قراءة في رواية “الحنين إلى المستقبل”
تاريخ النشر: 21/04/17 | 9:15قرأتُ رواية “الحنين إلى المستقبل” للأديب المقدسي عادل سالم، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وهي تحوي في طيّاتِها 227 صفحة من الحجم المتوسط، وقد صممت الغلاف الفنانة والقاصة المقدسية رشا السرميطي.
عادل سالم أديب مقدسي مقيم في الولايات المتحدة ، كتب الشعر (عاشق الأرض، نداء من وراء القضبان، الحبُّ والمطر) وانتقل ليكتب الرواية (قبلة الوداع ألأخير ، عناق الأصابع ، عاشق على أسوار القدس) ومن ثم القصة القصيرة (يحكون في بلادنا، ليش ليش يا جارة؟، يوم ماطر في منيا بولس، لعيون الكرت الأخضر، الرصاصة الأخيرة)، كتب الدراسات ( أسرانا خلف القضبان، الطبقة العاملة الفلسطينية والحركة النقابية في الضفة والقطاع من عام 1967 الى 1987) والمقالة الحرة (نظرة على واقع العمال العرب في اسرائيل 1996، ظاهرة العملاء العرب 1997) التي كسرت التابوهات وأثارت الجدل على الساحة المحلية.
يصور عادل سالم حياة المغتربين العرب في السجون الامريكية عبر “قصة” بطله المقدسي نعيم قطينة، فيروي سيرورة اغترابه وأحاسيسه ومعاناته الأمرين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ومعاناة السجناء هناك وحال الأصدقاء وأبناء العائلة وما يمرون به.
أخذتني روايته إلى ديوانه الأخير “الحبُّ والمطر” حيث بعضًا من قصائده تشكل خلفيّة وأرضية للرواية وأحداثها ولقصائد الديوان (إطعام السيجل ممنوع، إن الفراق عن الأحبة موجع، ألقت مراسيها، ودع الأحبابا، يا قدس يا مهد الطفولة والصبا، إني أحبك في سجني وأسفاري وغيرها) حضور طاغ عبر صفحات الرواية وكأنك تقرأ قصائد الديوان نثرًا.
يسرد سالم ساعة دخول نعيم السجن الأمريكي، بعد أن كان قد جرّب في ماضيه سجون الاحتلال، “تريد أن تدخل إلى السجن بسرعة، ثم إلى الغرف، لتكتشف ما بداخلها، فيزول الخوف من قلبك من ذلك المجهول”(ص 15) “وأنت تسمع أقفال تضرب بالأبواب، السجان هو السجان وإن اختلف المكان” (ص 18)
وساعات الأسر المقيتة فتصبح الذكريات أجمل فيلم لا تمل مشاهدته كل يوم، ويصبح الحنين إلى المستقبل أجمل لوحاتك.
“ما أجمل أن تستعيد ذكرياتك القديمة لكن الأجمل منها أن ترسم لوحة المستقبل صورًا ومشاهد من مستقبل تحلم به، وتعيش فيه لحظات سعيدة، في الأولى أنت تستعيد ذكرياتك كما هي …. فيما اقتحام المستقبل يكون بأجمل الألوان فأنت هناك يمكنك أن تلون مستقبلك كما تشاء”(ص 207)
ويصف زيارة الأهل ” كنت مبتسما أمامهم أخفيت دمعتك، حاولت ونجحت، كنت تدرك أن الدمعة في غير وقتها هزيمة، وكان كبرياؤك لا يسمح لك أن تذرف الدمع أمامهم ولو كان اشتياقا لهم، فعيونهم الآن وعقولهم موجهة نحوك، هذه اللحظة سيبنون عليها خطة حياتهم خلال غيابك، ابتسامتك اليوم ستمنحهم الدفء، والحنان، وستكون الجدار الذي يستندون إليه خلال سني غيابك” (ص 75) وجاءني ما كتبه الكاتب الصحفي بسام الكعبي في نصّه السردي المفتوح – “جمر المحطات في الطريق إلى “نفحة” الصحراوي” حين يخاطب السجين عاصم أمه : “لا أستطيع تخيل عزيمتك تتهاوى على مرأى السجان، ولن أغفر لنفسي طول العمر رؤيتك ضعيفة. دعي صورتك القوية وتماسك إرادتك تحتل ذاكرتي متمنيًا لك الشفاء”.
ويصور حياة السجن والعلاقة بين نزلائه بكاميرته “في السجن تختفي القطريات، والألوان، وتستبدل بانتماء جديد، الانتماء للسجن” (ص 26) “هنا نتعامل كأسرة واحدة، وإن احتجت لشيء آخر فلا تخجل، الظروف رمتنا هنا وعلينا المواجهة” (ص 29) فيتساءل لماذا هذا التكبير خلال الأكل؟ فيفهم أنها رسالة بأنهم مجموعة واحدة، ويد واحدة فلا يحاول أحد الزعران التحرش بأي منهم على انفراد ، بهذا يحسبون حسابهم كقول الشاعر :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسّرت آحادا
وقوله تعالى : “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً”.(سورة آل عمران، آية 103)
وهذا بعكس ما يصوّر الأسير المُحَرَّر حسام كناعنة في كتابه “مرايا الأسر” الخلافات والنزاعات وحالة التشرذم والصراعات الفئوية والتنظيميّة بين فصائل المقاومة داخل السجون الإسرائيلية رغم أن العدو مشترك.
السجن علّمه عدم التدخل في شؤون الآخرين، عدم الحديث في الممنوعات، عدم نقل الأخبار من شخص إلى آخر، عدم الوشاية عن أي سجين مهما ارتكب من مخالفات وأن الاعتراف لإدارة السجن عار لا يقبله سجين حتى لو كان ضعيفا وغير قادر على حماية نفسه فللسجن قوانينه : كل ما تستطيع انتزاعه من السجان فهو حق شرعي لك.
ويصف تأقلم بطل روايته فيصبح مهرّبًا والتهريب يسري في دمه، والابتكار سيد الموقف ويقنع نفسه بأن هذا هو الصحيح “حكومة لصوص هم يسرقوننا ونحن نسرقهم …. المشكلة هم يسرقون الملايين ونحن مثل النمل الذي يفرح عندما يحصل على حبة قمح” (ص 44) ويقول : ” يا لها من غابة أسرتك فصرت أحد أسودها الكبار، كنت تبرر عمليات التهريب التي تقوم بها بأنهم سجنوك ظلما، وأن الحكومة تعلن الحروب على الشعوب الأخرى لذلك فسرقتها حلال، كنت تتفنن في التهريب” (ص 134)، “كيف كنت حوتا يفترس كل من حوله، فقد كنت قبل ذلك مثل دولفين وديع فاصطادك الجميع” (ص 135)
يتطرق سالم في روايته إلى ظاهرة الإسلاموفوبياIslamophobia) ) والتحامل والكراهية والخوف من الإسلام أو من المسلمين، باستخدامه لإدانة مشاعر الكراهية والخوف والحكم المسبق الموجهة ضد الإسلام أو المسلمين، فرغم الوهم ب”أنك في بلد الحرية والديمقراطية، فصرت تنشط من أجل الوطن، عجزوا عن اتهامك بالإرهاب فوجهوا لك تهمة الضريبة الفدرالية ليتآمروا ويجدوا مبررا قانونيا لسجنك”(ص 161)وتصبح سجينًا تختلف عن كل السجناء، مسلم وعربي، فلن يسمعوا شكواك حتى لو كنت ملاكا ، فتنكّلوا له ولعروبته “عثرنا في غرفتك على مادة كيماوية مضرة في كأس كان فوق حزانتك، كانت رائحتها تضر بالسجناء، وحسبناها مادة كيماوية للإضرار بالسجناء، لكن بعد الفحص تبين أنها مخلفات طعام تركت هناك منذ أيام فأصابها العفن وأصبحت تشكل خطرًا على حياة السجناء، هذا إهمال وسبب لنا مشكلة وعطّل عملَ السجانين” (ص 100)
ويصول في سؤال الغربة ولا يدري هل الغرباء ضحايا غربة اختاروها بأنفسهم؟ أم أجبروا على اختيارها ؟ فيجيب السجين الأسود “لم يسلبوا فقط عرقنا، وعملنا، لكنهم سلبونا أسماءنا، ثقافتنا، ديننا القديم الذي بالتأكيد لم يكن دينهم” (ص 155) ويذكّرني بمقولة غسان كنفاني “يسرقون رغيفك.. ثم يعطونك منه كسرة.. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يا لوقاحتهم !” ويصرخ في وجهه : “أنت جئت لأمريكا بمحض إرادتك، لم يجبرك أحد، نحن جُلبنا إلى هنا بالسلاسل، لنعمل عبيدًا لهم، وهم جاءوا غزاة ليقتلوا سكانها الأصليين. عليهم تعويضنا عن كل سنوات الحرمان التي عشناها بسببهم.” (ص 156)
ورغم ذلك يصمد في وجه سجّانه فيواجهه ويتحدّاه ، وكما كتب الكاتب الصحفي بسام الكعبي في نصّ سردي مفتوح آخر “هداريم”: جدران عازلة وقامات عالية!” فللكبرياء إطلالة خلف الأسلاك :”إلى متى سيصمد الحارس المسلح بالنار والمفاتيح أيضًا على بوابات الفصل العنصري الهائلة؟ هل يُشبع جوعه الهستيري خمسين سنة أخرى من التعذيب للضحية؟ أم شارف “الحارس” على النهاية”
ويصف فترة مكوثه الأخيرة خلف القضبان وتوقه للحرية وانتظاره ساعة تحرره من قيود السجن “ها أنت على وشك التحرر من السجن … فرحك ممزوج بالخوف، الخوف من المستقبل الذي تحن إليه، تنتظر خروجك يوما بيوم، تعد الساعات، الدقائق، الثواني، تحلم بذلك اليوم” (ص 188) فالسجناء يخصمون يوما من أيام سجنهم ويقتربون يوما نحو الحرية ليحلم بيوم الحرية وانتهاء هذا الكابوس، فلم يبق له غير الحنين إلى المستقبل المجهول، لكنه بالتأكيد سيكون الأجمل، لأنه مستقبل الاولاد، جيل الغد القادم” (ص 93)
ومن ثم يصف ليلته الأخيرة “الليلة الأخيرة في السجن، كنت فرحا جدا، ولكنك قلق بعض الشيء، طوال فترة السجن كنت تنتظر تلك اللحظة، وصباح ذلك اليوم، كنت تحن للمستقبل، الذي يبدأ منذ أن تطأ قدمك خارج أسوار هذا السجن اللعين” (ص 201)
فساعة فك قيوده وعندما وطأتا قدماه أرض الحرية شعر براحة نفسية. كأن للهواء خارج القضبان طعما آخر.
أما حنان-الزوجة المقدسية- فذاقت الأمرّين لتعود إلى الوطن لتشعر غريبة فيه “حتى البلد التي ولدنا بها وولد بها أباؤنا وأجدادنا صرنا غرباء فيها” (ص 159) شاهدت ولمست الواقع بكل تفاصيله، كثرت المستوطنات، وكثُر تحرش المستوطنين، “كانوا قبل عشرين عاما يخافون مواجهتنا، فأصبحوا اليوم هم من يخيفون أولادنا، يغلقون الطرق علينا على مرأى وسمع قوات أمنهم …. صرنا جيران بالقوة، قريبا قد نصبح سكانا في عماراتهم، القدس تغيرت كثيرًا يا نعيم”، فتعيش الذكريات المجبولة بالأمل وتناجيه : “عندما أتفقد ألبوم صورنا يا نعيم كل يوم، أقف سارحة في تلك الصورة التي تجمعني معك والتي التقطناها في يوم عرسنا في قمة جبل الطور، وأنت خلفي تطوقني بذراعيك، والقدس خلفنا بجمالها، كأنك والقدس تطوقاني معا، كم أحتاج لهذا الطوق من جديد، إنه العقد الذي كنت ولم أزل أرفض أن أخلعه من حول رقبتي”.(ص 175)
لغة الرواية سلسة، انسيابية، تصويريّة وشاعرية “كنت تقول لي : أنت موهبة السماء التي أتتني من حيث لا أحتسب ، وكنت أنا أقول ، وأنا في حضنك لحظة غروب الشمس : إنك شمسي التي لا تغيب. كان حبك هو الحياة، ولولاه لا أعرف اليوم كيف كنت” (ص 175) فيشعر بعظمة من يحب عندما يفتقد حنانه في اللحظات الصعبة.
أقحم سالم إسرائيل بموضوع منعه دخول الوطن وإرجاعه بالطائرة لاتهامهم له بأنه قادم للبقاء في الوطن، بتكلّف لا يخدم النصّ، وهو بغنى عن ذلك، ليتساءل : “هل أحضرهم لزيارتي ثم أعيدهم لفلسطين لعلي أنجح في الدخول في سنوات قادمة؟ أم أستسلم رافعا راية الغربة البيضاء إلى الأبد؟ أم أنتظر حتى تتحرر، وأعود رافعا شارة النصر؟
ولا بد من كلمة بالنسبة لعنوان الرواية الموفّق، فلا أستطيع إلا أن أقتبس ما كتبه الروائي الفلسطيني الأسير كميل أبو حنيش (يقضي حكمًا بالسجن مدته 9 مؤبدات) في روايته وجع بلا قرار :”الماضي كفردوس مفقود حتى وإن كان جحيمًا، أما الآتي فهو ذاك المركب الذي يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج تقوده أشرعة الطموحات والأحلام. فحكم المؤبد يمنحك إحساسًا بالمستحيل الجاثم فوق صدرك فتحرص على تأثيث فؤادك بآمال وأحلام ليس بوسعك العيش بدونها”.
المحامي حسن عبادي