الضفة الغربية تقلقُ الاحتلال وتربكُ جيشه
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تاريخ النشر: 31/12/22 | 9:44القدس والضفة الغربية في الفهم الإسرائيلي والوعي الصهيوني تختلف عن قطاع غزة والأرض المحتلة عام 1948، فهم ينظرون إليها على أنها “يهودا والسامرة”، أي أنها لب المشروع الصهيوني وأساس الحلم اليهودي، التي يعتقدون أنها أرضهم القديمة وممالكم البائدة، وبلاد أنبيائهم ورسلهم وملوكهم الأوائل، وأن القدس هي مدينتهم القديمة، وعاصمة كيانهم الجديد الموحدة، وأنها عنوان سيادتهم ورمز وحدتهم، ومقر حكومتهم وبرلمانهم، وفيها مقدساتهم و”حائط مبكاهم”، وكنيس خرابهم وهيكلهم الثالث المزعوم، فلا ينبغي للقدس أن يسودها “العنف”، وأن تسيطر عليها المقاومة، ولا أن يخرجهم الفلسطينيون من “يهودا والسامرة”، التي يعتقدون أنها أرض الميعاد، ومملكة المن والسلوى، وأنها بقية “شيخيم وأورشليم وحبرون”، لكن المقاومة في القدس والضفة الغربية فرضت نفسها وثبتت اسمها، وبددت وساوسهم، وأفسدت أحلامهم، وعطلت مشاريعهم، وأربكت جيشهم، وشغلته بأدوارٍ لم يتدرب عليها، ومهامٍ لا يقوى عليها.
ملأ الفلسطينيون ضفتهم الغربية وقدسهم المباركة حرساً شديداً وشهباً، وزرعوا أرضهم قنابل ومتفجرات، وسلاحاً وعبوات، وانتشروا في رحابها رجالاً مقاومين، ونساءً باسلاتٍ، وأشبالاً واعدين، وشيوخاً راسخين، يقذفون العدو عن قوسٍ واحدة، ويخرجون عليهم جميعاً من كل جانبٍ، ويترصدونه في كل مكانٍ، ويرمونه بكل سلاحٍ، ويقاومونه بكل الوسائل والأشكال، فقد أقسموا على الثورة، وتعاهدوا على القتال، وتواصوا على الصبر والثبات، وعزموا على الثأر والانتقام، والانتفاض على الاحتلال والانقضاض على حكومته الجديدة، وتلقينها دروساً في المقاومة بليغة، وفي الثبات والصمود عميقة، فهم لن ينحنوا أمامها، ولن يخضعوا لها، ولن يخافوا من تهديداتها، ولن يجبنوا عن مواجهتها، ولن يسلموا ويرفعوا الراية البيضاء لها.
رغم أن العام 2022 كان عاماً زاخراً بعمليات المقاومة في الضفة الغربية، وغنياً بالاشتباكات والمواجهات، التي كبدت العدو أكثر من 35 جندياً ومستوطناً، وارتقى خلاله أكثر من 250 شهيداً فلسطينياً من الرجال والنساء والأطفال، والمرضى والأسرى وذوي الحاجات الخاصة، ودمر العدو خلاله عشرات البيوت والمنازل، وعاث فساداً في أرضهم وممتلكاتهم، إلا أن شعبنا في الضفة الغربية كان مقداماً جسوراً، جريئاً شجاعاً، قوياً جباراً، رمى العدو بخيرة شبابه وأقوى رجاله، وخاض ضده أشرس المعارك، وكبده أعظم الخسائر، واقتحم حصونه ووصل إلى أكثر مناطقه الأمنية حراسةً ومراقبة، ونال من جنود نخبته ومن قادة مجموعاته، وسجل أبطاله أروع الصفحات في سفر المقاومة الفلسطينية.
إلا أن الأعوام التي سبقت لم تكن أقل حدةً في المواجهة والتحدي عن العام المنصرم، بل ربما شهد بعضها تصعيداً أكبر ومواجهاتٍ أوسع، وسجل فيها الفلسطينيون انتصاراتٍ كبيرةٍ في القدس وأحيائها، وفي المسجد الأقصى وباحاته، وعلى مداخله وبواباته، وفي نابلس وجنين، ورام الله وسلفيت، وفي الخليل وبيت لحم، وقلقيلية وطوباس، وفي كل مكانٍ من الضفة الغربية التي تضامنت معاً، وهبت جبهةً واحدة، تشتد وتخبو، ولكن جمرها بقي على مدى السنوات متقداً، ينتظر من أهلها أن ينفخوا فيه فيتقد ويشتعل، وقد تعاهدوا فيما بينهم ألا يدعوا جمرة مقاومتهم تخبو، وألا يسمحوا للعدو أن يطفئ نارها أو يتحكم في أوراها.
شعر العدو بهبة القدس والضفة، وانتفاضتها وثورتها، وأيقن أنه على أبواب مرحلةٍ جديدةٍ، وربما انتفاضةٍ ثالثةٍ، بسماتٍ مغايرة وأشكال مختلفة ووسائل صادمة، ابتكرها فلسطينيو القدس والضفة الغربية، فخصها بكتائب جديدة، وعزز قواته فيها بألوية النخبة ووحدات الجيش والأمن المستعربة والمختصة، وغَيَّرَ تعليماته لجنوده وبدل قواعد المواجهة وإطلاق النار على الفلسطينيين، لكنه رغم ذلك لم يستطع أن يكسر شوكتهم، أو أن يضعف شكيمتهم، ويحد من قوة اندفاع شبابهم وتنافس رجالهم، وتضحيات أبنائهم، الذين استطاعوا أن يرسموا أروع صور البطولة وأقوى ملاحم الاشتباك مع جنوده ومستوطنيه، ولعل العمليات التي قاموا قد أصبحت نماذج تحتذى وأمثلة يقتدي بها المقاومون، ويتعلم منها الناشئون ويتنافس على مثلها وأفضل منها المقاتلون.
أهلنا في الضفة الغربية يقومون بالواجب الملقى عليهم متى نادى المنادي، ولا يتأخرون في الدفاع عن حقوقهم وحماية أرضهم والذود عن محارمهم، ولا يبالون في سبيل ذلك بأرواحهم إن قتلوا أو حياتهم إن اعتقلوا، وقد أثبتوا في الميدان وسوح المواجهة أنهم على قدر المسؤولية، وأنهم لا يقلون عن غيرهم جرأةً وشجاعةً، ولا ينتظرون من أحدٍ نصحاً أو إرشاداً، ولا يلزمهم توجيه من سواهم أو إدارةً من غيرهم، ويخططون بأنفسهم وينفدون بمفردهم، ولا ينتظرون من خارج الحدود أو بعيداً عنهم من يحركهم ويوجههم، أو يرسم لهم ويعلمهم، ويخطئ من يظن أن هناك من يملي عليهم ويأمرهم، ويخطط لهم ويوجههم، بل هم أسيادٌ على أرضهم، وأربابٌ في مناطقهم، وأبطالٌ في ميادينهم، يؤدون فرضهم في المقاومة كما يؤدون فروض الصلاة، التي بها تزكو النفوس وتسمو الأرواح، وتتطهر القلوب وتتحرر البلاد.