تعليق أولي على قصيدة الشاعر ابراهيم مالك "برتولد بريشت"

تاريخ النشر: 19/04/13 | 9:39

القصيدة، التي نشرها ابو مالك في موقع بقجة مؤخرا، اعتبرها ردا على تساؤل قد وجهته اليه في سياق تعقيبي على مقالته حول الصحوة الثقافية في منطقتنا. وسؤالي كان: لماذا لم تأت ببريشت كمثال على الطفرة العبقرية المكونة؟ والمكونة هنا بمعنى المؤسِّسة، التي تجعل ما بعدها مغايرا يفوق ما قبلها بدرجات، تحول المشهد الثقافي وتخرجه من مداره، بغتة، بشكل يذكر بفيزياء الكم، الا انه يفوقها كما، تنوعا وتحديا. فالناس أصعب تحريكا من الالكترونات من جهة، ومجال الابداع والاثراء في عالم الفن والادب أغنى وأوسع.

وقد شعرت ببعض الطمأنينة عند قراءة القصيدة للمرة الاولى. ذلك لأنها أكدت لي من جديد، التواصل والامتداد الفكري لدى الشاعر منذ عهد دراسته في ألمانيا وحتى يومنا هذا، وهو الأمر الذي وجدته وشعرت به في دواوينه التي قرأتها سابقا، وأكدته في عدة تعليقات وحواريات ثقافية بيننا، لم أعر خلالها أي اعتبار لانتماء الشاعر الحزبي، وانما للفكر الذي يطرحه في القصيدة.

ورأيت أن أقسم القصيدة، رغم قصرها، الى أربعة أقسام، جعلت كل واحد منها بلون آخر. فالاول

هأنذا أجْلِسُ مُتَوَثِّبَ الْحِس

بي عطشُ طالِبِ مَعْرِفة

قُبالَة تِمْثالِكَ الواقِفِ كَشَجَرِةِ زَيْزَفون

عندَ مَيْدانِ مسْرَحِكَ البَرْليني ،

أتَأمَّلُ حَجرَهُ الصَّلْبَ كصَخْرٍ جَبَلِيٍّ ناطِقٍ

في هذا المقطع بالأساس تحديد للمكان ولحالة الشاعر. فالمكان برلين، في ميدان مسرح بريشت قبالة تمثاله. وقد يسأل البعض اذا كانت للمكان أهمية. لنجِب: حتما. فألمانيا بالنسبة للشاعر وطن ثان، فيها درس ومن بناتها تزوج، وهي بلا شك وطن لأولاده. وألمانيا لمن زارها ومكث فيها في ذلك الزمن نبع مصدري للفكر الاممي والانساني، منها نهل الشاعر طوال سنوات، تبلورت خلالها أفكاره ورؤياه للحياة وللمجتمع، للفرد وللمجموع، للخاص والعام. ولوجوده في ساحة مسرح بريشت دلالة: فوجود مسرح على اسمه هو رمز للانتصار على النازية. لأن فكر بريشت ومسرحه كانا مرفوضين تماما في زمن هتلر، حتى ان كتبه مزقت واحرقت على الملأ في برلين بالذات. وبريشت عاش لاجئا في الدنمارك والولايات المتحدة منذ ما قبل الحرب وحتى ما بعد نهايتها، وعاد. فهل للمكان من دلالة؟ والتمثال له دلالته ايضا وهي دلالة فكرية ثقافية، دلالة وجودية وليست مادية. وجاء تشبيهه لبريشت بشجرة الزيزفون موفقا لعدة اسباب: فالزيزفون، كما بريشت، اوروبية المنشأ وهي شجرة شامخة، قد يصل طولها عشرات الامتار، وهي متشعبة الاغصان، كثيرة الفوائد، عطرية وطبية، وخشبها ذو جودة عالية …..

أما حالة الشاعر في هذا المكان فهي حالة لها خصوصيتها. فهو لم يأت الى هنا صدفة، وليس بسائح. فهو يصف لنا علاقة متينة وليست عابرة. نستدل على ذلك بفعل الجلوس فهو لم يقل واقفا أو مارا او غيرها من افعال الحركة. ومن يجلس يرغب في المكوث على انه تلميذ جاء ليتعلم من استاذه. وهو تلميذ نبيه، متوثب الحس، عطش للمعرفة، يجلس بحضرة "المعلم". هذا مشهد حسي رائع، مشحون بعاطفة وجودية تملأ كل أركانه.

والشاعر يتأمل التمثال، ليجد صلابة حجره ويشبهها بصخور الجبل. فأية صخور أراد؟ أكاد أجزم أنه أراد صخور جبال الجليل، الا ان الشيء الاساس هو صلابة الموقف التي تحلى بها بريشت، صلابة الايمان بالروح الانسانية، صلابة الفكر الاممي والتقدمي.

والمقطع الثاني:

أحاوِلُ أصغي إلى ما اعتدتَ قولَهُ "

المنتصِرُ اليوْمَ هُوَ المَهزومُ ذات َغَدٍ "

وقَدْ عَلَّمَتْكَ الْحياةُ ما عَلَّمَتني

أنَّ دوامَ حالٍ هُوَ مِنَ الْمُحال

هذا المقطع غني بالحركة. فالشاعر يأخذ فكرة واحدة من أفكار بريشت، يشاركه الايمان بها، وهي فكرة مركزية في الفكر الماركسي. فكما أن الحركة شرط اساس للمادة وبدونها لا يمكن تعريفها، كذلك هي شرط أساس للتطور التاريخي للبشرية. جاءت كلها مختصرة بقول بريشت "المنتصر اليوم مهزوم غدا" لتعرض امامنا نفيا للنفي، صورة، بل شريط من الصور فيه يكبر الصغير ويهرم الكبير، يولد الطفل ويموت الشيخ، يضعف القوي ويقوى الضعيف، تتوسع الامبراطورية وتنهار، تعلو دولة، فئة أو مجموعة، لتسقط، وما الى ذلك. والتوسيع الذي اضافه ابراهيم مالك على صيغة مثل عربي "دوام الحال من المحال" جاء توكيدا لموقف بريشت الذي لم يقصد ببيته المذكور جيشا بعينه، وانما كل الجيوش، او شعبا منتصرا بذاته، بل كل الشعوب، نجد هنا رابطا قويا لايمان ابي مالك بأن الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون زائل وبأن الاحتلال زائل، وبأن الركود الفكري الممتد لدينا سينتهي …..

والمقطع الثالث:

وأنْ نصرًا حَقيقيًّا في نِزاعٍ لا يَتَحَقَّق

طالَما فيهِ يُسْفَكُ دمُ

فالنَّصْرُ يكونُ

حينَ يَسودُ سِلْمٌ دائِمٌ هذِهِ العامِرَة

في هذا المقطع يتفق الشاعران على انه لا توجد حرب رابحة. في الحرب يخسر الطرفان، المنتصر والمهزوم. وهذا هو الموقف الاممي. فبريشت كتب العديد من الاشعار بهذه الروح تحرض الناس البسطاء في كل مكان بأن يقاوموا الحرب، أية حرب، لأن الحرب آلة يستعملها أصحاب المصالح، الرأسماليون، لزيادة ارباحهم، على حساب شعوبهم والشعوب الاخرى. من هنا ايمانهما يأن السلم، والسلم فقط، هو الانتصار، وعندها لا يكون نصر لشعب على آخر وانما نصر للانسانية جمعاء.

المقطع الرابع:

وَيَنْتَعِشُ حِوارٌ دافِىءٌ كَنَسيمِ الْجَنوب بَيْنَ هذا وذاك

فَتَتَفَتَّحُ بَتَلاتُ زَهْرَةِ فِكْرٍ دائِمَةُ التَّجَدُّدِ والْحَياة .

في هذا المقطع يصف الشاعر النتيجة المرجوة من هذا السلم: حوار دافيء بين المختلفيْن، نقاش حيوي وعقلاني، غير مؤسس على القوة، مؤداه تفتح الازهار كرمز للازدهار المادي والروحاني. وهذا العالم الجديد الذي يتمناه الشاعران ليس عالما راكدا بل كله حيوية وتجدد. بعكس ما يظن البعض وبعكس ما يرغب ذوو المصالح أن يوهمونا به، بأن التاريخ هو تاريخ حروب، كله منتصرون ومهزومون، وبأن الحرب، هي الدافع الاساس للتطور

‫3 تعليقات

  1. أحيّي د. حسام مصالحة المتخصّص في العلوم على هذه الذائقة الأدبيّة التي نجحت في سبر أغوار قصيدة الأديب إبراهيم مالك الإنسانيّة الرائعة.
    للشاعر المبدع إبراهيم مالك، وللناقد الحصيف د. حسام مصالحة ألف تحيّة!

  2. كم يبدو أن الدكتور مصالحة عالِماً، فيلسوفاً ايدولوجياً وأديباً، ما يعزز كونه انسانا مثقفا. اتحفنا دائما بتعليقاتك وتحليك الأدبي. فهذا ينقصنا كثيرا.
    شكرا لجهودك وعطا~ك.

  3. يبدو أن من يسمى نفسه من عشاق الأدب كان على عجلة من أمره فنصب المرفوع وبلع الحروف ما يدل على اضطراب!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة