قراءة في رواية “راكب الريح”
تاريخ النشر: 28/03/17 | 0:05قرأتُ رواية ” راكب الريح ” للكاتب الفلسطيني يحيى يخلف الصّادرة عن “دار الشروق” وهي رواية تحوي 343 صفحة ، ولوحة الغلاف للفنانة التشكيلية ضحى الخطيب.
يحيى يخلف كاتب فلسطيني معروف ، من مواليد قرية سمخ الواقعة على الشاطئ الجنوبي لبحيرة طبريا ، هُجّرت أسرته بعد احتلال قريته عام 1948 ، صدر له العديد من المجموعات القصصية والروائية منها : نورما ورجل الثلج، نجران تحت الصفر، تفاح المجانين، نشيد الحياة، بحيرة وراء الريح، نهر يستحم في البحيرة، ماء السماء، جنة ونار وغيرها ورواية راكب الريح هي آخر إصدارات الكاتب وحصلت على جائزة كتارا للرواية العربية.
قرأت الرواية بشغف ونهم بسبب لغتها الانسيابية السلسة وأسلوبها المشوّق وعشقيّتها المشتهاة “سحرها كلامه، وسحرتها إطلالته، وحرّك شهوة في أعماقها، وأذهلتها عيناه اللتان تطل منهما مخالب” (ص 108).
إنها رواية يوسف ، يافويّ يخرج من أساطير يافا وبحرها وأسوارها ، حين كانت يافا لؤلؤة البحر المتوسط ونافذة الشرق على الغرب، وكان يوسف لؤلؤة المدينة وقمرها وفتى ذلك الزمان، في روحه فن ورقش ورسم وخطوط وغواية وعشق ، وفي جسده نار وطاقة ، رجل يُبحر بحثًا عن الحقيقة والحكمة وأسرار الحياة، يتنقّل عبر الأمكنة مثقلّا بالحكايات والنزوات والمغامرات، حاملًا يافا أيقونة تنوّعها وحنينها وأنينها وعبقرية مكانها، وتوحّش حكامها وغزاتها.
للمرأة حضور طاغ عبر صفحات الرواية، بداية بالأم ، والعيطموس – المرأة عالية القامة، المرأة ذات السن الذهبية المسكونة بالشياطين والأبالسة، المرأة الهندية ذات النقطة الحمراء على الجبين، الوصيفة أسرار، إيمي سلطانة الشرق، ابنة عمها ماري روز إمبراطورة الغرب وغيرهن كُثر ولهن دور مركزي في الرواية، طولًا وعرضًا.
للخيال فضاء واسع في الرواية “كانت تلبس ثوبًا يافويًّا مطرزًا برسومات النجوم وعرق الريحان وساعة الحياة … ووجهها مضيء، كأنما الهواء المشبع برائحة البرتقال يرسل بين الفينة والأخرى نسمة طريّة إلى محيّاها” (ص 53) متأثّرًا بألف ليلة وليلة، أسلوبًا ومضمونًا (ص 106) كما هو الحال مع الدراما والتشييج “توقفت أسرار عن السرد قليلًا، فهبّت النساء هبّة واحدة، وسألن : هل قبضوا عليه؟ هل فصل تيمور رأسه عن جسده؟ أشارت لهنّ بيدها كي يتمهّلن، وأكملت”(ص 114).
الرواية ليست برواية تاريخيّة رغم أن كاتبها درس التاريخ والجغرافيا وتمرّس بهما فكانا أرضيّة خصبة للرواية وأثْراها كثيرًا، كما درس فن الرسم العالمي فوصفه بريشته: “تفقّد إطار اللوحة وقماش الدمور المشدود إليه، فقد سهر ليلة أمس على إغلاق مسامه بمعجون (الجيسو)، حتى لا تتسرب الألوان الزيتية، وشدّه بقوة لكي تكون أبعاده متساوية” (ص 79) فكان فنانًا بارعًا.
نجح يخلف بلباقة كتابة أسطورة عشقيّة صوفيّة وصلت ذروتها حين همست بطلته في أذن يوسف : “أشم فيك رائحة الإنسان. كل شيء موحش، حياتي كلّها في العتمة، وأنت من أضاءها. أنت أول رجل في حياتي أتواصل معه باختياري” (ص 120)، تنادي بالتآخي بين بني البشر وبين الأديان، بعيدًا عن التقوقع والتكلّس، على أنواعه، بعيدًا عن التمسّك بالعادات والتقاليد والأديان، صارخًا :”إلى الجحيم ذلك الإتيكيت” (ص 89) ضاربًا بعرض الحائط قُدُس أقداس الثقافة الفرنسيّة !
تتحدّث الرواية عن يافا ونابليون ، وأقرأها فلسطين والصهاينة، تجمع الأسطورة والخيال، الواقع والتاريخ وتبقى فلسطين كما هي عليه، تتعرّض للغزو الدائم والعدوان والتدمير، ويذكّرني بليلى الأطرش حين قالت في قدسها برواية “ترانيم الغواية “حين تنظرين الآن في المرآة سترين فقط ظلال رجال عبروا يوما على طريقك”.
إنها رواية يافا التي خُلق يوسف من ضلعها، فكان عنوان جمالها وأساطيرها وغوايتها وتراثها وزخرفها.
إنها رسالة يوسف بعد تأمله وتساؤله : هل بإمكانه إيصال حكمة ورسالة الشرق إلى الغرب من أجل التعايش والسلام والمساواة واحترام كرامة الإنسان ؟ هل تتقلّص الفجوة بين الأنا والآخر ؟ أم تتسع حتى اللا تلاقي ؟
لغة الرواية جميلة وسلسة تشدّ القارئ لاكتشاف اللحظة الآتية بشغف لانسيابيّتها وأسلوبها المشوّق .
يقول يحيى يخلف “الناس في دينكم عيال الله، هذه الأرض التي تتقاتلون عليها هي أرض الله، والبلاد في الشرق والغرب هي ملك الخالق، هو الذي يرث الأرض وما عليها يوم القيامة”. من رسائل السلام هذه التي كان يبرقها الراوي في ” راكب الريح” ألخص القول إن هناك رسالة للكاتب عبر صفحات روايته، أن اجنحوا للسلم فاحتلال الأرض لن يدوم لأنها لبارئها، وعلى حد قوله تعالى “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”.
أما عن بطل الرواية (يوسف) الأسطورة، بجماله وعنفوانه، فمما لا شك فيه أن الكاتب سطّر روايته بنصوص من القرآن الكريم، حيث سيدنا يوسف عليه السلام وما كان له من الجمال والكمال والبهاء، حتى راودته امرأة العزيز عن نفسه وهو في بيتها ، فتساءلت هل صدفة أن كان البطل في رواية يحيى يخلف يحمل اسم (يوسف) ؟ هي رواية ذات أبعاد إنسانية، اجتماعية، تاريخية ولمسات روحية غنية ومثرية.
رغم ذلك يؤمن يحيى يخلف بأنه في النهاية يموت الطغاة، لكن الحكمة والتنوير لا يموتان، وأهل يافا سينتصرون على العدوان والنهوض من جديد.
لفتت انتباهي العلاقة بين عنوان الرواية ولوحة الغلاف الرائعة والمُوَفّقة اللتين تُصوّران الكتاب، وكذلك التذييل ، وحبّذا لو تكرّم علينا كتاّبنا الأفاضل وحذوا حذو يخلف ليربطوا بين العنوان وصورة الغلاف والمقدّمة أو التظهير ليزيد كتاباتهم رونقاً ويساعد القارئ العادي على فهم المقروء كما نجح يحيى يخلف.
المحامي حسن عبادي