة النانويّة فيثير وسطه فينطلق شعاع مستمر مِن الليزر يستطيع أن يدفع مركبة فضائيّة بسرعة معتبرة. سيدي بكْ، هذا الدفع سيكون نهارًا حيث تعمل المحطة الشمسيّة؛ أمّا في الليل، فيقوم الخبراء بعمليات اندماج نوويّ مِن خلال الهليوم-3 المتوفر على سطحه، وبديلاً من شحنه إلى الأرض نجعله في بيته، القمر.
ونقوم بتحويل طاقة الاندماج إلى طاقة كهربائيّة يتمّ تسليطها على الوسط الليزريّ فينتج لنا شعاعًا يدفع المركبة الفضائيّة بسرعة معتبرة أيضًا. هذه سيدي بكْ فكرتي كلّها عن السفر إلى الفضاء السحيق للبحث عن كوكب يدعم الحياة.»
قال بكْ: «يعاني علماء فيزياء النوويّ مِن حصر بلازما الطاقة الناتجة مِن الاندماج، فهل لديك حل لهذه المعضلة؟»
أجاب: «لا.»
– «جاك، كنت أسمع عن عبقريتك ولمْ استسغْها، أمّا الآن، وقد رأيتكَ وسمعتُ منك؛ فإنّي لم أتصور مطلقًا هذه العبقريّة التي تتفجّر مِن عقلك،أيّها العبقريّ. أفكارك جبّارة ولاسيما لطالب لمْ يحصلْ إلّا على البكالوريوس، للأسف جاك مستحيل التطبيق العمليّ لهذه الفكرة العبقريّة.»
– «جائز سيدي.»
أخذه بكْ إلى حيث يزور بعض المراصد في ناسا وبعض الأماكن الأخرى.
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة