يوميّات: خرجتُ من هنا!

تاريخ النشر: 22/08/15 | 6:07

الثاني من تموز، 2014.
صوت آذان صلاة الفجر يصدح من المسجد الأقصى، الأضواء الخافتة في الحارات القديمة كالعادة مضاءة، بعض الجنود الإسرائيليين يتكئون على الجدران القديمة، بعض الغرف تضيء لينزل الصغار إلى ساحات المسجد يلهون قليلًا مع المعتصمين هناك والمصلّين من حارات القدس والمخيّمات المجاورة.

الثامن من تموز، 2014.
عمري عشرة أعوام، لا أدري متى بلغتُ هذا العمر، لكني ولدت في عام 2004، حتى اليوم شهدت حربين ضاريتين على بلدي، كانت الصواريخ تتساقط علينا كالمطر، هذا عدا عن كوننا مُحاصرين فعليًا، أظن أننا قد حوصنا قبل أن أجيء إلى الدنيا، لكني أؤمن أن وجهي ” نحس ” على هذه البلد.
أستمع كثيرًا للكبار وهم يتحدثون عم المفاوضات والانقسامات والاحتلال، في الحقيقة أنا لا أفهم شيئًا، فماذا يعني أن الوطن مقسمٌ إلى ثلاثة أقسام: الأول واقعٌ تحت احتلالٍ فعليّ، الثاني تحت سيطرة فصيل من فصائل المقاومة، والثالث –يعني بلدي- تحت سيطرة فصيلٍ ثالث، ماذا يعنيني كلّ هذا؟ في الحقيقة لا شيء. أنا أريد فقط أن يأتي عاهد لنلعب كرة القدم دون أن يزعجنا صوت الصواريخ في مدينة رفح.

الواحد والثلاثين من تموز، 2015.
أنظر باستغرابٍ إلى أمي وأبي، أقول في نفسي لمَ لا أستطيع التحدث مثلما يتحدثون هم الآن، يقولون أن بجوارنا مستوطنة كبيرة، وسكان هذه المستوطنة يأخذون أراضي السكان رغمًا عنهم، والسلطة تسمح لهم بذلك. لكن أليست السلطة كما أبي؟ تحمي أمي وأبي واخوتي كما يحموني هم.
أسمع والدي يقول مصطلحاتٍ غريبة: مستوطنون، احتلال، جدار، جنود، قتل، دماء.. ما كلّ هذه المصطلحات في هذه الدنيا؟ هل عندما أكبر سأعرف ما معنى هذه الأشياء؟
أنا في الحقيقة لا شيء يهمني مما ذُكر سابقًا، أشعر بالجوع، أريد أن أبكي كي تشعر أمي أني جائع فتأتي لتطعمني ويذهب أبي إلى حيث يذهب كلّ صباح كي تتوقف أمي عن اللحاق به وتركي في السرير لوحدي.

الثاني من تموز، 2014.
قالت لي أمي: كن حذرًا، صلِّ مع أصدقائك في القدس وعُد بسرعة لتساعد والدك.
قبل هذا التاريخ ببضعة أيامٍ، وجد الجيش الاسرائيليّ ثلاث جثثٍ تابعة لمستوطنين إسرائيليين قرب مدينة الخليل، كنت أستمع للأخبار بشكلٍ يوميّ رغمًا عني. أسكن في مخيّم شعفاط، أبلغ من العمر ستّة عشر عامًا، يقال أننا في القدس نولد ويولد حبّنا للمسجد الأقصى معنا، لذا كنت في كلّ صباحٍ أذهب إلى المسجد الأقصى لأصلي الفجر رفقة أصدقائي، ثمّ نلعب كرة القدم في ساحات المسجد، لنعود بعدها للبيت فنتوجّه لمدارسنا وللعمل.

الثامن من تموز، 2014.
أصوات القذائف كانت في ازدياد، توقفت قليلًا عن اللّعب وذهبت إلى مقهى الشاطئ، جلست قليلًا على مدخل المقهى أنظر إلى قناة الجزيرة وهي تعلن ” بدء الحرب على… ” لم يكن هناك داعٍ لأكمل الخبر، صوت الانفجارات الآتية من كلّ الأماكن المحيطة بنا تُنبؤني أين اندلعت الحربُ.. ثانيةً.

الواحد والثلاثين من تموز، 2015.
عاد أبي من العمل مساءً، رأيت أمي وهي تتجه نحو الباب لتستقبل والدي، تطبع قبلةً على رأسه، فيضمها هو له. يسألها فورَ دخوله: أين علي؟
يأتي مباشرةً إلى غرفة الطعام، أظن أن هذا هو اسمها، يحملني ويبدأ بملاعبتي. أنا أحبّ والدي كثيرًا، دومًا يمسك بأصابعي الصغيرة ويقبلها ثمّ يقبّل وجنتيّ ويلعبُ بهما، حتى ينال مني التعب فأنام في حضنه. عندها يبدأ هو وأمي الحديث عن الأرض المجاورة الّتي يحاول المستوطنون الاستيلاء عليها. –بالمناسبة هذه الكلمات صعبة ولا أفهم معناها، لكني أحكي تمامًا ما كنت أسمعهُ من والديّ-.

السابع عشر من تموز، 2014.
أسكن مع أصدقائي في مخيم الشاطئ، يدعى المكان الّذي نسكن فيه بالمخيّم لأن أجدادي قد لجأوا إليه ريثما تهدأ الأوضاع الأمنية عام 1948، منذ ذلك الحين سكنّا في هذا المكان، أُطلق عليه المخيم لأننا في البداية كنا نسكن في خيام، فيما بعد، بعد أن طال فراق البلاد، وترسخ الاحتلال فوق أراضي ال 48، بدأ الناس بتشييد بعض العمارات لتُسمى فيما بعد ” مخيم الشاطئ “.
كنت أنتظر أولاد عمي على الشاطئ لنلعب كرة القدم، قبل خروجي قالت لي أمي أن الحرب تشتدّ كثيرًا، فإن لاحظت أن الطائرات أصبحت على مسافةٍ قريبةٍ منا، علينا الهرب إلى مكان آمن نوعًا ما. رغم أن أمي كانت تعلم أنه لم يبقَ أيّ مكانٍ آمنٍ في البلد، لكنها كانت تؤدي دور الأم.. الدور الأخير قبل لفظة القدر.

الثاني من تموز، 2014.
توقفت عند البقالة، كما كنت أفعل صباح كلّ يوم حين أذهب للمسجد، أردت السؤال عن حبال الزينة الطويلة، لتكفي لتزيين شوارع المخيم، فقد كنت باشرت بتزيينه رفقة الشباب بمناسبة حلول شهر رمضان. بعد أن انتهيت، وقفت باب البقالة أنتظر صديقي حتى
يخرج، حين جاء مستوطنيين، وضعا شيئًا ما على فمي، ثمّ أخذاني معهما، رغم مقاومتي، إلا أني لم أتمكن من الإفلات منهم، تساءلتُ مرارًا طول الطريق، ماذا سيحدث الآن؟ إلى أين هم ذاهبون بي؟
لم أتمكن من رؤية شيء، ولا من معرفة ما حدث، أذكر أني ضُربت كثيرًا حتى كدت أفقد وعيي، لكن بعد ذلك بلحظات، أحد المستوطنين قام باحضار قنينة مملوءة بالكاز، ورشني بالكامل منها، ثمّ أشعل عود الثقاب، حتى صار جسدي رمادًا.. تخففتُ الآن من كلّ شيء، انتقلت من دنيا، إلى مكانٍ لا نعرفه.. أبدًا.

الواحد والثلاثين من تموز، 2015.
فتحت عينيَّ عندما شممت رائحة بشعة، لا أدري ما هو مصدرها، لكني شعرتُ بالخوف ينهشُ أعماقي، تمسكتُ بملابسي الخفيفة لأن الطقس حارٌ جدًا، لكني أشعر به يزدادُ حرارة، أسمع صوت أمي تنادي: علي.. عليييي.. ! لماذا تصرخ أمي؟ وما هذا الألم الّذي أستشعره في أطرافي، كنت أصرخ بشدّة، لكني لا أعلم لماذا، أشعر بآلامٍ شديدة، شيءٌ برتقاليٌ وأبيض يحرق جسدي الصغير، وأنا أصرخ وأبكي، لكن أمي لا تسمعني.. أبي لا يسمعني.. ولا أخي.. لا أحد يستمع لصرخاتي..

السابع عشر من تموز، 2014.
لا أشعر بشيءٍ الآن، جسدي احترق بالكامل، وأعتقد أن أولاد عمي كذلك، ثمّة حفرةٌ كبيرة أيضًا حيث سقط الصاروخ، جسدي أصبح أسودًا بفعل القذائف، برغم الألم الجسديّ الّذي أعانيه، إلّا أني أشعر بسلامٍ روحيّ، أشعر بجسدي كالشبح يطير إلى الأعلى، خرجتُ من هنا، ذهبتُ إلى هناك.

ميساء منصور

l

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة