نخلة العراق الشاعرة وفاء عبد الرزاق وقصيدة “بغداد لا تترنحي”

تاريخ النشر: 22/01/18 | 12:20

حجي اليك

يممي وجهك شطر الشعب

فضوءه ماء الوضوء

والقبلة الفاصلة

حدثيني عن الأماني العجاف

عن تلاوة النخيل لدمعك المزهر

عن صمت الصباح المحنط

وعن مطر النزف

إني أعتصم بك

أعريك من كل الشظايا

المنايا، وأتيم بقتلاك

للعصافير صوت قريب إلى الله

لهذا طارت الأشلاء مغردة

ترسم أفقك

حين نضب حزنك

حزنت الأقمار عوضًا

والشموس التحغت بليلها

كيفما شاء القتل؟

لا

كيفما شئت ستكون القارعة.

بغداد

دوري

بين حزني وحزنك افتحي دربًا

تحسسي اللحظة الصامتة

عن حب أناديك:

أيتها الشرفة العالية

أنى تلفت أبصرت سجنًا

للشتاء مكره

ولي أنت دفء طفولتي

الجرح العميق والمسبغة

بغداد أبيض لونك

على مشرع الفطام حليبه

فابسطي ذراعيك حتى أعبر الطعنة

حلمي أصفى من عين طفلة

فماذا بعد صليل اللعب

أو تلعب بارتعاش الدم

ودفء احتضان الشظايا؟

ماذا بعد القتل

بعد تجارة الأشلاء

بعد كراس مقصلة؟

ماذا بعد ماذا أي بغداد

ثوري ضدك وقشري المرحلة

إني أعانق اشتعالك

أشعلي

فما بين أعينهم وأعينهم

فتيلة تنتظر الزناد

كل الرؤوس ستنحني

الا رأسك فقد حصنه القادر برفعته

واستوى

فمن يجرؤ ألا ينحني لبغداد

لا لغيرها

قضيت العمر أنتظر نهارك

وحملتك عبء قلبي المثخن

فكوني للأزهار بيتًا

وعلى ترابك أرسمي قبلتي.

ماذا بعد يا بغداد ماذا

منذ سنين لم أر ظلي

منذ الف ألم

والكادح يهمس لابنه

تريث بني

فالمدينة طفلة بباب المدرسة

اخبرها أن لا ذنب للوطن

سوى حبنا وحزننا المتقد

هل ضقت ذرعًا بنا؟

حتى يصبح رحابك قبرًا؟

لماذا حين أمد يدي اليك

يحصدها الموت

أعرفك شجرة الكرم

فلماذا تجودين بالكفن.

لا لم تته عناويني

ولم تزل أبوابك ريق مغفرتي

ومفتاح عصياني

أدخلك من التيه الى التيه

لعلي أجد شبهي

بغداد يا رتق أضلعي

اني من الشك الى الشك أتوب بك

دين عليك الي أن تستوي

لكنني أرى بين مقلتيك سجني وسجاني

استو فأنت كل عزائمي

ما زلت أبحث في عينيك عن جواب

لاسئلتي

أغمض عن كل ما سواك

أعرف أن بين يديك معجزة

لعتابي

بغداد ما جئت عاتبة

إنما في كل الوجوه أرى وجهك

فيجذبني إليه محرابي

أصلي لا لأثني

إنما الله أوصى بجنتين تحت قدميك

أي أمي الكبرى

أطوف حول جنتيك

أعيدني فيهما حضورًا

فقد جن غيابي

وبين يديك المستقر.

استوقفتني هذه القصيدة الرقيقة الزاهية للشاعرة العراقية البصرية المهجرية المقيمة في لندن، الصديقة وفاء عبد الرزاق، وشدتني بطابعها الحنيني ومضمونها الوطني الوجداني، ولغتها الشفافة، ودفقها العاطفي الحزين.

وفاء عبد الرزاق نخلة بصرية متجذرة في ثرى العراق المقدس، ولها امتدادها الشعري في العمق الثقافي العراقي والخريطة الأدبية العراقية والعربية، ولها حضورها الألق المشع كالشمس في يوم ربيعي، في نوادي الشعر ومنتدياته، بما قدمته وأنتجته من نصوص شعرية رائعة، أدهشت القراء، وانعشت قلوبهم وملكتها بعذوبة ورقة كلماتها وانسيابها الشلالي.

وفاء شاعرة قلقة، مندمجة حتى النخاع بالهم الوطني العراقي والانساني العام، يشدها الألم، وتملك المتن الشعري الذي يستدرج القارىء والمتلقي للغوص والتأمل في نصوصها وسبر أغوارها.

وهي لا تكتب الشعر من أجل الكتابة فحسب، بل تنصهر فيه لتفجر غضبها وتغبر عن مكنونات داخلها وروحها، وتبوح بأحاسيسها وعواطفها، وتخاطب النفوس المعذبة المتعبة التي أرهقها الوجع وأنهكتها المعاناة.

وكانت وفاء عبد الرزاق كرمت كأفضل شاعرة في الوطن العربي العام ٢٠٠٩، من وزارة الثقافة المصرية، وهذه شهادة واعتراف صريح بشاعريتها الفذة الحقة.

وهي سفيرة سلام ومحبة تطوف الأوطان العربية وبلدان العالم داعية للتسامح والوئام والأخاء الانساني، بعيدًا عن تشظيات الايديولوجيات والمذاهب والأديان والثقافات.

وفاء عبد الرزاق شاعرة غزيرة متنوعة الاجناس والأصناف الأدبية، فهي تكتب الشعر والقصة والرواية، ولها الكثير من المنجزات الابداعية في مختلف فنون الكتابة منشورة ومطبوعة.

وقصيدتها المدونة أعلاه جميلة، متعددة المعاني والأوصاف، تشي بصور شعرية خلاقة ومبتكرة وحداثوية ذات جمالية ودلالات عميقة، وتتميز بالدفق والنبض الروحي، والحيوية، والصور الموحية، والأخيلة الشفافة، والأبعاد الجمالية، ونستشف فيها دفق الكلمة ورقة المفردة ورهافة الحس والرقة الأخاذة، وصورها الشعرية هامسة ومتلاحقة كموج البحر، ولغتها باذخة، ومواكب أخيلتها رحبة واسعة، وعطر كلماتها يبقى عابقًا في الأجواء لأمد طويل. ويتبدى فيها وجعها على وطنها الذي تفتقده كما كان وهي فيه، وترسم فيها صورة حقيقية لعشق بغداد ومنزلتها في نفوس محبيها وابنائها، وقد كتبتها بصورة صوفية تجعلنا نبصر دموعها المنهملة على خديها، التي ارتسمت حروفًا وكلمات على ورق الورد، فجاء عتابها بوحًا شفيفًا رهيفًا يدغدغ قلوبنا ومشاعرنا.

وفاء عبد الرزاق شاعرة شامخة باسقة كنخيل البصرة، ومسكونة حد الوله بالعراق الغالي، الذي لم تتنازل عنه حتى في ساعات ألمها وأيامها الأكثر حلكة، مثخنة بالجراح والأحزان، وتتراوح قصائدها بين الحنين وأغاني الغربة، ومواويل صدى العاشقين، وينهض نصها الشعري على موروثات تاريخية ودينية، ورموزها حية مبعثها التاريخ والطبيعة، وعناوينها لافتة معبرة وتختزل الموقف، وفيها دفء وحميمية، وذات تكوين جمالي، ولا تمر قصيدة الا ودجلة والفرات، وصورة الوطن العراقي يتمخضان فيها وجعًا وعشقًا وشوقًا لاهبًا، وحنينًا عاصفًا يتخضب في كلماتها وبين سطورها وتعابيرها.

وكثيرًا ما تشتاق شاعرتنا الرائعة جميلة الروح وفاء عبد الرزاق الى طيف أمها، والى الوشم الجنوبي الذي كان يطرز يدها، أفليست هي القائلة:

تجمع شهقة قلبي في وشم يدك

اشتهي اليوم أن أقف بشباك ذاهل

وفي النهاية :

شاعرتنا الملهمة المجيدة البهية العراقية وفاء عبد الرزاق، لك مودتنا ومحبتنا وتقديرنا لحرفك، مع التمنيات بالمزيد من التقدم والرقي والازدهار والتألق والتوهج الشعري، والمزيد من غزارة النتاج الأدبي والثقافي المنوع.

بقلم:شاكر فريد حسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة