قراءة في رواية” زهرة المدائن”
تاريخ النشر: 03/05/17 | 14:00قرأتُ رواية نساء المدائن للكاتب هلال الهندي الصادرة عن دار “الأهلية للنشر والتوزيع” في عمان وهي تحوي في طيّاتِها 256 صفحةً، ولوحةُ الغلافِ من رسمِ الفنانِ الفلسطيني أنس سلامة .
هلال شاعر وكاتب شابّ، مقدسيّ يقيم في حيفا وأصدر ديوانين شعريّين : “لا شيء يستحق البقاء في الذاكرة” و” قد يكون اسمها مريم”.
قرأتُ الرواية أو كما يحلو لهلال تسميتها : “حكاية حبّ حرب ورسائل” بشغفٍ لدرجة أني أحيانا كنت أرى بمخيلتي مشاهد حقيقية ولا أقرأ كلمات عبر صفحات، وهذا دليلٌ على سلاسة سرده وتشويقه لطريقةِ عرضِه وموضوعِه فتشكّل قفزة نوعيّة كبيرة، مقارنة بمجموعاته الشعريّة لغة ، أسلوبًا ومضمونًا لشاعريّتها وسلاستها مع أنها روايته الأولى .
هي حكاية متأثرة بأدب الرسائل، تيمّنًا برسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، ورسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة وغيرهم. فيها الجغرافيا والتاريخ والحب، وفيها السياسة في قالب أدبي عن حيفا في حرب تموز 2006.
شطحت وهلال عبر مُدنه، من القدس إلى حيفا والناصرة ، عارجًا إلى روما ولندن مع أبطال الرواية وتبقى القدس هي المرسى، الحبيبة والأهل والوطن وهي حاضرة بزخم عبر صفحات الرواية .
حقًا إن القدس لحالة فريدة من نوعها في الأدب العربي عامة والفلسطيني خاصة، وليلى الأطرش قالت في قدسها برواية ترانيم الغواية : “حين تنظرين الان في المرآة سترين فقط ظلال رجال عبروا يوما على طريقك”، أما محمود درويش فنقد الذين لا يكترثون بمصير وطنهم نقدًا لاذعًا، وشنّ عليهم حملةً قويّةً ، ناحيا بذلك منحًى جديدا مركّزا فيه على من يجعلون من القدس سبيلا للوصول إلى السلطة، حين قال : ” وما القدس والمدن الضائعة سوى ناقة تمتطيها البداوة إلى السلطة الجائعة… وما القدس والمدن الضائعة سوى منبر للخطابة ومستودع للكآبة… وما القدس إلا زجاجة خمر أو صندوق تبغ ولكنها وطني” ، والأديب عادل سالم جعلها مشروع حياة بتوثيقه لها وكتابته حولها ، نثرًا وشعرًا، كما جاء في عاشق على أسوار القدس … ولكن هلال يتغنّى بقدسه صارخًا : ” القدس ليست لندن، والفرق بينهما أن لندن لم يدخلها غزاةٌ أبدًا. القدس لم يدخلها إلا الغزاة. لندن لها حنين حضاري يدفع كلّ من سكنها أن يتحدث عنها برغبة وحب، أما القدس فلها حنين يقتل ويُجبر كل من سكنها على الرجوع إليها” ولهذا وجدتها تلاحقني عبر كل صفحة من صفحات الرواية فهي حاضرة فجاءني ما قاله الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته “القدس”:
“لا تبكِ عينكَ أيها المنسيّ من متنِ الكتاب
لا تبكِ عينكَ أيها العربيّ
واعلم أنّهُ في القدسِ مَنْ في القدس
لكن لا أرى في القدس إلا أنتَ ”
تقدّم الروائية السورية لينا هويان الحسن في روايتها نساء المدائن عالمًا مليئًا بالشخصيات والأحداث، وهو تجسيد يقوم على الحقيقي والمتخيّل لحياة وتاريخ عرب المهجر، لا سيما السوريين، وتحديدًا في باريس وساو بولو بدايات القرن العشرين وصولًا إلى سبعينيات وثمانينيات ذلك القرن، وعبر جيلين من هؤلاء المهاجرين. بطلة الرواية شاهدة على مرحلة مهمّة من مراحل التاريخ الاجتماعي والسياسي للعرب في العصر الحديث، وكل ذلك من خلال الكشف عن أسرار تلك المرحلة التاريخية، للمجتمع المخملي للعرب المهاجرين، وأدوارهم في المجتمعات التي يكونون فيها، وتحديدًا في دمشق، باريس وساو باولو.
هلال يقدّم لنا في روايته عالمًا مليئًا بالشخصيات والأحداث، وهو تجسيد يقوم على الحقيقي والمتخيّل لحياة وتاريخ عربنا وأبناء شعبنا في مدننا، عبر أبطاله كريم وحسن وسعيد وبطلاته سلمى ومريم ومنى وعلا وحنين ومارتا –الفتاة الإيطالية- ويقدّم لنا واقع شبابنا الاجتماعي والبحث عن الهويّة والذات في قدسه وناصرته وحيفاه بكل مفارقاتها وتقلّباتها وتيهها الكبير، عبر تساؤلات جيل ما بعد الانتفاضة الثانية وصراع الهويّة، جيل القهوة ومُعدّيها، مع خلطاتها النصراويّة-المقدسيّة-الحيفاويّة، شاربيها ومتذوّقيها، جيل الإسبريسو، وروّاد المقاهي وعُشّاقها أو كما يُسميها هلال :”مدينة ملاهي التعساء”، ويحلّق في سماء حرب حزيران (حرب لبنان الثانية) وتخبّطاتها وتفاعل “عرب الداخل” معها وأحداثها ومستجدّاتها والتعامل والتفاعل معها لينهي روايته بفنجان قهوة “فنجان القهوة لا زال بيدك، يبرد ويسخن، يمرض ويتعافى، يصيرُ حلوًا ويعود مرًّا، يسمح بقراءته ويتمنّع. فلا الفنجان ينتهي.. ولا العذراء ستتوقف عن التخفي.. ولا البلاد ستتوقف عن إنكارك.”
كتب هلال على غلاف روايته واصفًا إياها حكاية حب حرب ورسائل ، ناهجًا نهج وأسلوب إليف شافاق في روايتها ” قواعد العشق الأربعون” فاعتمد ما يسمى أسلوب “الاسترجاع الفني” وبدا هذا جليًّا في قصة كريم الذي يدخل عن طريق “الاسترجاع الفني” إلى قصص أصدقائه، حسن النصراوي وسعيد المقدسي فجاء تنقُّله بين شخصيّات وأحداث وأزمنة وأماكن الرواية مشوِّقًا ومُوَفّقًا في ذلك إلى حدٍ كبير.
للمرأةِ حضورٌ مميّزٌ عبرَ صفحات الرواية ، كأنثى وأمٍّ وحبيبةٍ وعشيقةٍ وجدّة ، كمناضلة وجامعيّة وعصاميّة ونادلة كادحة وصحافيّة ومحرّرة أدبيّة !! فهلال نصيرُ المرأةِ ، تحدّى التابوهاتِ المتوارثةَ بجرأةٍ تُميّزُ روايته، فساهم هذا الطرح في منح قيمة مضافة للرواية لا بل القيمة بحد ذاتها.
أختلف مع هلال في الرأي إذ قال في روايته :” الرسائل التي لا تصل، لا طائل من كتابتها”، إذ ربما لن تغير تلك الكتابة من واقعنا لكننا نواسي بها أنفسنا كي تخفّف عن قلبنا وطأة الكتمان.
أزعجتني بعض الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية والتاريخيّة عبر صفحات الرواية مما ظلم هلال ، وهنا ألقي اللوم على الناشر الذي ظلم الكاتب فلم ينبّه هلال لتلك الأخطاء.
هلال يطلّ علينا بروايته الأولى، واصفًا أنه دخل بالخطأ إلى النثر بعد أن ابتدأ شاعرًا ! فجاء خطأه موفّقا، أنيقا، ومشوّقا، يُنبئ ببداية مسيرة روائيّة ستجد لها، حتمًا، مكانًا ومكانةً في أدبنا المحلّي والعربي فأقول له زدنا إمتاعا بتلك “الأخطاء” وإلى الأمام.
المحامي حسن عبادي