عايدة توما سليمان… حين تنطق عكا في الكنيست وتفضح الظلم بلغة لا تتلعثم
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 28/05/25 | 7:12
في زمن تتكسر فيه المبادئ على موائد المصالح، وفي عصر تُبتلع فيه القضايا الكبيرة بين براثن الصمت المُخجل، تقف سيدة عكاوية كأنها آخر قلاع الموقف في وجه الطوفان، ترفع صوتها لا لترفّعه عن الناس، بل لتُعيد للناس صوتهم. إنها عايدة توما سليمان، المرأة التي اختارت أن تمشي على الأسلاك الحادة بين الانتماء والاشتباك، بين الوطنية والمسؤولية، بين أن تكون داخل المؤسسة دون أن تذوب فيها، وبين أن تُعلن الرفض من قلبها لا من هامشها.
عكا… لا تنجب أبناءً عاديين
أن تكون ابنة عكا، المدينة التي قاومت نابليون، المدينة التي أجهضت مشاريع التهويد والطمس مرارًا، يعني أن يكون فيك شيء من ملوحة البحر، من صبر الصيادين، من صوت النداءات في الميناء، من وجع الأزقة التي لا تخون.
في عكا لا يُولد الناس عبثًا. هناك يُولدون محمّلين بالتاريخ، بالمسؤولية، وبالتمرد.
ومن هناك جاءت عايدة… لا تتقن المواربة، ولا تتفنن بالتزييف. جاءت من هناك كما يجيء الغضب النبيل: صادقًا، نقيًّا، لا يخاف أن يُعرّي القبح ولا يتردد في الوقوف وحيدة إن اقتضى الأمر.
أنثى في مواجهة برلمان عنصري
في الكنيست الإسرائيلي، حيث تُسن القوانين العنصرية بهدوء قاتل، وتُداس الحقيقة تحت وطأة الابتسامات المزيفة، كانت عايدة مثل صخرة في مجرى ماء آسن.
لم تأتِ إلى الكنيست لتلبس “بدلة رسمية” تُخفي ملامحها الفلسطينية، ولم تجلس في مقاعد المعارضة كديكور نسائي ناعم، بل كانت ثورة تمشي، امرأة تفهم أن العدو لا يُهادَن، وأن القهر لا يُجامل.
رفعت صوتها ضد قانون القومية، وقالت: “أن تكون فلسطينيًا اليوم يعني أن تُقصى رسميًا، أن تتحول إلى غريب في وطنك”.
واجهت الاحتلال كما واجهت قمع الشرطة في الداخل، من الناصرة إلى أم الفحم، من اللد والرملة حتى الطيبة والنقب. لم تختر طريق “التعايش المزيف”، بل طريق المواجهة الذكية، الصلبة، الأخلاقية.
بين العدالة والأنوثة… معركة لا تتوقف
في مجتمع مزدوج القمع، حيث السلطة تحتقر الفلسطيني، والمجتمع الذكوري يقمع المرأة، اختارت عايدة أن تخوض المعركتين معًا.
هي لم تتاجر بكونها “أول امرأة عربية في لجنة النهوض بمكانة المرأة” فحسب، بل حوّلت هذه اللجنة من مجرّد هيئة رمزية إلى ساحة صراع حقيقي، فضحت خلالها خذلان الدولة، وسلطت الضوء على قتل النساء العربيات، وعلى تواطؤ الشرطة وصمت المجتمع.
قالتها صريحة: “دم النساء ليس أقل من دم الرجال. من يصمت على الجريمة شريك فيها”.
وخاضت معركة المصطلحات كما تخوض معركة السياسة. رفضت تسمية “جرائم شرف”، وسمّتها بما هي عليه: جرائم قتل، واغتيالات لكرامة النساء.
فلسطين لم تكن شعارًا بل مبدأ
لم تسجن عايدة فلسطين في خطاب رمزي. فلسطين عندها ليست خارطة على جدار، بل ذاكرة حيّة، وكرامة مشتهاة.
في كل موقف، كانت تقول فلسطين كاملة: من غزة تحت القصف، إلى جنين المحاصرة، إلى القدس المستباحة، إلى النقب الذي يُهدم على رؤوس ساكنيه، إلى اللد والرملة حيث يتم تهجير الناس تحت غطاء القانون.
هي لا ترى الخط الأخضر فاصلاً بين مقاوم وآخر، بل ترى فيه خيطًا واهنًا حاولوا به تفتيتنا، لكنها لم تسمح له أن يخترق قناعاتها.
لا تخجل من هويتها، ولا تُراوغ بلغتها
عايدة توما سليمان تتحدث العربية في الكنيست كما تتنفس. لا تتلعثم، لا تُترجم نفسها، ولا تُخفف مفرداتها.
حين يتكلم الآخرون بحذر، هي تتكلم بالحق. وحين يداري البعض غضبهم خوفًا على منصب، هي تُعلن غضبها حبًا لهذا الشعب.
هي تُدرك أن الحضور السياسي دون حضور لغوي هو انسحاب ضمني. ولذلك، فإن حديثها بالعربية ليس موقفًا لغويًا فحسب، بل مقاومة ثقافية.
سجالاتها ليست استعراضًا بل مواجهة حقيقية
حين صرخت في وجه وزير الأمن الداخلي متهمة الشرطة بالتقاعس والتواطؤ، لم تفعل ذلك بحثًا عن عنوان في الصحف، بل لأنها كانت تحمل في قلبها كل صرخة أمّ دُفن ابنها في صمت، وكل شابة قُتلت في العتمة.
حين وقفوا بوجهها، لم تتراجع، بل نظرت إليهم جميعًا وقالت: “أنتم المشكلة، أنتم الجريمة”.
هذا النوع من الخطاب لا يُشترى، ولا يُصنع في حملات انتخابية. بل يُصاغ من الحارات، من البيوت التي تهتز تحت وقع الهدم، من قلوب الناس التي تعرف أن في عايدة شيئًا منهم.
ليست بطلة، بل إنسانة ملتزمة
ما يميز عايدة أنها لم تدّع البطولة. هي إنسانة ملتزمة، متواضعة، تقود لأنها تؤمن، لا لأنها تريد التصفيق.
هي لا تغازل الشارع بخطابات غوغائية، بل تُقدّم له الحقيقة وإن كانت قاسية.
تجلس مع الناس، تواسيهم، تسمع، وتحمل الهمّ. وفي عالم السياسة المحكوم بالتجرد من العواطف، احتفظت عايدة بإنسانيتها كدرع لا يُخترق.
ختامًا…
في زمن تتبدد فيه الثوابت، وتُبتلع فيه الشخصيات، تبقى عايدة توما سليمان استثناءً نقيًا.
امرأة من عكّا، المدينة التي لم تُهزم.
امرأة تقول ما لا يقال.
تمشي وسط الركام، ولا تنكسر.
تُعلن الحقيقة في وجه البرلمان الذي يكره الحقيقة.
تخترق جدار الخوف، وتُعلّمنا أن الحضور ليس بالعدد بل بالموقف.
عايدة ليست مجرد نائبة…
هي مرآة غضبنا، وصوت نسائنا، وقلب عكا الذي لا يهدأ