تجويع الأطفال والنساء والشيوخ: جريمة لا يقرّها قانون ولا يعذرها شرع ولا منطق

بقلم: الشيخ صفوت فريج* *رئيس الحركة الإسلاميّة

تاريخ النشر: 09/05/25 | 19:30

في زمنٍ يُفتَرض أن تكون الرحمة فيه قانونًا، والعدالة عقيدة، ما زال العالم يُدهشنا بوحشيّته المتكرّرة، ومآسيه المروّعة، ويقف عاجزًا بدُوَله وشعوبه أمام أبشع صور الظلم والانحطاط الإنساني والأخلاقي، المتمثّلة بتجويع أطفال ونساء وشيوخ في مناطق النزاع والصراع. ومهما تنوّعت التبريرات، يبقى استخدام الجوع كأداة للضغط أو إخضاع الشعوب جريمةً ضد الإنسانيّة وسلوكًا همجيًّا لا يقبله دين ولا شرع ولا فطرة سليمة.

لقد جاءت الشريعة الإسلامية صريحةً في تحريم التعدّي على الضعفاء وظلمهم. فعن جابرٍ أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قال: “اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..”. كما وحذّر عليه الصلاة والسلام من المساس بحقوق الناس، لا سيّما النساء والأيتام، فقال: “اللهمّ إنّي أحرّج حقّ الضعيفين: اليتيم والمرأة”، أي أُلزم الناس بحقّهم وأُحذّر من انتهاكه. وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، ممّا يؤكّد على أنّ معاقبة الأبرياء بفعل غيرهم أمرٌ محرّم. أيُّ منطق يُبيح معاقبة طفلٍ بجريمة لا يد له فيها؟ أيُّ شرعٍ يرضى بأن تموت المرضعة والرضيع جوعًا؟ وقد نهى الإسلام عن الحصار الّذي يؤدّي إلى الهلاك، فمن مقاصد الشريعة حفظ النفس لا تجويعها، ورفع الضرر لا فرضه، وإغاثة الملهوف لا خذلانه.

وحتّى لو تجاهلنا الدين والشريعة والمنطق، وتحدّثنا بلغة القانون الدولي، فإنّه أيضًا يُجرّم التجويع باعتباره سلاح حرب، حيث نصّت المادّة 54 من البروتوكول الإضافي الأوّل لاتّفاقيّات جنيف: “يُحظَر استخدام التجويع ضدّ المدنيّين كأسلوب من أساليب القتال”، كما ووفقًا للقانون الدولي ذاته، يُعتبر حرمان الناس من الغذاء والدواء في المناطق المحاصَرة، أو قصف واستهداف المدنيّين والبنى التحتيّة التي توصل الناس بالحياة، من ماء وغذاء، جريمة حرب يُحاسِب عليها القانون. مع ذلك، ما زالت هذه الجرائم تُرتَكَب، وفي كثير من الأحيان على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، دون عقاب ولا رادع، بل وأحيانًا تحت رعاية دول عظمى.

تشهد غزّة منذ عام ونصف أفظع صور التجويع والعقاب الجماعي المتعمَّد، حيث فُرِضَ الحصار وأُغلِقَت المعابر ومُنِعت الأغذية والأدوية وجفّت المياه وقُطِعَت الكهرباء ووسائل الطاقة والتواصل وقُصِفَت المستشفيات والمخيّمات. وقد وثّقت منظّمات أمميّة مشاهد يندى لها الجبين وتتفطّر أمامها القلوب، لأطفالٍ رُضَّع تموت جوعًا، وشيوخٍ تموت عطشًا، ومرضى تموت على سرير الصمت الدولي! ما يحدث الآن في غزّة تجاوز اعتباره كارثة إنسانيّة، هي إبادة جماعيّة بالتجويع والترويع، تُرتَكَب أمام عدسات العالم، دون أن يحرِّك ساكنًا.

وهناك تداعيات كارثيّة لهذا التجويع الظالم والعنصري، حيث يتأخّر نموّ الأطفال، وتضعف مناعة أجسادهم فتذبل قبل أوانها، ويموتون ببطءٍ موجع. أمّا النساء، لا سيّما الحوامل والمرضعات، فيُدفَعْنَ إلى هاوية صحيّة تفتك بهن وبأجنّتهن وأطفالهنّ. فيما أنّ كبار السنّ، يضيف الجوع وهنًا على وهنهم، وتتحطّم أجسادهم الهشّة أمام قسوة الجوع كما يتحطّم الزجاج.

لا يمكن اعتبار التجويع وسيلة ضغط عسكريّة، بل هو آلة من آلات الجريمة المنظَّمة الّتي تستهدف إنسانيّة الإنسان. تجويع الأبرياء لا تبرّره الحرب ولا تغفره النوايا ولا تشفع له رغبة الانتقام. هو جريمة ضدّ الضمير الإنساني قبل أن يكون انتهاكًا للقوانين والشرائع. على المجتمع الدولي والمؤسّسات الشرعيّة، وعلى كلّ ضمير حي، أن يصرخ في وجه هذا العار: لا للتجويع، لا للقتل البطيء، لا للعقاب الجماعي، لا لقتل الأطفال والنساء والشيوخ، لا لحرب الإبادة.

تُظهر سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أنّ صحابته الكرام كانوا أوّل من ذاق مرارة الحصار والتجويع، حيث حاصرتهم قريش في شِعب أبي طالب ثلاث سنين، بلغت خلالها القلوب الحناجر من شدّة الجوع، حتّى أكلوا ورق الشجر، وعانوا شظف العيش، وصار الجلد اليابس طعامًا لهم.
خرج أحدهم ليقضي حاجته، فسمع صوتًا تحت قدمه، فإذا هي قطعة من جلد بعيرٍ يابسة، أخذها، غسلها، أحرقها، سحقها، ثمّ خلطها بالماء وشربها، ليصبر بها على جوعه ثلاثة أيّام. كما كان يُسمَع بكاء الأطفال من وراء الشِعب كأنّه نحيب، يتضاغون من شدّة الجوع، والقلوب تتفطّر، حتّى أتى من الله فرجٌ، وجاء نصره بعد ليلٍ طويل ومعاناة قاسية.

اللهمّ يا من أطعَمَ من جوعٍ، وآمَنَ من خوف، وسقى من ظمأ، وكشف الضرّ عن أيوب، نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تُطعِم الجائعين، وتؤمّن الخائفين، وترحم المستضعفين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة