إيمان القاسم سليمان… حين يتحول المايكروفون إلى وطن

بقلم: رانية مرجية

تاريخ النشر: 28/05/25 | 12:52

في زمن يتكاثر فيه الصخب حتى يغدو الصمت أكثر صدقًا من الكلام، تبقى هناك أصوات تختار الصعود إلى الحلم من شقوق الحقيقة. أصواتٌ لا تسكن الأستوديوهات المكيفة ولا ترتدي أقنعة الإعلام الرسمي، بل تسكن الناس، وتقول بجرأة من لا يملك إلا ضوء الصدق: أنا هنا، من أجلكم، لا من أجل الصورة.

إيمان القاسم سليمان، ليست مجرد إعلامية عابرة في مشهد معتم، بل ابنة هذا الوطن الجريح، ومرآته التي لم تشأ أن تنكسر رغم كل ما مرّ به من تهشيم مقصود.

من يافا التي لا تنام، إلى الرامة الصامدة، إلى القدس التي تحرس الحكاية

وُلدت إيمان في مدينة يافا، المدينة التي يشتم فيها المرء رائحة البحر والبرتقال والخسارات. يافا التي لم تستسلم للنسيان، بل أنجبت أمثالها ممن قررن أن يحملن الوطن في المايكروفون.
تنتمي لعائلة من الرامة الجليلية، وتُقيم في القدس، المدينة التي لا ينام فيها الحلم ولا يستكين فيها الأمل. لكن هذه السيدة لم تختزل فلسطين بجغرافيتها الضيقة، بل اتسعت بها حتى صارت جسدًا للذاكرة الجمعية، ذاكرة تغطي اللد كما الطيرة، والرملة كما الناصرة، وتسير مع وجع الناس أينما ذهبوا.

تغطية لا تُهادن… من الرملة واللد إلى أم الفحم والطيبة

منذ أن أمسكت بالميكروفون، لم تنظر إيمان القاسم إلى المجتمع العربي في الداخل كجمهور مستهلك للأخبار، بل كحكاية غير مكتملة تحتاج لمن يعيد روايتها كما هي، بلا رتوش.
الرملة واللد لم تكونا هامشًا في تغطياتها، بل كانتا القلب النابض للأجندة. تحدثت عن التهجير الناعم في حي الجواريش، وعن سياسة الخنق العمراني في اللد، عن المدارس المنهكة، وعن البيوت التي يُهدم بعضها بحجة “التنظيم”، ويُقتل بعضها الآخر برصاصة طائشة.

في زمن يُسخّر فيه الإعلام لتجميل القبيح، اختارت إيمان أن تقول القبيح كما هو. لا تتحذلق، ولا تتبرج بالكلمات. تفتح المايكروفون للمرأة التي فقدت ابنها، للشاب الذي سُلب مستقبله، وللشيخ الذي صودرت أرضه.
حين تحدثت عن اللد، لم تذكر فقط تاريخها، بل أعادتنا إلى وجه المدينة المغيّب، إلى الشوارع التي لم تعد تعرف أبناءها. وحين غطّت أحداث الرملة، لم تتحدث بلغة تقارير جافة، بل بلغة امرأة تسمع الأنين وتفهم تفاصيل الخذلان.

“على الأجندة”… حين يتحول الأثير إلى منبر للمقهورين

في برنامجها الأشهر “على الأجندة”، لم تكن محاورة تقليدية، بل صوتًا يحمل السؤال بجرأة والإجابة بأمانة.
سألت: لماذا يُقتل أبناؤنا؟ من يحكم مدننا؟ أين المعلم؟ أين المدرسة؟ أين الطفولة؟ أين العدل؟ لم تكن الأسئلة ترفًا بل شقوقًا في جدار الصمت، صرخة من داخل البيت.

استمعت إلى المقموعين لا كمقدمة برنامج بل كابنة هذا المجتمع، تعرف تفاصيله، وتكتم أوجاعه في صدرها لتقولها كاملة على الهواء.

امرأة تقاوم بصدقها، لا بزعيقها

إيمان القاسم سليمان لم تكن يومًا من هواة الاستعراض الإعلامي، ولم تُسخّر صورتها للنجومية المجانية. كانت تقاوم بهدوئها، بثباتها، بقدرتها على أن تقول ما يجب قوله.
لم تكن حيادية بالمعنى البارد، بل موضوعية بالمعنى العادل. انحازت للحق حين كان الانحياز مكلفًا، ووقفت على مسافة واحدة من الجميع حين تعلق الأمر بالمبدأ.
عرفت أن الكلمة أمانة، وأن المرأة الفلسطينية حين تمتلك المنصة، لا بد أن تُعيد للناس أصواتهم.

بين المهنية والإنسانية… بيتٌ مفتوح وصوتٌ صادق

وفي حلقتها الخاصة من برنامج “رشة ملح”، حين دخلنا بيتها، رأينا من هي خارج الأثير: أم لنسيم وساري وراني، زوجة لفؤاد ابن عيلبون، سيدة من طين هذه البلاد.
بيتها كما صوتها: صادق، شفاف، دافئ، عابق بالكرامة، مليء بالتفاصيل التي تشبهنا.

التكريم الحقيقي: حين يحبك الناس لأنك أنت

رغم الجوائز التي نالتها، منها وسام “الحياة المشتركة” من قبل مبادرات إبراهيم، إلا أن التكريم الأهم هو حب الناس. الناس الذين وجدوا فيها صوتهم، ووجعهم، وحلمهم المؤجل.
لم تغيرها الأضواء، ولم تُبعدها المراتب. بقيت على عهدها، تذهب إلى الأستوديو لا لتُجمّل الصورة، بل لتُعيد بناء الحكاية من جديد، حكاية شعب ما زال يُقاوم بالموقف، بالحرف، وبالكرامة.

ختامًا…

إيمان القاسم سليمان هي أكثر من إعلامية. هي ذاكرة وطن يُخشى أن يُنسى، وهي ضمير صوتي لا يخاف، وهي نموذج لامرأة تعرف جيدًا أن الطريق إلى الحقيقة لا يُعبد بالسكوت، بل بالصدق، وبالوجع أحيانًا.

في زمن بات فيه الإعلام بوقًا للسلطة، اختارت إيمان أن تبقى صوتًا للناس.

وفي زمن تُشترى فيه الكلمات، حافظت على شرف الحرف.

وفي وطنٍ يتناقص فيه الضوء، كانت هي الضوء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة