السياسة بين التَّفسيرين المثالي والواقعي!

د . اَدم عربي

تاريخ النشر: 06/06/24 | 10:27

ٱلْعَالَمُ ٱلسِّيَاسِيُّ ٱلْوَاقِعِيُّ هُوَ ذَلِكَ ٱلْعَالَمُ ٱلَّذِي يَتَجَلَّى فِيهِ ٱلنِّزَاعُ بَيْنَ ٱلْمبَادِئِ وَٱلْمَصَالِحِ. هَذَا يَعْنِي أَنَّ مَن يَنْتَمِي لِهَذَا ٱلْعَالَمِ يَجِدُ نَفْسَهُ فِي حَالَةِ تَوَتُّرٍ وَصِرَاعٍ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ وَفْقًا لِلْمبَادِئِ ٱلَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَخْدُمُ مَصْلَحَتَهُ، حَتَّى لَوْ تَعَارَضَ ذَلِكَ مَعَ ٱلتَّزَامِهِ بِٱلْمبَادِئِ. أَمَّا عَالَمُ ٱلْمَالِ وَٱلْأَعْمَالِ، فَهُوَ عَالَمٌ تَسُودُ فِيهِ ٱلْمَصْلَحَةُ؛ حَيْثُ يتَمُّ تَهْمِيشُ ٱلْمبَادِئِ إِذَا لَمْ تَتَوَافَقْ مَعَ مَصْلَحَةِ ٱلْفَرْدِ. فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ، تَظَلُّ ٱلْمَصْلَحَةُ هِيَ ٱلْأَهْمَ وَلَا شَيْءَ يَتَجَاوَزُهَا ،وَلا يُعْلَى عَلَيْها.
فِي ٱلْعولَمَةِ وَبِهَا، بَدَأَتِ ٱلسِّيَاسَةُ تَتَدَاخَلُ بِشَكْلٍ مُتَزَايِدٍ مَعَ عَالَمِ ٱلْمَالِ وَٱلْأَعْمَالِ، لِدَرَجَةٍ أَنَّ ٱلتَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا أَصْبَحَ صَعْبًا. هَذَا ٱلتَّدَاخُلُ ٱلْمُسْتَمِرُّ أَدَّى إِلَى مُلَاحَظَةِ ٱرْتِفَاعِ مُسْتَوَيَاتِ ٱلْفَسَادِ فِي عَالَمِ ٱلسِّيَاسَةِ، وَهُوَ ٱرْتِفَاعٌ يَتَزَايَدُ بِشَكْلٍ ملْحَوَظٍ لجميعِ الدُوَل.
فِي ٱلسِّيَاسَةِ، لَا تَكُونُ ٱلنَّظْرَةُ ٱلْمَوْضُوعِيَّةُ دَائِمًا مُتَاحَةً لِلْإِدْرَاكِ وَٱلْفَهْمِ والتَعليل. وَجوهرُ أَزْمَةِ ٱلإِدْرَاكِ ٱلسِّيَاسِيِّ يَكْمُنُ فِي تَفْسِيرِ وتَعلِيلِ ٱلأَحْدَاثِ. نَحْنُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ٱلظَّوَاهِرَ وَٱلأَحْدَاثَ ٱلسِّيَاسِيَّةَ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِأَحَدِ مَبَدَأَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ: ٱلْمَبَدَأِ ٱلْمثَالِيِّ وَٱلْمَبَدَأِ ٱلْعَمَلِيِّ ٱلْمَوْضُوعِيِّ. إِذَا لَمْ يَكُنِ ٱلْمَبَدَأُ ٱلْمثَالِيُّ قَادِرًا عَلَى تَفْسِيرِ ٱلأَحْدَاثِ، لِمَا ٱدَّعَى أَحَدُ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا ٱلْمَبَدَأِ بِثِقَةٍ أَنَّ ٱلْفِكْرَ هُوَ مَن يَتَحَكَّمُ فِي مُجَرِّيَاتِ ٱلْعَالَمِ أَوْ الحَاكم الأُتُقوراطيّ لِهذَا العَالم. لَكِنَّا نَجِدُ أَنَّفْسَنَا مُخْتَلِفِينَ حَوْلَ مَسْأَلَةٍ ذَاتِ أَهَمِيَّةٍ كَبِيرَةٍ: أَيُّ ٱلْمَبَدَأَيْنِ يقُومُ بِتَفْسِيرِ ٱلْآخَرِ؟
أَنَا مُنَ الْمُؤَيِّدِينَ لِلْمبَدَّأِ الْوَاقِعِيِّ كَمُفَسِّرٍ لِلْمبَدَّأِ الْمثَالِيِّ. عِنْدَمَا نَصِلُ إلَى نِهَايَةِ سَلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ الْمثَالِيَّةِ في التعليل والتفسير ، يَظْهَرُ السَّبَبُ الْأَخِيرُ كَنتَاجٍ مثَالِيٍّ مُرْتَبِطٍ بِالْوَاقِعِ. الْفِكْرُ يَحْكُمُ الْعَالَمَ، لَكِنْ لَيْسَ حُكْمًا أُوتُوقْرَاطِيًّا، بَلْ حُكْمًا مُقَيَّدًا بِدُسْتُورٍ هُوَ الْوَاقِعُ وَقَوَانِينُهُ.
إِذَا سَأَلْتَ أَحَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَدَّأِ الْمثَالِيِّ عَنْ سَبَبِ الْحُرُوبِ، سَيُجِيبُكَ عَلى البَديهة بِأَنَّ السَّبَبَ يَكْمُنُ فِي نَزْعَةِ الشَّرِّ الْمُتَجَذِّرَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ. و إِذَا أَرَدْنَا تَحْقِيقَ السَّلَامِ، يَجِبُ أَنْ نُصْلِحَ نُفُوسَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْحُرُوبِ وَنوضِحَ لَهُمْ مَخَاطِرَهَا، وَنُسَاعِدُهُمْ عَلَى فَهْمِ عَوَاقِبِهَا. يَجِبُ أَنْ نَزْرَعَ فِي عُقُولِهِمْ ثَقَافَةَ السَّلَامِ وَكَأَنَّ لَيْسَ لِلْحَرْبِ مِنْ أَسْبَابٍ وَاقِعِيَّةٍ، قَدْ تَحْمِلُ حَتَّى الْكَهَنَةَ وَالرُّهْبَانَ عَلَى أَنْ يُصْبِحُوا لَهَا أُمَرَاءَ وَقَادَةً!
إِذَا اِسْتَفْسَرْتَ عَنْ أَسْبَابِ فَشْلِ مُحَاوَلَاتِ السَّلَامِ بَيْنَ إِسْرَائِيلَ وَالْفِلَسْطِينِيِّينَ، سَيُجِيبُكَ أَنَّ الْعقبَةَ الْأَسَاسِيَّةَ هِيَ عَدَمُ رَغْبَةِ إِسْرَائِيلَ فِي السَّلَامِ. وَإِذَا مَا أَقْنَعْنَاهَا بِأَهْمِيَّةِ وَفَوَائِدِ مُبَادِرَةِ السَّلَامِ الْعَرَبِيَّةِ، قَدْ تُغَيِّرُ نَظَرَتَهَا وَتَمِيلُ نَحْوَ السَّلَامِ.
إِذَا سَأَلْتَ عَنْ سَبَبِ انْحِيازِ الْوَلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ إِلَى إِسْرَائِيلَ، سَيُجِيبُكَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ تَقَاعُسُ الْعَرَبِ عَنْ شَرْحِ قَضِيَّتِهِمُ الْعَادِلَةِ لِلْوَلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ. وَلَوْ بَذَلُوا الْمَزِيدَ مِنْ الْجُهُودِ فِي تَوْضِيحِ قَضِيَّتِهِمْ، لَكَانَتِ النَّتِيجَةُ انْحِيازًا أَمْرِيكِيًّا إِلَى الْحَقِّ ومن ثُمَّ إلينا.
وَإِذَا سَأَلْتَ أَحَدَهُمْ عَنْ سَبَبِ غَزْوِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لِلْعِرَاقِ، سَيُجِيبُكَ بِسُهُولَةٍ قَائِلًا: إِنَّ السَّبَبَ يَكْمُنُ فِي أَنَّ الصَّلِيبَ قَرَّرَ، عَبْرَ مُمَثِّلِيهِ (إِدَارَةِ الرَّئِيسِ بُوشِ)، اِسْتِئْنَافَ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ ضِدَّ الْهِلَالِ. وَالنَّفْطُ لَيْسَ السَّبَبَ الرَّئِيسِيَّ، لِأَنَّهُ دُنْيَوِيٌّ تَافِهٌ ، وهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوِيَ الدُّنْيَوِيُّ وَالدِّينِيُّ؟!
فِي عَالَمِ السِّيَاسَةِ، نَرَى دَائِمًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَدَيْهِمْ مَصْلَحَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فِي نَشْرِ الْأَوْهَامِ وَتَرْوِيجِهَا. يُخْضِعُونَ الْأَبْصَارَ وَالْبَصَائِرَ لِهَيْمَنَةِ الْمَبَادِئِ الْمِثَالِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ وَتَبْرِيرِ الظَّوَاهِرِ وَالْأَحْدَاثِ السِّيَاسِيَّةِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة