الحريق والمحرقة
تاريخ النشر: 22/08/15 | 5:43اليوم الجمعة 2015/8/21 هو اليوم الذي يجمع اثنتين من الذكريات المؤلمة والمحزنة في تاريخنا المعاصر؛ فيوم 1969/8/21 هو يوم ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك. ويوم 2013/8/21 هو يوم ذكرى محرقة “زملكا” في غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي والغازات السامة استخدمها جيش وشبيحة بشار الأسد ضد المدنيين من سكان الغوطة، الأمر الذي أدى إلى استشهاد قريبًا من 1600 من السكان؛ رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا. ولأن محرقة “زملكا” في غوطة دمشق 8/21 قد جاءت بعد أسبوع واحد من محرقة ومجزرة رابعة العدوية في مصر، والتي كانت يوم 2013/8/14 فإن هذه الذكرى تمر علينا بقليل من الاهتمام، خاصة مع سيل واستمرار المجازر المحارق في سوريا.
أما حريق المسجد الأقصى، فكانت أحداثه في مثل يومنا هذا قبل ستٍ وأربعين سنة، حين امتدت يد اللؤم والحقد، يد اليهودي الاسترالي “دينيس روهان”، نيابة عن حاقدين كثيرين يؤمنون ويشجعون ما فعله “روهان”، لما أشعل النار في منبر صلاح الدين الأيوبي؛ منبر المسجد الأقصى المبارك لتشتعل النار في جنبات المسجد الأقصى المبارك كله.
صحيحٌ أن نار الحقد قد أتت على المنبر الشهير والثمين، الذي قدمه صلاح الدين بعد سنوات من التجهيز والإعداد على يد خيرة الصُناع والحرفيين هدية للمسجد الأقصى بعد أن حرره من الصليبيين، لكنها النار التي أتت على بقايا نخوة ورجولة وحمية عند كل العرب والمسلمين يومها، والذين مرت تلك الجريمة بلا قصاص على عكس ما توقعت “غولدا مئير”؛ رئيسة حكومة المؤسسة الإسرائيلية يومها، والتي قالت: “كانت تلك الليلة الأصعب في حياتي خوفًا من ردود العرب والمسلمين على حريق المسجد الأقصى، فلما أصبح الصباح ولم يحدث شيء اطمأن قلبي وهدأ روعي”.
وكيف، ومن أين ستأتي ردة الفعل أو الموقف انتصارًا للمسجد الأقصى؛ قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم، والعرب يومها لم يستيقظوا من صدمة نكسة وفضيحة 5 حزيران 1967 ، التي فيها احتلت تل أبيب سيناء وغزة والجولان والضفة الغربية والقدس الشريف خلال ستة أيام، بل أقل من ذلك، حيث مصر يومها تحت قيادة جمال عبد الناصر، وسوريا تحت قيادة وزير دفاعها حافظ الأسد وشكلية الرئاسة للرئيس أمين الحافظ.
ليس أن العرب بقياداتهم الثورية والقومية لم ينتصروا للمسجد الأقصى المبارك، ولم تنحرف قلوبهم حُزنًا عليه وعزمًا على تطهيره من الاحتلال الإسرائيلي؛ وإنما هم الذين سبق وأقاموا المحارق لشعوبهم، كما فعل عبد الناصر بحربه على الإخوان المسلمين وإعدام قادتهم، كان آخرهم -قبل فضيحة حزيران- الشهيد سيد قطب، الذي أعدم يوم 1966/8/29. وإذا كانت هذه محارقهم قبل حريق المسجد الأقصى فإنها محارقهم بعد ذلك؛ سواءً ضد الشعب الفلسطيني في تل الزعتر 1976، أو ضد الشعب السوري في حماة 1981، أو ضد الشعب العراقي مساندين وداعمين للأمريكان في الأعوام 1990 و2003 وصولًا إلى محرقة ومجزرة “رابعة” يوم 2013/8/14 ومحرقة غوطة دمشق في مثل يومنا هذا 2013/8/21.
إنها إذن ذكرى محرقة غوطة دمشق، التي شاهدها العالم كله، حيث أُبيدت خنقًا بالغازات الكيماوية السامة مئات الأسر وهم نائمون في بيوتهم، لا لذنب ولا لجريرة سوى أنهم تجرأوا على المطالبة بحريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم التي أهانها بشار وأبوه وعائلته منذ انقلاب 1963/3/8.
ولا أدري! هل هي ذكرى حريق المسجد الأقصى يومها شغلتنا عن محرقة الكيماوي في غوطة دمشق أم العكس، أم أن مجزرة ومحرقة رابعة قبل أسبوع كانت قد شغلتنا عن هذه وتلك.. اختلف الزمان واختلفت الأسماء.. فبين 1969 وبين 2013.. بين عبد الناصر وحافظ الأسد، وبين السيسي وبشار الأسد.. وبين أن تكون “غولدا مئير” رئيسة لحكومة المؤسسة الإسرائيلية، أو أن يكون “نتنياهو”؛ فلئن اختلف الزمان واختلفت الأسماء، فإن الذي لم يختلف هو أن هناك يدًا حاقدة لا تزال تحمل الفتيل وعود الثقاب في انتظار الفرصة السانحة لإشعال النار في المسجد الأقصى، بل لتفجير البارود والديناميت تحت أساساته، وكيف لا تكون هذه الفرصة مواتية عبر وجود ألف ألف “دينيس روهان” داخل المجتمع الإسرائيلي؟
التقسيم القسري والإطعام القسري والتهجير القسري:
تُرى ما الذي يقف خلف هذه النفسية التي لا تؤمن بغير القوة والبطش والقهر والغصب وسيلة لتحقيق أهدافها؟ إنها المؤسسة الإسرائيلية تختفي خلف ستار الديمقراطية وسلطة القانون لتمرير سياساتها، وهي في الحقيقة تعتمد سياسة العصابات والبلطجة، لأن غرور القوة والإمكانات العسكرية الهائلة والدعم الأمريكي اللا محدود -رغم كل مظاهر التباين في بعض القضايا- كل هذا يجعل قادة تل أبيب لا يفكرون إلا بمنطق القوة؛ ووفق حساباتها.
وها نحن نشهد مرحلة من مراحل المشروع الصهيوني، وخلال حكم نتنياهو وتشكيله لحكومة تتركب من الأحزاب الدينية والقومية الدينية، حيث ما عدنا نسمع -بل ولا نرى- إلا الممارسات المجنونة والمتهورة، والتي غالبًا لا يمارسها إلا المهووس بقوته المُعجب بعضلاته.
إننا نشهد أسلوب استخدام القوة، وليس غيرها، في استهداف المسجد الأقصى المبارك، عبر الاقتحامات اليومية التي تنفذها المجموعات الدينية والاستيطانية والحزبية بحماية أجهزة الأمن الإسرائيلية، والتي أصدر وزير الأمن الداخلي “غلعاد إردان” أوامره بتعزيزها وزيادة أعدادها داخل المسجد الأقصى المبارك وفي محيطه، وهي التي راحت تضم كافة التشكيلات القتالية من أشهر نخب الوحدات الخاصة في الشرطة وحرس الحدود والجيش والمخابرات.
إن إصرار المؤسسة الإسرائيلية على إدخال المستوطنين والجماعات الدينية كل يوم إلى المسجد الأقصى في الفترة الصباحية وفترة ما بعد الظهر، وما يصاحب ذلك من اعتداءات على المسلمين، الرجال والنساء والأطفال، وحتى على الحراس، إنما هي محاولة لتأكيد سيادة إسرائيلية احتلالية موهومة، وهي محاولة للقول إنها صاحبة القرار.
إن البيانات الرسمية الصادرة عن وزراء في حكومة “نتنياهو” من أن هذه السنة هي سنة صلاة اليهود في المسجد الأقصى، بل إن إعلان “نتنياهو” أنه انتهى الزمان الذي فيه يُمنع من الصلاة في الأقصى، هي أدلة واضحة على أننا بين يدي مرحلة عصيبة واستغلال إسرائيلي للوضع العربي المضطرب لفرض التقسيم الزماني، ولعله المكاني القسري على المسجد الأقصى المبارك، حيث منطق القوة هو الذي تستخدمهُ المؤسسة الإسرائيلية. وإلى جانب التقسيم القسري فإنه الإطعام القسري الذي أصبح قانونًا رسميًا أقره كنيست إسرائيل، والذي يتمثل باستخدام القوة لإجبار أي أسير فلسطيني مضرب عن الطعام لإيقاف إضرابه عنوة، مع العلم أن الإضراب هو سلاح شرعي وقانوني يلجأ إليه الأسير لرفع مظلمته. إن الإطعام القسري هو حالة عذاب ومعاناة شديدة للأسير، لكن المؤسسة الإسرائيلية التي تريد أن تقتل كل معاني الإصرار عند أبناء شعبنا وتريد كسر إرادتهم، تلوح بالقوة الجسدية لهذا السجين المضرب عن الطعام. وما حالة الأسير محمد علان إلا خير شاهد على عنجهية هذا الاحتلال وخوفه، حتى من أسير ضعيف هزيل الجسد. لكن لأنهم يعلمون أنه صراع إرادات، ولأنهم يريدون كسر هذه الإرادة الصلبة للأسير الفلسطيني، فإنهم سيحاولون استخدام الإطعام القسري.
ومثل التقسيم القسري والإطعام القسري فإنه التهجير القسري. إنه الترحيل والتهجير والطرد والإجلاء وتفريغ الأرض من أصحابها الفلسطينيين، لإفساح المجال أمام اليهود للسكن في الأماكن التي يُهجر منها الفلسطينيون.
لقد كان “ليبرمان” صاحب شعار التهجير والترحيل للفلسطينين (ترانسفير \ وقد سبقه إليه رحبعام زئيفي)، لكن ما يمارس على الأرض في هذه الأيام يشير إلى أن “ليبرمان” ليس وحده صاحب هذه النظرية، وإنما هي حكومة “نتنياهو”، وإن كان “ليبرمان” خارجها.
أليس هدم بيوتنا في الداخل الفلسطيني هو تهجير قسري؟ أليس هدم قرية “سعوة” وقرار هدم قرية “أم الحيران” في النقب وقرار هدم قرية “سوسة” قرب الخليل، وخطة ومشروع “برافر” لتهجير سبعين ألفًا من سكان القرى غير المعترف بها في النقب تهجيرا قسريا؟ أليس طرد أهالي أحياء القدس؛ سواءً القدس القديمة أو سلوان أو غيرها من بيوتهم، واستيلاء المستوطنين عليها بالقوة وبالتزييف وبحماية الشرطة هو تهجير قسري؟ أليس إجلاء مئات، بل آلاف العائلات الفلسطينية من مناطق تقع شرقي القدس وفي الأغوار هو تهجير قسري؟! أليست مصادرة الأراضي الفلسطينية وانتزاع ملكيتها بالقوة، وبناء المستوطنات عليها، واستجلاب آلاف اليهود من شتات الأرض للسكن فيها وزيادة أعدادهم على حساب الفلسطينيين هو تهجير قسري؟!
لقد مارست المؤسسة الإسرائيلية التهجير القسري في حق شعبنا عام 1948، وارتكبت المجازر، وأوقعت فينا نكبة ما زالت مستمرة، واعتبر ساستها بقاء 154 ألفًا من الفلسطينيين (أصبح تعدادهم اليوم قريبًا من 1.5 مليون) خطأ إستراتيجيًا كان يجب عدم الوقوع فيه، بمعنى أنه كان ينبغي طرد وتهجير الجميع حتى لا يبقى للفلسطينيين ذكر، وحتى لا يظل من بقي شوكة في خاصرتهم، بل في حلوقهم.
إن من لا يؤمن بغير منطق القوة في سلوكه مع الآخر؛ التقسيم القسري والإطعام القسري والتهجير القسري، وفرض أي حل وفق منطق القوة الذي يملكه؛ عليه أن يتذكر أن ميزان القوة هذا هو ميزان متغير. فالقوي لا يبقى قويًا إلى الأبد، ولا الضعيف يبقى ضعيفًا إلى الأبد.
فما أعجب الذي جرب استخدام القوة والبطش ضده من غيره؛ كيف يجربها ويستخدمها هو على غيره؟! لكن ليعلم هذا الاحتلال الغاشم أن إرادة الشعوب هي أقوى من إرادة المحتل والجلاد والمغتصب مهما بلغت قوته وبطشه وظلمه. وليعلم هذا الاحتلال وقادته، الذين لا يقرأون التاريخ، أن الأيام دول؛ يوم لك ويوم عليك، وأن منطق القوة هذا هو من يستخدم يومًا وفق قانون الله العادل: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وأن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا، عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جنهم للكافرين حصيرا) (الإسراء: 7-8).
وإن من سيفعل هذا بكم هم عبادٌ لله أولي بأس شديد أقوى من الحديد. أرأيتم إذن كيف أن منطق القوة يُمكن أن يطبقه ويستخدمه غيركم معكم يومًا.. فماذا أنتم فاعلون؟!!!
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون
الشيخ كمال خطيب