اعترافٌ تأخر

خالدية أبو جبل

تاريخ النشر: 16/06/23 | 8:58

تبدو في ترنح مشيتها كمن قطع عشرات الكيلومترات
وأنهكه التعب، بعد أن قضت ليلتها على كرسي أسود يصلح للنوم بلا أحلام…

كانت تتبعه بخطواتها المتلعثمة، وقد سبقها بخطواته المنطلقة دون هدف، توقف في قاعة
استراحة المرضى وذويهم في المستشفى، بتلذذٍ واسترخاءٍ أسند ظهره إلى الجدار ،وأشعل لفافة دخان ، متحديا عبارة التحذير والتهديد : ممنوع التدخين ، المخالف يعاقب ! .. منامته باهتة الألوان ، تماهت مع نظراته الباردة التي وزٌعها على المحيطين به وكأنه مخلوق من زمن آخر ! .

سارعت نحوه قائلة: ماذا تفعل يا رجل ؟ أتدخن في المستشفى؟
صوّبَ نظره نحوها ، انطلقت آهٍ عميقة من أعماق
صدره فيها راحة بقدر ما فيها من وجع،
التقت نظراتهما المتنافستان على البؤس، تمتمت

بكلمات قد هاجمها الحزن وفتًق جراحها: ما عدت أصدق أنها شدة وستزول، أنا متأكدة أن الباقي من عمري ، سأرى وأعيش فيه أصنافًا من العذاب والبؤس…
أطرقت برأسها مستسلمة لدخان لفافته،

وهو يذوب في طقوس صوفية ، واللفافة تتلوى
وتعتصر احتراقا وتحرقًا وألمًا، ما بين أنامله وشفتيه.
انهالت من نظراته المصوّبة لعينيها لعنة الذكريات، وراحت تسال نفسها: أتُراه ينساني حقًا، وأنا رفيقة دربه؟! ، أينساني ويأنس للّفافة دخان تحترق بين أنامله؟
أينساني وأنا التي عشت مُرّ أيامه ومهانة خيانته، ورأبت صدع البيت؟! ، وإن كان هو قد نسيَ، فهل انسى انا؟
أتنسى يوم قال لها متحدّيًا: لن تستطيعي أن تُفشي سري
وتكشفي تفاصيل خطيئتي لأحد .
قالت : بلى أستطيع ولن تقدر على منعي ، سافضحك..
قال: ساقتلك …

أجابت: تقتلني ؟ وأنت الآثم الخائن ، من يستحق القتل؟
قال : أقتلك ، وأدفنك في ظلمة قبر، وستكونين بنظرهم أنت الآثمة
لم تأبه لتهديده ولم تخف من وعيده
صمتت وقد اتخذت قرارها ،
فاق وعيها نار العاطفة وبرد العاصفة، سارت في طريقها بلا تردد،
اعتبرت زوجها مريضًا فأخذت بيده وأحسنت علاجه ومداواته…
قفزت الأيام بلياليها وصارت أعوامًا
وبدا أن كلّ شيء على ما يرام….
فتح أحدهم النافذة فأعادت مع الهواء الى الداخل خيط دخان ، انتشلها من عتمة ذكرياتها…
سحبت تنهيدة بمرارة وقالت: أراك تقتلني اليوم
من غير سابق إصرار!!

في لحظة التقاء النظرات هذه ، و دوائر الدخان
تلفّ رأسه ، كانت تتقد في مكان آخر من ذهنه جمرات الذكريات…
راح يتفحصها كمن يراها أول مرة ، يحدثها بلا صوت:

لا لم أنسك ابدا، لكني غيّبت نفسي في دهاليز النسيان لأنسى إثمي معك… فكان أن ظلمتك مرة اخرى، بدون قصد…
لو كنت يومها انت المخطئة ، للازمتك الخطيئة طيلة حياتك وبعد مماتك، في قانون مجتمع وعيّه
أعور!
وما كنت أنا ذلك الشهم الذي يُحيي بيتًا كان على شفا الهاوية…
يبكيك قلبي وأنا اراك تبحثين عن نفسك في دهاليز إنسان اختاره النسيان
ليسكن ذهنه، وهزمه إثمه. لكنك سَكنتِ قلبّه…
إن كنتِ قد نسيتِ وغفرتِ لهُ، فقد ذهبَ الإثم بعقله…
ارحميني ولا تعيدي بنظراتك فك ازرار ذهني…
ولا ادري إن كان هذا النسيان نعمة من ربي أم نقمة!
غادريني ، وغادري الأيام التي هربت إلي
والجئي للايام القادمة إليك
فلك وحدك تنحني الأيام

خالدية أبو جبل
الجليل الفلسطيني
30/4/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة