تركي عامر… شاعر الجليل الذي لا يعود إلى المرعى
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 03/06/25 | 5:40
في الجليل، حيث تتدلّى الغيوم فوق أشجار البلوط، وتتعلم الكلمات أن تنبت من شقوق الحجارة، وُلد تركي حسن عامر. لم يكن ميلاده مجرد لحظة زمنية في 29 كانون الأول 1954، بل كان، كما أراه الآن، ولادة صوتٍ سيحمل وجع الأرض، ونُبلَ الإنسان، وهموم اللغة، ليخطها شعرًا يتجاوز التصنيف، ويخترق التوقع.
تركي عامر ليس مجرد شاعر فلسطيني من الداخل، بل هو جزء من نسيج روحي عميق، نسجهُ بأصابعه منذ مطلع السبعينات، حين خط أولى قصائده في مجلة “الدروز”، وحتى اليوم، وهو يُمسك بالقلم كمن يمسك بمفتاح قديم، يفتح به أبوابًا منسية في أرواحنا، في ذاكرتنا، وفي الخرائط الممحوة.
من الخدمة الاجتماعية إلى الخدمة الشعرية
درس عامر الخدمة الاجتماعية في جامعة حيفا، ونال منها شهادة أكاديمية عام 1977. ومنذ ذلك الوقت، لم يتوقف عن الإصغاء للناس، للذين يسكنون الهامش، للجروح المطموسة، للذين لا صوت لهم. كان أديبًا ومربيًا ومعلمًا، لكنّ الشعر ظلّ جوهره الأعمق، ودربه الأوضح.
في قصائده، لا تجد شاعرًا نخبويًا يكتب من علٍ، بل تجد إنسانًا مشبعًا بالحياة، يُصغي، يحاور، ويكتب كمن يمسح دمعة عن خدّ طفل في قرية مهمشة، أو يربّت على كتف عجوز تروي حكايا النكبة بأصابع مرتعشة.
“لن أعود إلى المرعى”… حين تصبح القصيدة رفضًا وجوديًا
في ديوانه “لن أعود إلى المرعى”، الصادر عام 2004، يبلغ تركي عامر ذروة تمرده الشعري. لم يكن العنوان مجرّد استعارة، بل كان صرخة واضحة ضد الانصياع، ضد العودة إلى القطيع، إلى الدوائر التي تُخدّر الروح وتُؤنسن السقف دون تحرير الأرض.
في هذا العمل، نقرأ شاعراً يُمزج بين الغنائية الحادة، والتأملات الفلسفية، واللغة التي تنحت حروفها من صخر الجليل. يقول في إحدى قصائد الديوان:
“أنا لا أُجيد الركض خلفَ مرعاهمْ
ولا أُجيد الصمتَ عندَ مواسمِ الذبحِ
لستُ حملًا… ولن أعودَ إلى سكينهمْ”
هكذا ببساطة، يكتب عامر قصيدته – ليس من برج عاجي – بل من حقل، من زقاق، من مقهى شعبي، من حجر في عين قانا، من عَرق الأرض في الرامة، وفي كلّ مرة، يُخرج لنا وردة، وأحيانًا خنجراً.
الثعلب الشعري… كما يسميه من قرأه بعمق
لقّبه بعض النقاد بـ”الثعلب الشعري”، لا لمكرٍ سلبي، بل لقدرته المدهشة على المناورة اللغوية، على التسلل بين شكل وآخر، وعلى أن يكتب العموديّ، والتفعيلة، والنثر، والعامية، بل وحتى بالإنجليزية والعبرية، دون أن يفقد جوهره الفلسطيني المتجذر.
تراه يكتب العامية بحميمية، ثم ينتقل إلى قصيدة نثرية تتوهّج بالغضب الصوفي، وكأن محمود درويش التقى بنزار قباني في حوارٍ داخل رأسه.
الكتابة في الداخل… خيار وجودي لا أدبي فقط
تركي عامر ليس شاعرًا يكتب من الداخل الفلسطيني، بل هو “كِتاب الداخل” نفسه. هو مَن اختار أن يواجه المؤسسة، أن يرفض التجنيد، وأن يفقد وظيفته بسبب قناعاته، لا خوفًا ولا هروبًا، بل احترامًا لدم من سبقوه، ولأرض لم تتوقف يومًا عن الولادة.
في كتاباته، نجد أثر الكنيسة كما نجد أثر الخيمة. نجد القدس وحيفا، كما نجد دمشق وبغداد. فلسطين لديه ليست جغرافيا فقط، بل حالة وجودية، وجدانية، لغوية، وميثولوجية أيضًا. وكأنه يكتبها بأسطورة جديدة… أسطورة الغائب الحاضر، الذي لن يعود إلى المرعى، لكنه لن يترك القطيع بلا أغنية.
خاتمة من حبر وحنين
تركي عامر، في صمته، أشد ضجيجًا من كثيرين. في قصيدته، رقة وسيف، زيت وزيتون، وأمّ لم تجد بعد ابنها الشهيد. هو ذاكرة تمشي على قدمين، ووجع ناطق، ولغة تتلوّن بالشمس والملح.
أكتب عنه الآن، لأنني أومن أن شعراء مثله لا يُقرأون في دفاتر العتمة، بل يُجبَر الضوء على أن يقرأهم. ولأنه، حين يغيب، سيظل هناك ديوان في الرف، ينتظر من يفتحه، ليجد فيه فلسطين وهي تبتسم، رغم كل ما حدث… وتقول:
“ما دام تركي كتبني… لن أموت.