لن يغتالوا محمود درويش

تاريخ النشر: 17/03/14 | 0:10

أقدمت لجنة المطبوعات في معرض الرياض الدولي للكتاب على سحب جميع أعمال الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل، عاشق فلسطين وبلبلها الغريد، محمود درويش، من جناح دار "الريس" وإيقاف بيعها بعد اعتراض عدد من الشباب المحتسبين على ما وصفوه بعبارات كفرية في ثنايا نصوصه، واعتبارها من مصنفات ما يسمى "الإلحاد الفكري"..!

ومن المفارقات أن يأتي هذا المنع في ذكرى ميلاد شاعر الأرض والوطن والثورة والإنسان، ونبي الغضب والرفض والتراب الفلسطيني محمود درويش، التي تصادف مع تفتح اللوز في آذار.

إن منع أعمال درويش يمس بحرية الفكر والتعبير والإبداع، وهي خطوة ظلامية قمعية تشكل تقليصاً لهامش الحرية، وتعيد إلى أذهاننا عصور الإظلام الشديدة في التاريخ العربي الإسلامي وحرق كتب الفيلسوف القرطبي ابن رشد، وتذكرنا بمحاكم التفتيش وممارسات الكبت والقمع ضد العلم والتقدم وثقافة الإصلاح والتنوير والعقل ومحاكمات المفكرين والعلماء واتهامهم بالهرطقة.

لا جدال أن المنع هي حالة وظاهرة قائمة في المجتمعات الثقافية، ومسلسل مصادرة الكتب وروائع الفكر والأدب لم يصل إلى نهايته، وبين حين وآخر تفاجأ الأوساط الأدبية والثقافية بمصادرة أو منع كتاب تنويري أو رواية ذات بعد عقلاني وتوجه تنويري تقدمي. ولم يتوقف الأمر على المصادرة كما حدث مع كتاب "الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي طه حسين، ورواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر " والأعمال الكاملة للشاعر إبراهيم نصراللـه وديوان "شجري أعلى أوراق" للشاعر الاردني موسى حوامدة وسواها الكثير، بل وصل الأمر إلى حد إحراق الكتب كما فعل الناشر المصري المعروف محمد مدبولي مع كتب الطبيبة المصرية د. نوال السعداوي.

لا يمكن قتل الأفكار وحجب الأشعار بالقمع، ولا تستطيع أي مؤسسة رقابية المساس بحرية الفكر، ومصادرة حق الإنسان الطبيعي في التفكير، وتحويل مخزونه العقلي إلى مخزون ورقي في متناول بين أيدي الناس. فالكبت والمنع لا يمكن أن يصادر الرأي والموقف ويغتال الإبداع الراقي الأصيل والحقيقي، بل يزيده قوة وعنفواناً وانتشاراً واسعاً.

إننا أمام سابقة خطيرة وعودة حقيقية لمحاكم التفتيش، وهذا بالضبط ما يجب أن يقلقنا، وعلينا كمبدعين ومفكرين ومثقفين رفض الوصاية التي تمارس على عقولنا وأذهاننا باسم الدين والمحرّم. ومع استنكارنا وإدانتنا الشديدة لقرار منع أعمال درويش في معرض الكتاب في الرياض ورفضنا له، والذي يلقى موجة من الاستنكار والغضب في الوسط الثقافي والشعبي العربي، فإن المثقفين مطالبون بالتصدي ومواجهة جميع أنواع وأشكال الحجب والمصادرة بكل الطرق والوسائل، ويجب أن تلغى جميع أشكال الرقابة على الفكر والأدب والتعبير، والرد على الفكر بالفكر، والبرهان بالبرهان، وليس بالمصادرة والسحب والمنع، فكرامة الإنسان هي في حرية فكره وموقفه، وكفى تكميماً للأفواه وتسيداً لأفكار الجهل والظلام والتكفير. إن هذه الممارسات هي اهانة لثقافتنا ورموزها، وتكرس إفلاسنا الثقافي والحضاري في عالم لا تنهض فيه المجتمعات إلا بالحرية والديمقراطية، وإن الإصرار على فرض الرقابة المستبدة لا يمنحنا سوى المزيد من التخلف المعرفي والاجتماعي.

وإذا كانوا منعوا وسحبوا أعمال وروائع درويش من أجنحة المعرض، فلا يمكنهم محاصرة مصادرة صوت نقي وروح صافية وإبداع ثوري كصوته وروحه وقصيدته، وسيبقى درويش الشاعر المضيء، وزارع الأمل والتفاؤل الثوري في قلوب المقاتلين المنافحين والمدافعين عن قضايا الوطن والحرية والعروبة والإنسان الفلسطيني، وسنظل نردد ونهتف معه :

أيها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسمائكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا

وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة