بعضٌ من جدل فلسفة التغيير!

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 22/05/25 | 6:47

كل شيء في هذا الوجود خاضع للتغيّر؛ فهل هناك من يُمكنه الاعتراض على ذلك أو إنكاره؟
بالتأكيد لا؛ فالتغيّر أو التحوّل هو حقيقة ثابتة لا مجال للشك فيها، ولا يمكن لأي إنسان عاقل أن ينكرها أو يعترض عليها، حتى ولو بأدنى إشارة. كما أنَّ من غير المعقول أن يتجرأ عاقل ويزعم أنَّ التغيّر مجرد اكتشاف توصّل إليه شخص ما، وكأنّه لم يكن موجودا من قبل.

الإيمان بالتغيّر، أو الحديث عنه، أمر لا يحتاج إلى برهان، إذْ يُعد من البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان، فهو حقيقة مطلقة لا جدال فيها. ومع ذلك، أصرّ بعض الأشخاص على السعي خلف استثناء وحيد، فأهدروا الكثير من الوقت والجهد في محاولاتهم لإيجاد كيان لا يطاله التغيّر على الإطلاق، وكأنهم يبحثون عما يملأ الفراغ بعد “إلّا”. وهكذا استقر رأيهم على عبارة: “كل شيء يتغير إلّا الله”.

أما التغيّر، في أبسط صوره، فهو يعني أنَّ الأشياء لا تبقى على حالها، أو أنها تنتقل من حالة إلى أخرى مغايرة لما كانت عليه. وهذه الحقيقة يمكن إدراكها بشكل مباشر من خلال الحواس؛ إذْ نُشاهد التغيّر بأعيننا، ونلمسه عبر حواسنا الخمس. بل إننا نؤكد وجوده أيضا من خلال الأدوات التي توسّع قدراتنا الحسية، مثل المجاهر والتلسكوبات، التي تُمكّننا من رؤية تحوّلات لم تكن تُرى من قبل.

كل ما في الوجود يظهر إلى الحياة ثم يختفي، يُخلق ثم يفنى؛ فكل شيء في حالة دائمة من التحوّل، لا يهدأ لحظة واحدة. والتغيّر مرتبط بالزمن ارتباطا لا يمكن فصله، إذ لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر. فلو افترضنا وجود تغيّر من غير زمن، أو زمن من غير تغيّر، لَكُنّا نتحدث عن وهم لا أساس له، عن شيء لا يمكن أنْ يوجد أصلاً.

ومع ذلك، لا بد لنا من التوضيح والتأكيد على أمر مهم: أنَّ لحظتي الولادة والموت لا تُعدّان من ضمن الزمن الذي يعيشه الشيء، ولا تدخلان في إطار تغيّره. فالتغيّر لا يحدث إلا لشيء موجود بالفعل؛ أما الوجود نفسه، فإنه يمتد زمنياً من لحظة الظهور إلى لحظة الاختفاء. ومن هنا، يكون التغيّر محصورا ضمن هذا الامتداد، لا شاملاً لنقطة البداية أو النهاية.
لقد قلنا إنَّ من الحقائق الثابتة التي لا شك فيها أنَّ “كل شيء يتغيّر، ما عدا التغيّر نفسه”، فهو وحده لا يتبدل. فهل تستطيع أنْ تأتي لنا بشيء واحد تقول عنه: “هذا لا يتغيّر أبدا، لم يتغير من قبل، ولن يتغيّر في المستقبل”؟
في الحقيقة، هذا طلب مستحيل، لأنَّ كل الأشياء وُجدت نتيجة للتغيّر، وتستمر في البقاء من خلاله، وتنتهي أيضا بسببه. وحتى عندما تزول أو تموت، فإنها لا تفنى دون أنْ تُحدث نوعا من التغيّر في شيء آخر.

وهناك حقيقة أخرى لا تقل وضوحا: وهي أنَّ “التغاير” أي الاختلاف بين الأشياء يسير جنبا إلى جنب مع “التغيّر”. فإذا قلنا إن شيئا يتغيّر، فلا بد أن نُقرّ بأن هناك اختلافا بينه وبين أشياء أخرى، لأن التغيّر لا يحدث في عالم من الأشياء المتطابقة، بل في عالم كل عنصر فيه يختلف عن الآخر.
في هذا الكون، وفي الطبيعة تحديدا، لا نجد إلا الأشياء التي توجد دائما في ترابط وتفاعل متبادل؛ فلا وجود حقيقي لشيء معزول عن غيره. والواقع أنَّ كل ما له كيان مستقل هو ما لا يشبه غيره، ولا يوجد له مثيل. فالوجود الحقيقي هو من نصيب ما يملك فرادته الكاملة. أما إذا وُجد شيئان متماثلان تماثلاً تاماً، دون أي اختلاف، فإنهما في الحقيقة ليسا اثنين، بل هما شيء واحد لا أكثر.
ولتوضيح هذه الفكرة وجعل معناها أكثر بساطة وقرباً للفهم، دعني أطرح سؤالا: هل يوجد ما يمكن أن نُسميه “الإنسان العام”، أي الإنسان بشكل مجرد أو مطلق؟
الجواب هو: لا، لا وجود لهذا المفهوم في الواقع. الإنسان الحقيقي هو دائما فرد بعينه، إنسان محدد في زمان ومكان، مثل هذا الشخص الذي نراه الآن، في هذا الموضع بالذات، واسمه “محمد”، وله عمر محدد، وطول معين، ولون بشرة خاص، ويتحدث بلغة ما، وله مهنة بعينها.
وكلما أضفنا مزيدا من التفاصيل الدقيقة، زادت فرادة هذا الشخص وتفرده، حتى يصبح واضحا أنَّ “محمد” لا يمكن أنْ يتكرر، ولا يمكن أنْ يوجد له مثيل تماما، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولا في أي مكان في هذا العالم. إنه كالبصمة، لا شبيه له على الإطلاق.
إنَّ “محمد” هذا هو مثال على “الفرد”، والفرد هو الشكل الوحيد للوجود في الطبيعة أو الكون؛ فلا وجود هناك إلا للأفراد. غير أنَّ الفرد لا يكون موجودًا بالفعل إلا إذا احتوى في داخله شيئا أعمّ، شيئا عاما يتدرّج من الأعلى إلى الأسفل، كمن ينزل من قمة هرم نحو قاعدته. هذا “العام” لا يُدرك من خلال النظر أو بالحواس الظاهرة، بل يُدرك بالبصيرة، أو ما يمكن تسميته بـ “العين الثالثة”، أي عين العقل.
وهذا المعنى العام لا يُدركه سوى الإنسان، لأنه كائن اجتماعي ناطق، يملك العقل، ويبتكر أدواته ويستخدمها، ويتعامل مع اللغة، ويملك القدرة الذهنية واللغوية على “التجريد”؛ أي على تمييز العام واكتشافه داخل ما هو خاص أو فردي.

كل شيء في هذا العالم يخضع للتغيير؛ وكل الأشياء تتفاوت وتتباين؛ فلا يوجد شيء يمكن أنْ يكون متماثلاً مع شيء آخر بشكل كامل. وهذه حقيقة ثالثة لا شك فيها، وهي نتيجة للحقيقة الأولى، وهي أنه لا يوجد شيء يمكن أنْ يكون متماثلا حتى مع نفسه بشكل مطلق. فكل شيء هو نفسه وفي ذات الوقت ليس هو نفسه في كل لحظة.
ولكن، ما المقصود بعبارة “في كل لحظة”؟
خذ مثالاً على ذلك: راقب زهرة على شجرة حية تنمو في حديقة منزلك . إذا تابعتها لأيام عدة، ستلاحظ أنه بعد فترة من الزمن ستلاحظ تغييرا واضحا فيها، حتى أنك ستقول: “لقد تغيَّرت الزهرة بشكل ملحوظ”.

قبل أنْ تلاحظ التغيير الملحوظ في الزهرة، كانت قد شهدت العديد من التغييرات الصغيرة على مدار الوقت. ويمكنك أنْ تقول إنَّ الزهرة تتغير كل يوم، بل ربما كل ساعة، أو حتى كل دقيقة، بل قد تكون التغيرات تحدث في كل ثانية، أو حتى في كل نصف ثانية، أو ربما في كل جزء من أجزاء الثانية.

هل يمكننا أنْ نجد جزءا من الزمن صغيرا للغاية حتى نعتبره “جسيما أوليا” للزمن؟
هل هناك لحظة زمنية، مهما كانت ضئيلة، لا يمكن تقسيمها إلى أصغر منها؟
في كل لحظة من الزمن، مهما كانت صغيرة، يحدث تغير في الزهرة. هذا التغير يعني أنَّ الزهرة في كل لحظة هي نفسها وفي الوقت نفسه ليست هي نفسها؛ حتى لو كانت تلك اللحظة هي أصغر جزء ممكن من الزمن. فالزهرة لا تظل ثابتة في مكانها في كل لحظة؛ بل إنَّ مكانها، من منظور الكون كله، يتغير باستمرار. كذلك، في كل لحظة، تتبادل الزهرة المادة أو الطاقة مع بيئتها الطبيعية على مختلف مستوياتها. وتستمر الزهرة في التغير من حيث تركيبها، مكوناتها، مقاديرها، وأنواع مكوناتها مثل الجزيئات والذرات والجسيمات، وحركة هذه المكونات في الفضاء.

افترضوا أنَّ الثانية هي أصغر وحدة زمنية ممكنة، وافترضوا أيضا أنَّ الزهرة لا تشهد أي تغير في هذه “اللحظة الزمنية الدقيقة”. فكيف إذاً يمكن لها أنْ تتغير كل دقيقة، أو ساعة، أو يوم؟
مفهوم “التغير”، في جوهره وفي أعمق معانيه، لا يمكن اختزاله في عبارة مثل “كل شيء يتغير” أو “كل شيء يتغير باستمرار”. الطريقة الأفضل للتعبير عن هذا المفهوم هي في القول: الشيء هو نفسه، وفي نفس الوقت ليس هو نفسه، في اللحظة ذاتها. والجزء الأكثر أهمية في هذا القول هو عبارة “في اللحظة ذاتها”.
في تلك اللحظة نفسها، مهما كانت ضئيلة جدا، يكون الشيء هو ذاته وفي نفس الوقت مغايرا له. التغيير، بهذا المعنى، يشبه حركة الجسم في المكان؛ فحركة الجسم تعني أنه في نفس اللحظة يكون الجسم في موقع معين وفي موقع آخر في الوقت ذاته.
لنستعرض الآن كيف يمكننا التعبير عن “التغيير” باستخدام “اللغة”.

في سياق “التغيير”، نقول على سبيل المثال: “كان محمد سمينا” أو “أصبح محمد سمينا”.
لنحاول التأمل في “المعنى الفلسفي” الكامن وراء كل من هاتين الجملتين.
عندما نقول “كان محمد سمينا”، فنحن نفترض أنه أصبح الآن “نحيفا”، حيث إن “النحافة” هي النقيض المباشر لـ “السمنة”. بهذا المعنى، يمكننا القول إن محمد قد “تغير”. فهل يمكنك أن تقدم لنا أي تغيير يختلف عن هذه القاعدة؟
لا يوجد تغيير، في الحقيقة، إلا بمعنى “تحول الشيء إلى نقيضه”. ففي حالة محمد، تحولت سمنته إلى نحافة (وبالعكس، يمكن أن تتحول نحافته إلى سمنة). كان محمد سمينا، أما الآن فقد أصبح نحيفا.

حاليا،محمد “نحيف”. وبعد مرور بعض الأشهر، قد نقول: “أصبح محمد نحيفا” أو “ازداد محمد نحافة”. وهذا يعني أن محمد، الذي قلنا عنه سابقا “أصبح نحيفًا”، لا يزال يحمل بعض صفات “السمنة”، لأن كيف يمكنه أن يصبح نحيفا أو يزداد نحافة إذا لم يكن قد كان سمينا في البداية؟
من منظور فلسفي، “نحافة”محمد لا تعني شيئا سوى هذا: كان محمد سمينا، والآن أصبح نحيفا لأن سمنته “نُفيت” و”احتُفظ بها” في ذات الوقت. فالنحافة ليست إلا “سمنة نُفيت واحتُفظ بها في نفس اللحظة”. ويمكننا تطبيق هذا المفهوم على كل تغيير: فمثلا، “الحركة” هي “سكون نُفي واحتُفظ به في الوقت نفسه”، و”الحرارة” ليست إلا “برودة نُفيت واحتُفظ بها في ذات الوقت”.

انظر الآن إلى الزمن ومعناه في نفس الجملة مثل جملة “كان محمد سمينا” أو “أصبح محمد سمينا”.
إذا تمعنت في ذلك جيدا، ستجد أن الاستنتاج الطبيعي هو أنه لا يوجد زمن دون تغيير، ولا تغيير دون زمن؛ فكل من الزمن والتغيير مرتبطان ارتباطًا لا يمكن فصلهما.
إذا ظل الشيء على حاله في الماضي والحاضر والمستقبل، فما معنى وجود هذه المفاهيم: الماضي، الحاضر، والمستقبل؟
الشيء الذي تراه الآن له ماضٍ ومستقبل، لأنه يختلف عما كان عليه في الماضي، وسيظل مختلفا في المستقبل.
“الماضي” و”الحاضر” و”المستقبل” هي مفاهيم زمنية لا يمكن فهمها أو حتى أن يكون لها معنى إذا لم يتغير الشيء بشكل مستمر. فهل يمكنك أن تقدم لي شيئًا له ماضٍ، ولكنه في الماضي كان مطابقًا تماما لما هو عليه الآن في الحاضر؟
هل يمكنك أن تجد شيئا يتغير بشكل مستمر ولكن خارج نطاق الزمن، رغم “عدم وجود الزمن”؟
كل شيء يتغير، ولكن هل التغيير يشير إلى أن كل شيء يتكرر؟
في التغيير، نجد ما يعزز مفهوم التكرار وفي الوقت نفسه ما ينفيه.

من منظور هندسي، التغيير أو التطور لا يمكن تصنيفه على أنه “دائرة” أو “خط مستقيم”. هو في الواقع شيء بين هاتين الحالتين؛ إنه يشبه الشكل الحلزوني أو اللولبي، سواء كان خطا أو مسارا. يمكننا أن نعتبره تركيبا معقدا يتضمن “الدائرة” و”الخط المستقيم” معا. في التغيير، هناك عنصر من “التكرار” و”الارتقاء” في آن واحد؛ فهو يشهد عودة إلى الماضي، وفي الوقت نفسه، يصعد ويترقى نحو المستقبل بشكل مستمر. يتضمن التغيير ما يدعم “التكرار”، وأيضا ما يرفضه في ذات اللحظة.

في علم المنطق، يُعتبر “السالب” عكس “الموجب”، وعندما نلغي “السالب”، فإننا نرجع إلى حالة “الموجب” من جديد. لكن هذا “الموجب” الذي نعود إليه ليس بالضرورة مطابقا تماما لـ”الموجب” الأول؛ إذ إن هناك اختلافات دقيقة تختبئ تحت هذا التشابه الظاهري.

ولنوضح ذلك بمثال: لنفترض أن محمد كان وزنه 120 كغم، ثم بدأ يفقد الوزن حتى وصل إلى 100 كغم، واستمر في النحافة حتى أصبح يزن 70 كغم. في هذه المرحلة، يُعد محمد شخصًا نحيفا.

لو زاد وزنه لاحقًا إلى 75 كغم، يمكننا القول إنه بدأ يكتسب بعض السمنة من جديد. الآن، تخيل أن محمد مر بنفس رحلة الوزن: كان سمينا (120 كغم)، ثم أصبح أقل وزنا، وتابع رحلته في فقدان الوزن حتى صار نحيفا، ثم عاد وزنه ليصل إلى 75 كغم. فهل يمكننا القول إن محمد عاد إلى حالته الأولى تماما؟

الإجابة هي لا. فرغم أن محمد قد رجع إلى نطاق الوزن الذي يُعد فيه سمينا نوعا ما، إلا أن تجربته مع النحافة غيّرته، ليس فقط في جسمه، بل ربما في أسلوب حياته، نظرته للأمور، أو حتى حالته الصحية. فـ”السمنة الجديدة” التي وصل إليها محمد ليست نسخة مطابقة لما كان عليه في السابق؛ بل تحمل معها آثار المرحلة التي مرّ بها، وبعض هذه التغييرات لا تزول تماما، بل تظل حاضرة فيه.
لا يمكن التخلص من السمنة إلا ببلوغ حالة النحافة، كما لا يمكن إنهاء النحافة إلا بالعودة إلى السمنة. لكن من المهم أن نفهم أن “النفي” هنا لا يعني الإلغاء التام، بل يعني الإلغاء مع بقاء شيء من الأصل. فإذا اعتبرنا أن التغير أو “التطور” يحدث عندما يتحول الشيء إلى نقيضه، فإن هذا التحول لا يتم إلا من خلال صراع بين النقيضين، ومن داخله.

وهكذا، لا توجد سمنة أو نحافة بشكل منفصل تماما عن الآخر، بل هما مرتبطان بشكل وثيق، في المكان والزمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بشكل كامل.

وعندما نتأمل حالة محمد، الذي بدأ ينقص وزنه تدريجيا، درجة بعد درجة، نجد أنه في كل مرحلة من مراحل نحافته، كان لا يزال يحمل شيئا من السمنة السابقة. ومع كل تقدم في سلم النحافة، تقل ملامح السمنة التي يحملها، وتبتعد تدريجيا عن تلك التي كانت في بدايته، لكنها لا تختفي تماما.
بدأ محمد رحلته نحو النحافة، تماما كما سبق له أن قطع مشوارا نحو السمنة. لكن لا طريق يستمر إلى ما لا نهاية؛ فحتى لو استمر محمد في فقدان الوزن، لن يصل أبدا إلى وزن كيلوغرام واحد مثلا، ومهما زاد وزنه، فلن يبلغ ألف كيلوغرام.

هناك حدود قصوى لكل من السمنة والنحافة، لا يمكن تجاوزها. وبين هذين الحدين، توجد نقطة توازن دقيقة، يصعب فيها التمييز بين السمنة والنحافة؛ فهي تمثل حالة وسطى يندمج فيها الضدان.

في هذه الحالة، تكون السمنة قد فقدت من سماتها ما يجعلها أقرب إلى النحافة، وتكون النحافة قد اكتسبت من صفات السمنة ما يجعلها غير بعيدة عنها. إنها لحظة الاعتدال، حيث لا يغلب أحد الطرفين على الآخر، بل يتداخلان بطريقة تجعل الفصل بينهما أمرا معقدا.
لا يمكن فصل أي كائن عن حالته التي يكون عليها؛ فكل شيء لا يكون موجودا إلا من خلال شكل معين من أشكال الوجود. إن الوجود لا يحدث في فراغ، بل يأتي دوما محاطا أو متجسدا في هيئة أو وضع محدد. لا يمكن أن يوجد الشيء “بلا حال”، كما لا يمكن تخيّله خارج إطار حالة ما تميّز وجوده.

تأمل مثلاَ جسماً يتحرك في الفضاء. هذه الحركة ليست إلا واحدة من صور وجوده. فالجسم حين ينتقل من موقع إلى آخر، يكون موجودا ضمن حالة الحركة في المكان. هذه الحالة تعبّر عن وجوده الآن. فهل يمكنك تصوّر حركة في الفضاء بلا شيء يتحرك؟

الحركة لا تكون إلا مرتبطة بجسم أو جسيم معين، إذ لا معنى لحركة منفصلة عن كيان يتحرك. ومع ذلك، فإن هذا الكيان الذي يتحرك يمكنه أن يوجد حتى في غياب تلك الحركة. أي أن وجوده لا يتوقف على تلك الحالة بعينها، رغم أنه حين يكون في حالة حركة، فإن حركته تصبح جزءا من صورته الوجودية في تلك اللحظة.
ولكي لا يُفهم المقصود على نحو خاطئ، يجب التوضيح أن ما نطلق عليه “الفراغ” هنا، أي غياب حركة الجسم في الفضاء، لا يعني انعداما تاما، بل هو ممتلئ بحالة مقابلة: السكون. فحين لا يتحرك الجسم، أو حين تتوقف حركته، فإنه لا يصبح بلا حال، بل يدخل في حالة سكون؛ وهذا السكون هو شكل آخر من أشكال وجوده.

ومن المهم أيضا ألا يُساء فهم العلاقة بين الحركة والسكون، إذ لا وجود لسكونٍ خالٍ من أثر حركة، ولا لحركةٍ تخلو تماما من سكون؛ فهاتان الحالتان لا تنفصلان، بل تتلازمان دوما في الزمان والمكان، وتتكاملان رغم تعارضهما الظاهري.

ولذلك، لا يمكن إدراك حالة وجود أي شيء بشكل موضوعي ودقيق إلا من خلال منظورين أساسيين: الجدل الذي يفسر التفاعل والصراع بين الأضداد، والنسبية التي تبيّن أن هذه الحالات لا تُفهم إلا من خلال علاقتها ببعضها البعض.

تأمّل جسما يتحرك في الفضاء بسرعة تبلغ 3000 متر في الثانية. هل يمكننا أن نصفه من حيث حالته الوجودية بأنه سريع؟
ربما تقول: نعم، إنه سريع. بينما قد يرى شخص آخر أن هذه السرعة لا تُعدّ كبيرة، ويصفه بالبطيء.

الحقيقة أن كلا الرأيين صحيح فقط إذا تمّ النظر إليهما من زاوية نسبية؛ فالحكم على سرعة الجسم لا يكون مطلقا، بل يعتمد على مرجعية المقارنة. على سبيل المثال، إذا كان هناك جسم آخر يتحرك بالقرب منه بسرعة 800 متر في الثانية، فبمقارنة الاثنين، سنجد أن الجسم الأول يبتعد عن نقطة معينة أسرع من الثاني، فيُعتبر وفق هذا المعيار أسرع.

وقد يُعدّ سريعا أيضا إذا قارنا حركته الحالية بسرعته السابقة، أو حتى بأقصى سرعة يمكن أن يبلغها. فلو كانت سرعته القصوى الممكنة هي 3200 متر في الثانية، فإن تحركه الآن بسرعة 3000 متر/ث يجعله قريبا من الحد الأعلى لأدائه، مما يدعم وصفه بالسرعة.

لكن هذا كله منظورك أنت؛ فقد يرى آخر أن هذا الجسم لا يتحرك إطلاقا، بل يبدو له ساكنا، بناءً على موقعه أو على إطار مرجعي مختلف تماما.

عندما تقول إن هذا الجسم يتحرك، بل وتصفه بأنه سريع، فأنت على حق. وبالمثل، إذا قال شخص آخر إن الجسم ذاته ساكن لا يتحرك، أو أنه يتحرك ببطء، فهو أيضا محق.
كيف يمكن أن يكون هذا صحيحا من الطرفين؟ الجواب يكمن في فهمنا للنسبية: فالحركة والسكون، كما السرعة والبطء، كلها مفاهيم نسبية، لا معنى لها إلا بالمقارنة مع شيء آخر أو من منظور محدد.

هذا التفسير ليس فقط نتيجة منطق “النسبية”، بل تؤكده أيضا قواعد “الجدل”؛ إذ لا تكون النسبية ممكنة إلا إذا أمكن لشيء واحد أن يُدرَك بوجهين متضادين في اللحظة نفسها، بحسب زاوية النظر. فالجسم قد يكون في آنٍ واحد، متحركا وساكنا، سريعا وبطيئا، تبعا لمن يراقبه ومن أين يراقبه.

لكن لا يصح أن نخلط بين الأضداد في غير موضعها؛ فلو قال أحدهم إن محمد يرى الجسم سريعا، بينما يراه آخر طويلا، فهذا ليس منطقا نسبيا. النسبية الحقيقية تقوم فقط عندما يتعلق الحكم بضدين حقيقيين، مثل سريع وبطيء، أو متحرك وساكن ، داخل وحدة واحدة لا يمكن فصل طرفيها.

ومن هذا المنطلق الجدلي، جرّب أن تطبق هذا الفهم على عملٍ تنوي إنجازه ، لنفترض أنه تحريك طاولة ثقيلة من مكانها. انظر إليه بعين توازن بين الأضداد، فربما يكشف لك هذا المنظور كثيرا مما لا تراه من زاوية واحدة فقط.
حين دفعتَ الطاولة بيديك مستخدما قدرا معينا من القوة، بدأت تتحرك. لكن ما الذي حدث فعليا من منظور التفكير الجدلي؟
لقد قمت بعمل ليس مجرد دفع جسدي، بل مواجهة فعلية مع قوى مضادة كانت تمنع الطاولة من الحركة. لقد دخلت في صراع مع “قوى السكون” التي تبقي الطاولة ثابتة في مكانها كقوة الاحتكاك وقوة القصور الذاتي واستطعت التغلب عليها. وكانت نتيجة هذا التغلب هي تحرّك الطاولة.

فالحركة، في منطق الجدل، لا تحدث عشوائيا، بل تنشأ نتيجة حتمية لصراع بين قوى الدفع التي تُمارسها، وقوى المقاومة التي تعيق الفعل. لا يمكن أن تتحرك الطاولة إلا إذا فُرض عليها تغيير قسري في حالتها الساكنة، وهذا التغيير لا يتم إلا من خلال صراع تتفوّق فيه قوة على أخرى.

ولذلك، قبل أن تنجح في تحريك الطاولة، لا بد أن تواجه مقاومة، وتكسر حالة التوازن التي كانت تفرض بقاءها في مكانها. لا حركة دون صراع، ولا نتيجة دون مجابهة. وكل فعل يحمل في داخله مواجهة ضمنية مع ما يقف ضده.
قد يخطر ببالك أن تلك القوى التي وقفت في وجه محاولتك لتحريك الطاولة لم تكن موجودة قبل أن تبدأ، لكن هذا غير صحيح. فهذه القوى لم تنشأ بفعل حركتك، بل كانت كامنة منذ البداية، موجودة في ذات الطاولة، وفي العلاقة بينها وبين سطح الأرض.

ما حدث ببساطة هو أنك، بمجرد أن بدأت الدفع، أيقظت تلك القوى الخفية، وجعلتها تدخل حيّز الفعل. كلما حاولت أن تقوم بعمل ما، فإنك في اللحظة نفسها تستدعي القوى التي تقاومه. لا يمكن لأي فعل أن ينشأ دون أن يُقابل مباشرة بضده.

القوى في هذا العالم لا تظهر فرادى، بل دائما في شكل ثنائيات: قوة تقابلها قوة مضادة. يظهران معا، يتفاعلان معا، ويزولان معا. إنها طبيعة الصراع الكامن في كل حركة وكل تغيير.

لو لم تكن هناك قوى تعيق تحريك الطاولة، لما كان لتحريكها أي معنى أو حتى إمكانية. فوجود القوى المقاومة، والدخول في صراع معها، ثم التفوق عليها، هو ما يجعل الحركة ممكنة ويحوّلها إلى واقع ملموس.

إن ما نسميه “تحريك الطاولة” ليس إلا نتيجة حتمية لصراعٍ تمّ خوضه ضد حال السكون التي كانت الطاولة عليها، بكل ما تحمله من أسباب وظروف تمنعها من الحركة. وما إن تنتصر قوة الدفع على تلك المقاومة، حتى تتحقق الحركة بوصفها ثمرة لهذا الصراع.

واجه السكون، تفوق عليه، واحتفظ به في ذات اللحظة، تجد أنك قد حصلت على الحركة.
واجه الجهل في مسألة ما، تَغلب عليه، واحتفظ به في ذات الوقت، تحصل على العلم أو المعرفة.
واجه الموت، تَغلب عليه، واحتفظ به، في ذات اللحظة، تجد أنك قد حصلت على الحياة.
واجه السقوط، تفوق عليه، واحتفظ به، في الوقت نفسه، تجد أنك قد حصلت على الطيران.

أعتقد أن أفضل تعريف لأي شيء هو أن تعرفه على أنه نقيضه الذي تم التغلب عليه، والذي تم قهره، ولكن تم الاحتفاظ به في نفس الوقت.

فالـحرارة هي البرودة التي تم التغلب عليها، والتي تم قهرها، والتي تم الاحتفاظ بها في الوقت ذاته، بينما البرودة هي الحرارة التي تم التغلب عليها، والتي تم قهرها، والتي تم الاحتفاظ بها في نفس اللحظة.

عندما نتحدث عن التغيير والتطور في شيء ما، فإننا نقول إنه نتيجة لأسباب معينة. فالحدث الذي يقع هو نتيجة حتمية لتجمع الأسباب التي تؤدي إليه. والظاهرة أو الحدث يظلان مستمرين طالما استمرت الأسباب التي أدت إليهما؛ فإذا اختفت هذه الأسباب، اختفى الحدث أو الظاهرة بدورها.

هذا تفسير علمي دقيق، لا شك في صحته؛ لكن إذا تمعنا في الأسباب التي تؤدي بالضرورة إلى حدوث شيء معين، سنجد أن هذه الأسباب، أو أهمّها وجوهرها، لا تتعدى كونها النتائج الحتمية لوجود النقيض وفعله.

على سبيل المثال، السلعة التي كانت في يوم من الأيام غالية، أصبحت الآن رخيصة. والسؤال هنا هو: ما هي الأسباب التي أدت إلى انخفاض سعرها؟
بعد أن جمعنا وفهمنا الأسباب، نجد أن ارتفاع السعر في الماضي هو الذي خلق هذه الأسباب. فلا يمكن للسلعة أن ترتفع أسعارها دون أن ينتج عن ذلك ظهور أسباب تؤدي إلى انخفاضها لاحقا. فالارتفاع في السعر يدفع إلى زيادة إنتاج هذه السلعة ورفع المعروض منها في الأسواق. ومع زيادة المعروض، يحدث تضخم في العرض، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض الأسعار وتحول الغلاء إلى رخص.

إذن، السؤال الجدلي الذي يجب طرحه هو: كيف يُنتِج كل من الضدين الآخر؟ . يكفي أنْ نطرح هذا السؤال ونعمل على الإجابة عليه، حتى يصبح واضحاً لدينا ويؤكد لنا التطور الذاتي للشيء . وهذه العملية ، أي عملية التطور الذاتي للشيء ، قد تتأثر بعوامل خارجية قد تجعلها تسير بسرعة أو ببطء، وقد تكون سهلة أو صعبة حسب الظروف المحيطة.
قلنا إنَّ النقيض أو الضديد يُهزم ويُقهر، وفي الوقت نفسه يُحتفظ به. لكن ما هي النتيجة التي تترتب على ذلك؟
النتيجة هي أنَّ هذا النقيض الذي تم التغلب عليه يصبح أكثر قوة وصلابة ومقاومة، ويزداد شراسة في الصراع. وبالتالي، فإنَّ التغلب عليه في المرة التالية يصبح أكثر صعوبة مما كان عليه في المرة السابقة.

يمكنك ملاحظة هذا بشكل واضح إذا حاولت، على سبيل المثال، زيادة سرعة جسم يتحرك في الفضاء بشكل مستمر. فكلما حاولت جعله أسرع، زادت القوى المقاومة التي تواجه كل زيادة جديدة في سرعته. قوى التثبيت والإبطاء في الجسم تصبح أقوى وأكثر تأثيراً مع كل فشل في التغلب عليها. وبالتالي، النتيجة هي أنَّ تسريع هذا الجسم يصبح أكثر صعوبة كلما زادت سرعته. ويمكنك تطبيق هذا المبدأ على حالات مشابهة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة