صفعةٌ ظالمة!

د. محمود أبو فنّه

تاريخ النشر: 08/12/22 | 11:15

(من سيرتي الذاتيّة)
من ذكرياتي في المدرسة الابتدائيّة والتي لا تزال عالقة بذاكرتي لا تمحوها السنون، أذكر تلك الأجواء التعليميّة التربويّة المشجّعة، وأذكر ذلك التنافس الإيجابيّ بين الطلاب في التحصيل ونيل “العلامات” العالية، و”الشهادات” الممتازة!
كانت الظروف المعيشيّة صعبة في البيوت، فلا ماء في أنابيب ولا حنفيّات، ولا كهرباء ولا مصابيح، لا غرف خاصّة للأولاد، لا أسرّة ولا خزانات، لا كراسي ولا طاولات، لا حقائب ولا مكتبات، رغم ذلك سادت أجواء حميمة وهنئنا براحة البال!
المياه تُجلب من البئر الوحيدة في القرية في جرار تحملها النساء على الرؤوس أو تُنقل على الدواب، البيوت تضاء بالقناديل أو بالسرج، جميع أفراد الأسرة – غالبًا – يعيشون وينامون في غرفة كبيرة واسعة، الأخوة ينامون على الفراش ويتغطون بنفس اللحاف، وبدلا من الحقائب الجلديّة خاطت لنا الأمهات أكياسًا من القماش نضع فيها الدفاتر والكراسات!
في المدرسة لم تتوفّر لا كراسي ولا طاولات للطلاب، بل كانت هناك “بنوك” (مقاعد) نجلس عليها ونضع الدفاتر والكراريس في أدراج/صناديق مثبّتة أمامنا في البنوك!
قلتُ، رغم هذه الأوضاع البائسة فقد عوّضتنا المدرسة والمعلمون عنها بأجواء داعمة ومحفّزة وبنشاطات وفعاليّات ممتعة ومفيدة.
كان للمدرسة حديقة صغيرة نعتني بها وبمزروعاتها في حصص الزراعة!
وكانت هناك المباريات الشعريّة والمسابقات في حفظ القصائد وإلقائها بصورة معبّرة مع جوائز رمزية للفائزين!
وكان هناك نشاط رياضيّ بعد الدوام المدرسيّ؛ حيث مارس المعلّمون لعبة الكرة الطائرة وأتاحوا لنا المشاركة فيها!
اليوم وبعد مرور عدة عقود لا زلتُ أتذكّر تلك الأجواء وتلك الفعاليّات بشعور غامر من الحنين والسعادة!
لكن، هناك حادث لا ينسجم مع تلك الأجواء الدافئة ويعتريني الكثير من الألم والأسى عندما أتذكّره:
قلتُ إنّ سياسة المدرسة كانت تشجيع التنافس البنّاء بين الطلاب، وقد وجدت هذه السياسةُ هوى في قلبي؛ فرُحْتُ أبذل الجهود الجادّة في أثناء الحصص لمتابعة شروح المعلّمين واستيعابها، وبعد العودة إلى البيت أعكف على حلّ الوظائف وأذاكر وأحفظ الموادّ لأحصل على علامات عالية، وأتبوّأ مرتبة متقدّمة بين طلاب صفّي!
ومما ضاعف من اجتهادي ومثابرتي وجود زميل لي ينافسني على المرتبة الأولى!
في نهاية الفصل الدراسيّ وعندما تسلّمنا الشهادات المدرسيّة، وقع الحادث الذي لن أنساه ما حييت؛ فقد ترك في نفسي الغضّة ندوبًا/ جراحًا نفسيّة لم تندمل حتى اليوم!
كان ذلك حين اطّلعتُ على شهادة زميلي المنافس (ص) فوجدتُ أن أحد المعلّمين (س) قد وضع له علامة في موضوعه أعلى بكثير من العلامة التي حصل عليها في الامتحان!
لم أتمالك نفسي، واشتعل غضبي وحنقي، فصرختُ في وجه الزميل (ص):
– لا تفتخر ولا تتباهَ بشهادتك، فعلامتك في موضوع المعلّم (س) مزيّفة وليست ما حصلتَ عليها في الامتحان!
فردّ عليّ الزميل (ص):
– لا يعنيني ذلك، فالمهمّ عندي ما هو مسجّل في الشهادة!
فما كان منّي إلا أن أردّ بالقول:
– يكفي، إنّ المعلّم (س) “بنافِقْلَك”!!
فثار الزميل وهاج، وتوجّه مسرعًا للمعلّم (س) يشكوني ويخبره بما قلتُ!
استدعاني المعلّم (س) فمثلتُ أمامه، وهنا بادرني قائلا:
– أعرفُ أنّ والدك الشيخ محمّد إنسان تقيّ وورع وصادق، ولا بدّ أنّك رضعتَ هذه الخصال الحميدة عنه، وحتمًا ستقول الصدقَ! وسؤالي: ماذا قلتَ للطالب (ص)؟
أجبتُه بصدق وبصراحة تامّة:
– قلتُ له إنك معلّم “بِتْنافِق”!!
– قال لي: وماذا تقصد بذلك؟
– قلتُ: إنّك تحابي ولا تلتزم بالعدل وبالحقيقة!
– قال: ولماذا قلتَ ذلك؟
– أجبتُ: لأنّك أعطيتَ الطالب (ص) علامة أعلى بكثير من العلامة التي حصل عليها في الامتحان!
وفجأة، وبدون مقدّمات، وبدون شرح وتوضيح، هوت كفّ المعلّم (س) الثقيلة بصفعة قويّة ظالمة على خدّي!
يا إلهي، كم تألّمت – نفسيًّا لا جسديًّا – من تلك الصفعة الجائرة!!
نظرتُ إلى المعلّم (س) نظرة غاضبة ناقمة معاتبة، وتساءلتُ:
أهكذا يُجازى الناس الصادقون؟!
وهل هذه هي المعاملة التي ننشدها من المعلّمين المربّين؟!
عدتُ إلى البيتِ حزينًا مغمومًا حاملا معي هذا الجرح الذي ما زال يرافقني حتّى يومي هذا!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة