خاصرتنا الرّخوة
تاريخ النشر: 01/01/20 | 22:29وصف ونستون تشرتشل في حينه إيطاليا: “خاصرة أوروبا الرّخوة” (the soft underbelly)؛ ويُطلق المصطلح عسكريًا على منطقة الضعف بالنسبة لدولة أو منطقة ما، وها هو الكاتب جميل السلحوت يُعنوِن روايته الأخيرة: “الخاصرة الرّخوة” (الصادرة عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة لصاحبها صالح عباسي، تحوي 264 صفحة، تصميم شربل إلياس؛ لجميل السلحوت العديد من الأعمال الروائيّة ومنها: “ظلام النهار”، جنّة الجحيم”، “رولا”، “عند بوابّة السماء”، روايات لليافعين ومنها: “عشّ الدبابير”، “البلاد العجيبة”، “اللفتاويّة”، “كنان يتعرّف على مدينته”، قصص للأطفال ومنها: “المخاض”، “ميرا تحبّ الطيور”، “النّمل والبقرة”، أدب السيرة ومنها: “أشواك البراري-طفولتي”، “من بين الصخور-مرحلة عشتها”، أدب ساخر ومنها: “حمار الشيخ”، “أنا وحماري”، أبحاث ومنها: “ثقافة الهبل وتقديس الجهل”، أدب الرحلات ومنها: “كنت هناك”، “في بلاد العمّ سام” وغيرها).
تناول في روايته الهمّ النسوي وتطرق لمعاناة المرأة الفلسطينيّة ومحاولة تمرّدها على القيود والتقاليد وسلطة الرجل في مجتمع ذكوريّ وتناول همومها اليوميّة محاولًا نقل صورة حقيقيّة لظلمِها واضطهادها، بؤسها وشقائها، فنجد “المرأة خاصرة المجتمع الرّخوة” (ص.126)، وتطرّق إلى ازدواجية مواقف المرأة تجاه قضايا المرأة فهي عدوّها الأول واللدود.
تحكي الرواية قصّة زواج “جمانة وأسامة”، “صابرين ويونس”، و”عائشة وزياد”؛ باءت جميعها بالفشل والطلاق، كلّ لأسبابه، جمانة الجامعيّة تتزوّج أسامة المتزمّت دينيًا والمتأثر بكتابات ابن عثيمين وابن باز وغيرهما ويحمل فكرًا تكفيريًّا جعله يمنع الغناء والرقص في حفلة زواجه، يحرمها من الشغل خارج البيت، يعترض على قراءتها للقصص والروايات بوصفها “خطيئة لأنها من الخيال والخيال شيء لا يحاكي الواقع فهو كذب والكذب حرام”، يعترض على ولادتها في مستشفى حتى لا يكشف عليها طبيب، يمنعها من الاحتفال بعيد ميلاد ابنهما البكر لأنّه تقليدًا للكفّار ممّا يؤدّي للطلاق.
أمّا صابرين فتتزوّج يونس الذهبيّ “المُنفتِح”، يقنعها بخلع حجابها، مارس معها الجنس خارج إطار الزواج لتحمِل ويتزوجّان، ممّا لا يمنعه من إقامة العلاقات الجنسيّة متعدّدة المواهب، مع الذكور والإناث بما فيه الجنس الجماعي ويؤدّي إلى الطلاق.
أما عائشة فتتزوّج زياد وعمرها خمسة عشر عامًا ليطلّقها بعد ثلاث أشهر لأنّه لم ينجح في “فكّ” بكارتها، فتتزوّج ثانيةً وتحمل وحين تعسّرت ولادتها تبيّن أنّها لا تزال تحتفظ بعذريّتها!
المرأة اللا بطل في الرواية، عائشة التي أُغتصبت طفولتها ليزوّجوها قاصرًا، جمانة جامعيّة متديّنة تؤمن أنّ الدين الإسلامي دين يُسر لا عُسر ومثقّفة مطّلعة على الأدب العالمي وفكره، تصير ضحيّة تطرّف زوجها المتديّن ذو الفكر المتحجّر العنيف المتزمّت والتكفيريّ، صابرين جامعيّة “مُنفلتة” تقع ضحيّة نزوات زوجها المتهوّر، كلٍّ وعقليّتها ومفاهيمها الاجتماعيّة والأخلاقيّة، كلٍّ ووليدها، ضحايا المجتمع لأنّهن نساء وخاصرة مجتمعنا الرّخوة.
حاول الكاتب تعرية المجتمع أمام المرآة، بدون مكياج وتزييف وقشور، بجرأة ، يكشف زيف المجتمع (العلاقة الزوجيّة/الأسريّة/الاجتماعيّة)، تناول بجرأة الممنوعات/المحرّمات/المقدّسات وحطّم التابوهات، واجه الجهل الذي واكب التخويف والترهيب للسيطرة على المجتمع ليبقى متخلّف ورجعيّ، بدل التقدّم والتحضّر والتمدّن، تناول قضيّة الصمت لكي لا تفضح العائلة، وهذا حال كلّ النساء فلماذا ترفض أو تحتجّ!!
تطرّق جميل السلحوت لدورِ المرأةِ فانتقدَ بشدّةٍ النظرةَ النمطيّةَ المتكلّسةَ حولَ دورها في مرآة أدبِنا وثارَ على النظرةِ الدونيّةِ للأمِ/المرأةِ وحاول تصويرها بصورةٍ إيجابيّة. وكذلك الأمر للأب “اللاجئ”، فهمّه تعليم بناته وتأمين مستقبلهن واحترام رأيهنّ: “كيف الرأي رأيي؟ الرأي الأوّل والأخير لجمانة”، “كل شي بخناق إلا الزّواج باتّفاق”، “لن أزوّج أيّا من بناتي قبل أن تحصل على شهادتها الجامعيّة الأولى، فتعليم البنت حصن حصين لها”!
ثار ضدّ ذكوريّة مجتمعنا حين صوّر بسخرية لاذعة تعدّد الخُطّاب ليد جمانة: الأستاذ محمد الفايز جاءها خاطبًا وهي في الصف السّابع! المهندس رزق رجب جاءها خاطبًا بعد أن أنهت الصّف التّاسع!! أكثر من خمسة شباب أنهوا دراستهم الجامعيّة جاءوها خطّابًا أثناء دراستها في المرحلة الثانويّة!!! خاطب في بداية الثلاثينات من عمره ويحمل شهادة الأستاذيّة “الدكتوراة” في الآداب جاءها خاطبًا عندما ظهرت نتائج “التّوجيهي”!!!!
يتناول الكاتب قضيّة النكبة وأثرها على المجتمع الفلسطيني: “عيسى الحمّاد ليس مقطوعًا من شجرة، لكنّ الزّمن جار عليه كما جار على غيره من أبناء شعبنا، الذين غادروا ديارهم مكرهين عام النّكبة بسبب ما تعرّضوا له من قتل وتدبير وتشريد، وتشتّتوا في بقاع الأرض، وهذا لا يعيبهم” (ص.13)
وظّف السخرية السوداء القاتلة ليصوّر الوضع البائس لتقاليد وعادات وأفكار بالية، أكل عليها الدهر وشرب: “ابني يريد فتاة صغيرة ليربّيها على يديه! فقالت لها جمانة ضاحكة: “وهل يعتبر ابنك الدكتور الزّوجة خروفًا يريد أن يسمّنه حتى يأتي يوم نحره؟”(ص.34)، حين حاول أسامة تقبيل جمانة عنوة سألته ساخرة: “وهل أباح لك أساتذتنا الأوائل أن تغلق عليّ الباب، وتغتصب القبلات منّي؟” (ص.42)، صابرين سألت بلهجة ساخرة: “لم أفهم كلامك يا عمّ، فكيف يلعب الفأر في عبّك؟”(ص.195) ووصلت ذروتها حين أنهى الرواية بجملة غريبة لوالدة أسامة حين أخبر والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته: “لا ردّها الله، وقد فعلتَ خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها” ليصوّر ازدواجية المعايير.
استعملَ جميل السلحوت لغةً بسيطةً وسهلةً نسبيًّا وخاليةً في مجملِها من غريبِ اللفظِ، اعتمدَ لغةً عربيّةً فصحى ذاتَ أصواتٍ متعدّدةٍ ومنها الراوي والشخصياتِ ولا ينقصها عنصر التّشويق وتبّلها بالعاميّة أحيانًا مستعينًا بالأمثال الشعبيّة المحليّة الفلسطينيّة التي زادتها جمالًا وجاءت أصيلة لا دخيلة ممّا زادت من متانة الرواية، وعلى سبيل المثال: “بيجي للرّدي يوم يتشرّط ويتمظرط فيه”، “معلّقة لا هي مطلقة ولا متزوّجة”، “حظّك يفلق الصخر”، “العرض ما بنمحى بالسّيف”، “همّ البنات للممات”، “نصّ الألف خمسميّة”، “كل واحد زردته على قدر رقبته”، “من برّة رخام ومن جوّه سخام”، “لا يعجبها العجب ولا الصّيام في رجب”، “وللي مشتهي البرقوق هيّو في السّوق”، “ذنب الكلب دايما اعوج”، “الطّبع غلب التطبّع”، “البسّة بتوكل عشاها”، “طريق تاخذ ما تردّ”، “هل طخّيت الضّبع؟”، “مثل حيّة التّبن تقرص وبتتخبّا”، “يا مؤمّن للنسوان يا مؤمّن للميّة في الغربال”، “بعد ما شاب ودّوه للكتّاب”، “كل شاة بعرقوبها معلّقة”، “اللي ما بشوف من الغربال أعمى”، “تعريص الغنيّ وموت الفقير لا يعرف بهما أحد”، “دارت على حلّ شعرها”، “تنشوف الصّبي بنصلّي على النّبي”، “اللي بقرب المسعد بسعد”، “اللي بروح ع السّوق بتسوّق”، “غُلُب بستيرِه ولا غُلُب بفضيحه”، ووُفّق في ذلك.
جاءت لغته حداثيّة ولم يخشى الاستعانة بمصطلحات أجنبيّة وتبنّاها بعفوية مهضومة حين استعمل بعض تلك المفردات: “تمكيجي”، “كاسيت”، “الكشك”، “لابتوب”، “الكيك”، “البنج”، “سكايب” وغيرها.
أبدع الكاتب برسم صورة جمانة بكلماته الشاعريّة: “خدودها بيضاء تعلوها حمرة كما التفّاح، عيناها فيهما زرقة سماء صافية، شفتاها لذيذة كقطعة حلوى شهيّة، أسنانها كعقد اللؤلؤ الطبيعيّ، أنفاسها تبعث الدفء في القلب، غرّاء فرعاء، نحيلة الخصر بلا اعوجاج، تمشي بدلال كزهرة يهبّ عليها نسيم عليل، صوتها مغناج دون تصنّع. أنفها مستقيم كمنقار حمامة برّيّة” (ص.46)
أعجبتني الرواية بجرأة التعامل مع موضوعها وعناصرها ولكن هناك ملاحظات لا بدّ منها: هناك بعض الأخطاء المطبعيّة، وأخرى بنيويّة، وعلى سبيل المثال: يجب حذف كلمة”زملائها”(ص.29)، “جمانة” وليس “أسمهان” (ص.50)، “أبو أسامة” وليس “أبو وضّاح” (ص.117)، “أبو جمانة” وليس “أبو أسامة”(ص.131)، أسرة “العروس” وليس العريس (ص.215).
كذلك الأمر إسرافه بالاستعانة بأحاديث نبويّة ومصادر وعناوين وأسماء أثقلت على سيرورة النص الروائي لأنّنا لسنا بصدد بحث دينيّ علميّ.
أقحم الكاتب إسرائيل والاحتلال بتكلّف لا يخدم النصّ، وهو بغنى عن ذلك: “أنت تعلمين أنّ الاحتلال قد أهلك البشر والشّجر والحجر، ودمّر الاقتصاد”(ص.173)، “لماذا لا تشتري لنا تلفازا ومذياعا…لنطمئنّ على أهلنا الذين يتعرّضون لجرائم الاحتلال؟”(ص.175)، “بكت أيّام العزّ التي عاشتها في قدسها الذبيحة…قدسها محتلّة من عدوّ أهلك البشر والشجر والحجر”(ص.208) وغيرها.
راق لي موقف الكاتب المُناصر للمرأة، وهو بصيص الأمل بمستقبل أفضل حين جاء على لسان جمانة “قراري ليس ناتجًا عن غضب في مشكلة معيّنة، ولو كان ذلك كما تقولين، لتحمّلته، لكنّ أسامة لم يحترم إنسانيّتي يومًا ما، فالرّجل غريب في تصرّفاته، لديه معتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، وتعامل معي كدمية لا قيمة لها، وبالتّالي فإنّني اتّخذت قراري بعقل ورويّة، ولو كنت في الوطن لما تحمّلته هذين العامين اللذين كنت أعدّهما بالدّقيقة” (ص.249) ما أن سمعت جمانة كلمة الطّلاق حتى رقصت فرحا، وأطلقت زغرودة مدوّية. صدق فريدريك انجلز حين قال:”تحرّر المرأة معيار تحرّر المجتمع”.
يصوّر الغلاف وجه امرأة حزينة وخائفة، فهي نقطة الضّعف، نقطة ضّعف مجتمعنا وخاصرته الرّخوة، مُستَهدفة من قبل الجميع ولكنّها الأمل! أتساءل حيال غياب صاحب “‘لوحة” الغلاف الرائعة، التي تتلاءم مع عنوان الإصدار، الذي لم يُعطَ حقّه ؟!؟
المحامي حسن عبادي