صديقي مروان

علي هيبي

تاريخ النشر: 06/04/24 | 17:00

تساءلت! لماذا أكتب عن مروان شقيقي ورفيقي وصديقي؟ ولماذا اخترت أن أنعته في العنوان بصديقي، وليس بالصّفتيْن الأخرييْن على أهمّيّتهما في وجداني وفكري، في وجودي ودمي؟ لقد جمع الانسجام الفكريّ والسّياسيّ الكفاحيّ، والموقف الوطنيّ والقوميّ التّقدّميّ بيننا، فكنّا بهذا الاختيار رفيقيْن في صفوف الحزب والجبهة. وكنّا وليس باختيارنا شقيقيْن جمعتنا صلة الرّحم والدّم والألفة مع سبعة أشقّاء، مات عمر – رحمه الله وطيّب ثراه – منذ أقلّ من عام واحد فترك وهنًا في الظّهر وصبرًا والله المستعان. كان مروان الّذي مات وجوديًّا بفعل المرض وبقدَر ممَن قهر عباده بالموت فترك كسرًا ووهنًا وجزعًا، ولم يمت وجدانيًّا بفعل أحاسيسي الجيّاشة الّتي ترفض وفقًا لفطرتي كلّ أنواع القهر.
مروان صديقي باختيارنا، ليس لأنّنا متقاربان في السّنّ، فأنا أكبره بثماني سنوات، ويفصل بيننا ثلاثة من الأشّقّاء: عمر، خالد ومريم، نعم لم يمت مروان، وما زلت أدعو له بالشّفاء، مروان كنيته “أبو حازم” لم أنادِ عليه بها في حياتي، “مروان” الاسم أقرب إلى القلب والوجدان، سيمرّ وقت طويل ومروان سيبقى في صميم روحي الّتي ترفض غيابه وتأبى قبول أفول طيبته وعظمته، إنّه ما زال جالسًا بكلّ جلال مقامه وجمال روحه على مقعد الحضور الموشّى بسندس واستبرق في جنان تجري من تحتها جداول روحي خالدة خلود الزّمان.
لن أتأقلم مع الواقع الصّاعق ولا مع الحقيقة المنكرة ولا مع التّسليم، حتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولا. كنت ألتقيه يوميًّا رغم ظروف حياتي السّهلة نوعًا، فأنا مرتاح، متقاعد، بلا عمل نظاميّ، وهو عامل كادح، مكافح يعمل في البناء ويوميًّا لا أقلّ من ثماني ساعات، وفي أصعب نوع منه، في الحديد، ويعمل بشكل يوميّ ولا يعطّل يوم عمل خوفًا على لقمة العيش الكريمة إلّا “للشّديد القويّ”. كان مروان كادحًا حتّى النّخاع، تلمس في يديْه خشونة الشّقاء ونعومة الكدح وكرامة عرق الجبين المضمّخ بلذّة الكدّ على العيال والمفعم بالإقبال على الحياة رغم أنف عنائها.
أحبّ مروان النّاس وأحبّ مشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، ولذلك كان بشوشًا مجاملًا بشكل دائم، ولعلّه الأكثر تنبيهًا لي ولأخوتي “هناك أجر في قرية ما” يقول وننطلق أنا وهو ومن حضر من الأخوة للقيام بواجب العزاء. ولكم أحبّ مروان الأفراح والأعراس أيضًا، وبخاصّة العرس “العربيّ” الّذي تميّز بصفّ “السّحجة” والغناء الفلسطينيّ العريق، وهو أحد أشكال ترسيخ تجذّرنا في هذا التّراب، لقد عشق مروان “العتابا” كأحد أبرز أنواع الغناء الشّعبيّ الفلسطينيّ، بل هو كما يُنعت “شيخ الغناء الشّعبيّ”، ولقد كان مروان وبلا مبالغة أستاذًا في سبك أبيات العتابا، مهندسًا فنّيًّا في صقل معانيها وصياغة ألفاظها، وإحكام نهاية شطراتها الثّلاث الّتي تقوم على جناس مثلّث، ليأتي البيت من بعدُ على غاية من الانسجام بين المعنى واللّفظ، بين الصّورة والمضمون، ولكم نشر من أبياته في صفحته على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ولقد كان يعترف له بهذه القدرة كبار الشّعراء الشّعبيّين (الحُداة) وكان مروان – وهذا هو الأهمّ – يكتب هذه الأبيات عن وعي فنّيّ ووطنيّ، حيث أنّ هذا الغناء يساند قضيّة الوجود الوطنيّ زيادة على أنّه يعمر الوجدان بالرّضا والاطمئنان والفرح.
ومن أبيات العتابا الرّائعة الّتي قالها مروان وأحسن سبكها وصقلها في الموضوع الوطنيّ:
“حبّ الوطن والأرض حي فاي
على حكّام العرب بقول حيفاي
سقى الله يوم عَ شطّ حيفاي
والكرمل تنتخي فيّو ليوث غابْ”

“عَ صدر الأسير يا زر الورد تع ليقْ
عجب هالناس ما الهن ولا تعليقْ
وللعميل الخاين لزم يا ناس تعليقْ
على أعواد المشانق والخشبْ”

“لا تهدا يا نافور المي بل فورْ
ورش المي عَ العطشان بالفورْ
أنا ما بعتب على وعد بلفورْ
أنا عتبي على ملوك العربْ”
“الطيّب قد عبّا فرد فلْ
أطلقنا عليه الورد فرد فلْ
وتحت زيتون الوطن فرد فلْ
تيطعم زيت لكلِ العربْ”
وفي باب الغزل والمرأة تعوّدنا أن نتبادل ونبدأ الأبيات ب: “سألتا شو الاسم قالت لي ……” وتبادلنا الكثير من الأبيات، ومنها هذان المثالان:
قلت:
“سألتا شو الاسم قالت لي سليمة
روحها طيبة بطويّة سليمة
فراقها صعب ويا عيوني سلي مي
بركي تطفّي في قلبي اللّهبْ”
فردّ منوّهًا وملاطفًا لي بتحسّني في نظم أبيات العتابا:
“سألتا شو الاسم قالت لي ظريفة
وجهها حسن مع طول ظريفي
عتابتك اليوم قد صارت ظريفة
وعم تتحسّن في نظم العتابْ”
صرت من خلال سبكه للأبيات أعرف وأميّز أنّ هذا البيت لمروان، فقد كان أسلوبه دالًّا على شخصيّته وميوله وصياغته وقد أرسلت له هذا البيت معبّرًا فيه عن هذا المعنى:
“هذا البيت بأسلوبه مرواني
تاريخ الشّعر أنا كلّه ما رواني
وإذا نهر الشّعر كلّه ما رواني
من نهر مروان بطيب الشّرابْ”
وممّا قاله الشّاعر الزّجال المرموق الأصيل توفيق الحلبي، ابن دالية الكرمل المعروفة بشعرائها وأدبائها وزجّاليها، قال “أبو كنان” في مطلع زجليّة طويلة، رقيقة في رثاء مروان:
“مروان غبت وعليك تفجّعوا الأوطانْ – مهما غيابك خلق للعمر رهجاتو
فينا غيابك ترك لوعة أسى وحرمانْ – وجرّة ملانة دمع من بير آهاتو”
وقال فيها معبّرًا عن موهبة مروان في سبك أبيات العتابا:
“عرفتك يا ابن الأصل بالموهبة ولهانْ – بيت العتابا إلك بتطيع كلماتو
كل ما التقينا سوا صدفة بأيّ مكانْ – تسكب قريض الشّعر وتفيض نبعاتو”
كان مروان يبدو من بعيد ولمن لا يعرفه خشنًا، حادّ الملامح، ولكنّك لو أمعنت النّظر عميقًا في قسمات وجهه لرأيت تلالًا من الطّيبة ترين على تلك الخشونة البادية للوهلات الأولى، ولعلّ طيبته وقسوته في آن واحد هما ما جعله صلب الموقف، عنيدًا في رأيه، يختلف مع بعض الآراء في الحزب والجبهة وبشكل حادّ أحيانًا، ولكنّه لم يكن ممّن تزلّ أقدامهم في رسوخ الانتماء الفكريّ والأمميّ، وفي احترامه العميق لرؤية الحزب والتزامه برؤاه السّياسيّة والاجتماعيّة.
كان مروان في العادة رفيقي في المظاهرات الوطنيّة والمهرجانات الشّعبيّة والمؤتمرات وسائر الاجتماعات الحزبيّة. في المظاهرات الأخيرة الّتي دعت إليها لجنة المتابعة العربيّة العليا أو الجبهة القطريّة للسّلام والمساواة أو جبهة كابول الدّيمقراطيّة للاحتجاج ضدّ العدوان الإسرائيليّ الهمجيّ على شعبنا الفلسطينيّ في غزّة الأبيّة وفيها رفعنا صوتنا عاليًا “أوقفوا الحرب وقتل الأطفال وهدم البيوت”: في تل أبيب وفي حيفا وفي أمّ الفحم وفي كابول، في تلك الفترة كان مروان على فراش المرض، أحبّ أن يشارك ولكنّه الظّرف – لعن الله الظّروف – كان قاسيًا، وكنت أردّد: “ليت مروان معي”.
في المظاهرة ضدّ الحرب في قرية مجد الكروم، وفي المظاهرة الأخيرة في قرية دير حنّا لإحياء الذّكرى الثّامنة والأربعين ليوم الأرض الخالد، كان مروان معي! أنظر عن يميني تارة فأراه، وأنظر عن يساري طورًا فأراه، أراه أمامي يتقدّمني … أراه ورائي يتأخّر عنّي، كلّ ذلك وفقًا لحركة عشرين ألف قدم تخبط الأرض وتهدر كطوفان يفور وتمضي الأقدام بإقدام نحو نقطة النّهاية، وتتحرّك وفقًا لعشرة آلاف حنجرة غاضبة تهتف لغزّة وأهلها ومقاومتها ولنصرة قضيّة شعبنا ضدّ كلّ محاولات التّدمير والتّهجير والتّجويع والإبادة.
انتصر مروان على الموت مرّتيْن، إثر حادث دهس نجا منه بأعجوبة في العاصمة البلغاريّة “صوفيا” وهو طالب هناك، وفي حادث طرق آخر قرب مدينة “صفد” في شمال بلادنا، وها هو ينجو برؤيتي ووجداني المتمرّد لثالث مرّة: “ستسكنني كثيرًا وطويلًا يا صديقي الحبيب، ألتقيك في الحاضر وسألتقيك في المستقبل كلّ يوم كما كنت ألتقيك كلّ يوم في الماضي، ستبقى حاضرًا على كرسيّ الحلم الجميل، ستبقى ماثلًا على مقعد عشرة الزّمن الأصيل، على أمل بخلود الحياة. واحزناه! فمن لقلبي العليل بعد هذا المصاب الثّقيل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة