تكريم الشاعر وهيب نديم وهبة في حيفا

تاريخ النشر: 20/01/14 | 1:11

المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطني في حيفا أقام ندوة تكريمية للشاعر وهيب نديم وهبة، لإشهار كتابه "الـبـحـر والـصـحـراء"، وقد شارك في الأمسية كل من د. فهد أبو خضرة، وسعاد قرمان، ود.محمد خليل، في الحديث عن كتابه الأخير، كما شارك كل من كريمته غادة وهيب وهبة، ويوسف خوري رئيس المجلس المليّ الارثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، ورشدي الماضي، في الحديث عن شخصه وإبداعه، وذلك وسط حضور كبير من المثقفين والأصدقاء والأدباء بتاريخ 16.01.2014، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة- شارع الفرس 3، حيفا، وقد تولى عرافة الأمسية: الأديب والإعلامي نـايـف خـوري، وقد أنهى الشاعر وهيب الأمسية بكلمة شكر فيها الحضور، وألقى قصيدتين قصيرتين، ومن ثم تمّ تكريمه بدرع المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الحيفاويّ، وتكريم كريماته له بلوحة تحمل منجزه الأدبي، وبروح الحميمة والمحبة تمّ التقاط الصور التذكارية!

جاء في كلمة د.فهد أبوخضرة: قبل سنوات الثمانين من القرن الماضي، كان الشعراء والأدباء يكتبون على أغلفة كتبهم نوعَ النصّ الذي يحتويه كلّ كتاب منها، نحو شعر، رواية، مسرحيّة، قصص قصيرة وإلخ، وحتى حين يكسرون أحادية النوع، كانوا يسجّلون ذلك واضحًا على الغلاف أيضا، من ذلك ما نجده عند توفيق الحكيم مثلا، حين كتب على غلاف كتابه الذي سمّاه "بنك القلق" الكلمة المنحوتة من اسمَيْ نوعيْن أدبييْن وهي مسرواية؛ (مسرحيّة رواية).

أما بعد سنوات الثمانين فقد صار الكثيرون من الشعراء والأدباء يكتبون على أغلفة كتبهم كلمة نصوص بصيغة الجمع، أو كلمة نصّ بصيغة المفرد، متجاوزين بهذا تحديد النوع.

في المرحلة التي كانوا يسجلون فيها نوع النص على الغلاف، كان النقاد والباحثون يحترمون رأي الشعراء والأدباء، ويتعاملون مع محتويات كل كتاب، بناءً على ما سجّله صاحبه على غلافه، أما في المرحلة الثانية، فقد أخذ بعض النقاد والباحثين على عاتقهم تصنيف المحتويات قبل التعامل معها، بينما تجاهل بعضهم الآخر مسألة التصنيف، وتعاملوا مع المحتويات باعتبارها إبداعًا أدبيًّا، وقد خلق هذا الأمر كثيرًا من الفوضى، ولكل مبدع أو ناقد أو باحث أو مُتلقٍّ أن ينظر إلى هذه الفوضى بشكل إيجابيّ أو سلبيّ، وذلك بحسب ثقافته ومواقفه. أما أنا فأراها سلبية جدا، وأظن أنها لن تكون إلا مرحلة عابرة في حركتنا الأدبية المحلية على الأقل.

صديقنا وهيب وهبة في مؤلفه "البحر والصحراء" الذي يضم أربعة كتب، اختار أن يكتب على الغلاف "مسرحة القصيدة العربية"، مازجًا بين المسرحية والقصيدة، وقد أشار هو نفسه غلى ذلك في تقديمه للكتاب الأول "المجنون والبحر"، حيث قال: إنّ مسرحة القصيدة عملية دمج كلمتيْن، مسرح وقصيدة ص 14.

لكنه في تقديمه للكتاب الثاني "خطوات فوق جسد الصحراء" قال: في تجربتي الثانية مع مسرحة القصيدة العربية، هنا مزيج لجميع عناصر الأدب معًا يتوافق مع النص ص67.

وفي هذا توسيع واضح لمعنى المسرحة، والتعامل مع النصوص التي يضمها هذا الؤالف بكتبه الأربعة، يجب أن يكون بحسب رأيي منطلقا من هذا الدمج، ولكن باعتبارها شعرًا في الاساس أضيفت إليه المسرحة، وما يدخل في نطاقها كعنصر تجديديّ، يبرر الابتعاد هنا وهناك عن عناصر الشعر، والاقتراب إلى عناصر المسرح أو القصة أو غيرهما من أنواع أدبية، ثم العودة إلى الشعر وهكذا، وذلك لأنني أومن أنّ أيّ تعامل آخر مع هذه النصوص يمكن أن يسيء إليها، فإذا بدأنا بكتاب المجنون والبحر وهو الكتاب الأول، وجدنا الحلقة الأولى تبدأ لغة نثرية، مكتوبة بأسطر غير جارية على طريقة الشعر الحر، واللغة النثرية في هذه البداية ترتبط بالمسرح أكثر بكثير من ارتباطها بالشعر، ثم يبدأ الانتقال تدريجيًّا من الواقع الحياتي المُعاش ص15. وهو طبعًا يقصد المَعيش. ثم يبدأ الانتقال تدريجيًّا باتجاه الشعر، دون أن تختفي اللغة النثرية تمامًا، فنقرأ قوله مثلا في الصفحة التالية: "وهذا الخيال يجمع البحر في زجاجة، ويجعل الرمل بين الوهم، هذا الفرح الهارب من النوافذ العالية بالأشواق وأحلام الناس. ص16

الحلقة الثانية أبدا بما يسمى في الكتابة المسرحية بالنص المرافق، وهو نصّ نثريّ بصورة تامّة، بعد هذا النصّ ترد العناصر المسرحيّة الأخرى متحدة بعناصر الشعر أو منفصلة عنها، وتستمرّ بعد ذلك الحلقات على نفس النهج، باستثناء الحلقة الخامسة التي جاءت مختلفة عمّا قبلها وعمّا بعدها من حيث البناء، إذ لا تبدأ بلغة نثرية مرتبطة بالمسرح، ولا بنصّ مرافق، وإنما تبدأ بقول للمجنون فيه الكثير من الشعر وهو كما يلي: "قمران عيناك وهذا المساء/ شاحب الألوان باهتٌ يرسم على ضفاف الحلم/ الوردي الشفاف جفاف العمر" ص29.

في الكتاب الثاني "خطوات فوق جسد الصحراء" يتسع مفهوم المسرحة، ليشمل أجناسًا أدبية مختلفة، ولكن الأساس يظل مُماثلًا للكتاب السابق "المجنون والبحر" من حيث المسرحة. لا يتكوّن الكتاب الثاني من حلقات ذات أعداد ترتيبية واضحة، وإنما استعملت فيه كلمة القمر الواردة في بداية العديد من الصفحات، لتشكل نقطة ارتكاز لكتابة المقطوعة الأولى، ثم لكتابة المقطوعات الأخرى، وهي تتكرر في الموضع المذكور عشرين مرة، ممّا يدلّ على أنّ الأمر لم يقع صدفة، وما قيل عن اللغة المستعملة في الكتاب الأول ينطبق على الكتاب الثاني، فلا حاجة للإعادة.

في الكتاب الثالث "مفاتيح السماء" نجد اللغة الشعرية أكثر بروزًا من اللغة النثرية، وكأنّ الشاعر أراد أن يضع العناصر الشعرية في الدرجة الأولى، وأن يجعل العناصر الأخرى داعمة، وهذا ما أتوقعه حين اقرأ مصطلح "مسرحة القصيدة"، وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا الكتاب، أن الشاعر لم يستعمل أي وسيلة تقسّم النصّ إلى حلقات أو لوحات أو ما إلى ذلك، وهو بهذا مختلف عن الكتب الثلاثة الأخرى التي يضمها هذا المؤلف.

في الكتاب الرابع "الجنة"، نجد اللغة النثرية هي الأكثر بروزا، ونلاحظ أن الأسطر كُتبت جارية كما يكتب النثر، ويجدر بالذكر هنا أن البناء القصصيّ أوضح بكثير من أبناء المسرحيّ، ولكن المؤلف على كلّ حال لم يخرج من الإطار الذي رسمه لنفسه في الكتاب الثاني، ولكي لا أطيل عليكم، فإنني سأتوقف عند نقطة واحدة في الكتب الأربعة أعتبرها مثارًا للجدل، وهي ما يُسمّيه النقاد "الفكرية الواضحة".

إنّ هذه الفكرية تقترن دائمًا بوعي متيقظ، وتأمّل تجريديّ، وتجارب منطقية، وتبتعد ابتعادًا تامًّا أو شبه تامّ عن الانزياح والإيحاء، وهما ركنان أساسيّان في الإبداع الأدبي، وبناءً على هذا فإنّ عددًا غير قليل من النقاد والباحثين، يرَوْن في استخدام الفكرية الواضحة في مجال الشعر مأخذا كبيرًا، ويقولون إنّ التفكير المنطقيّ البعيد عن الإيحاء يقف خارج الشعر ويتبع مباشرة للنثر، وذلك بشكل مطلق، والرأي الذي أراه، أنّ هذا الأمر غير مُجْمَع عليه، فهناك مَن يرى أن الكتابة بهذه الطريقة هي نوع من التفكير بالشعر، أي التفكير من خلال الشعر، وفي هذا الكثير من التعمق في تناول الأشياء، حتى أنه يُشكل في كثير من الأحيان فلسفة خاصّة للحياة، لها أهمّيتها على جميع الأصعدة، ويمكن أن يُقال أيضًا، أن هذه الكتابة تقيم نوعًا من التعادل بين الفن والفكر، وبين العاطفة والعقل ما دامت عنصرًا واحدًا من عناصر القصيدة لا العنصر الوحيد فيها، ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ هناك أمثلة عديدة من هذا الشعر الفكري تعتبر في نظر نقاد عديدين إيجابية جدّا، لأنها تنقل المتلقي من الخاص إلى العام، ومن الآني إلى العابر للزمن ومن المحدود إلى الشامل، وبذلك فهي تقوده إلى رؤية واسعة يُطلّ من خلالها على الكون كله، أمّا مَن يقول عن هذه الكتابة إنها فلسفة وليست شعرا، فإنه يعتمد على جزء واحد من النص، ويُغلّب هذا الجزء على الكل مُتجاوزًا بذلك الرؤية المتزنة، ويمكن أن نشير هنا إلى كثير جدًّا من الأبيات الحكميّة، التي ترد في الشعر العربي القديم والمُعاصر عند الكثيرين من الشعراء، وهي أبيات تتميز بالفكرية الواضحة دون أي خلاف في ذلك، وقد حرص هؤلاء الشعراء على أن تكون هذه الأبيات متفرقة في ثنايا القصيدة، وأن تشكل في النهاية جزءًا واحدًا من أجزاء القصيدة. إن هذه الأبيات لم تقلل أبدًا من لا القيمة الفنية لقصائد هؤلاء الشعراء، بل إن الكثيرين من النقاد وغيرهم نظروا وما زالوا ينظرون إليها بعين الرضا.

أمّا الشعراء الذين ارتفعت في قصائدهم كلها أو بعضها نسبة هذه الأبيات ارتفاعًا كبيرًا، فإنهم ما زالوا يثيرون جدلًا حتى اليوم، في حين أنّ الشعراء القليلين جدّا الذين جعلوا شعرهم كله حِكَمًا، كانوا هم الوحيدين الذين نُظر إليهم بصورة سلبية، وهذا يقودنا إلى القول باختصار شديد، إنّ الفكرية الواضحة يجب أن لا تُعتبر مأخذا بشكل مُطلق، وإنّما يجب أن يُنظر إليها بشكل موضوعيّ في كل نصّ على حدة، وأن يُطلق عليها الحُكم المناسب بالنسبة لذلك النص دون أيّ تعميم.

وجاء في كلمة سعاد قرمان: "البحر والصحراء" في مسرحة القصيدة العربية في الرباعية الكاملة- المجنون والبحر، يُناقش الشاعر وهيب وهبة في "المجنون والبحر" ما آلت إليه أوضاعنا، أخلاقنا وتعاملنا اللاإنسانيّ في هذا العصر الماديّ: "أصبحنا بحاجة إلى قضاة ولِجان تحكيم فيما بيننا من علاقة.. أصبح الإنسان الطيب النزيه منبوذًا ومرفوضًا.. أصبحت النزاهةُ عارًا، والدعارة عِلمًا، والخداع تجارة والكذب مهنة".

فكيف لا يتحرك المجنون في وجدان هذا الشاعر الحساس، فيثور و"يَجمع كل زجاجات الحزن ويركض حتى البحر، ويرميها فيه، ويُغرق البحر بالأحزان.." ويتساءل: مَن منا أكثر واقعيّة.. أنت أم المجنون الخارج من ذاتي إلى البحر الكبير؟ (الثورة والوجع)

ولكن المجنون عالق بسؤالٍ إنسانيّ يُلحّ عليه حتى النهاية.. "مَن يضع امرأة في راحة اليدين ويقبض على العشق، يغلق اليدين على جمرة ".. هو عالق بحبّ هالة "التي دخلت مثل الأرنب البري في ذاكرته، وعاشت في شرايين الدم، وركضت في حقول القلب الواسعة البيادر"..

يا لجَمال هذا الوصف السماويّ لعاطفة تغلغلت في كيانه! حمَلَ المجنون عشق هالة على راحة اليدين، وفتح كل الشرايين والأوردة، وبكثير من الحكمة يترك المجنون البحر ويدخل غرفة هالة، يُغلق الباب والنافذة ويمارس الجنون حتى الصباح! فهل سقطت السماء على الأرض؟ هل تغيرت الدنيا وتبدلت؟ أبدًا.. كل شيء ما زال كما كان.. ما زال الإنسان في سباق عنيف يريد أن يأكل الدنيا، والدنيا كما هي..

توقف المجنون لحظة مبهورًا، مشدودًا للشمس الخارجة للناس، حارقة تلسع، والناس صفوف في عرض وطول السوق، وتلك الشتائم.. صباح الخير يا سوق الحياة! ودون أن يدري يضحك على الدنيا، وبكثير من الحكمة يترك المكان ويركض إلى حضن هالة.. إلى حضن البحر. بلا جدوى، فهو يحمل في العينين وجع الأرض، وآلام المعذبين في زمن الحزن والغربة والهجرة، وملايين الأطفال القادمة إلى الدنيا، فلا تجد إلا شعارات رخيصة، وقادة ملتصقة مثل الذبابة فوق كرسي الزعامة، وألف تاجر ممنوعات- مخدّرات- صفقات- زعامات.. فيبكي: "نحن لا نحلم يا سيدي بمستقبل الصغار، مجرد الحلم جريمة.. نحن أمّةٌ مؤمنة نؤمن بالقضاء والقدر والأجل المحتوم، عليكم الصلاة والصوم والرب المعبود".

يركض المجنون فوق الرمال.. هالة قادمة.. يصرخ: "هالة يا وجع القلب وآخر قطرة دمٍ من دمي.." هالة قادمة تكسر العقيدة المحنطة وتخرج للحرية.. ترش هالات النور والورد والأرز. يضحك لها المجنون. هي قادمة تحمل طيب الدنيا والمحبة في العينين الواسعتين، ولكن وجع العالم مغروس في قلب المجنون! حتى خيمته على الشاطئ أصبحت رمزًا لهذا الشرق الذي تحول إلى مُجمّع لاجئين ومخيّمات، فيصيح: "سوف أحمل الشمس في صدري وأرحل.. أنا أحمل الموت في جسدي.. وحين تدخل الحياة في شراييني تعلو أمامي ألف خيمة، والبحر ينظر بصمت الأموات! يهرب المجنون من الاستعمار والاستعباد وقيود القبائل، وكل القوانين التي تمارس خنق العصافير. يترك أحلامه وينادي: "على الشرق السلام.. ويسهر لا ينام.

في هذاالشعر الجميل الذي هو أقرب إلى النثر، يناجي وهيب آمال الأبرياء وأحلامهم، فيبكي لواقعهم المكبل بلا حرية. "والفقر يا هالة أقسى من الموت، قاطعًا يأتي.. عنيفًا يهزّ أركان الحياة. نصف العالم العربيّ يا هالة يعيش في المقابر والخيام، والبحر ينظر بصمت.. الإنسان يا هالة يدمّر خُمس مساحة العالم التي تحوّلت إلى مصانع أسلحة.. القويّ يأكل الضعيف، وأنا لا أحبّ الأسماك التي تعلق في شباك الصيادين"! ترمقه هالة التي ترمز إلى الحبّ والحياة والحريّة وتُناجيه: "في داخلي صهيل المُهر الجامح، أجمع ما بين الرغبة والثورة، اُخرجْ من هذا الموت، وتعالَ معي نصبح قوةً مثل شجر بلادي.. أنت الآن مجنوني الذي يتحرك في داخلي، العالق على شفتي أُغنية تحدٍّ وعنفوان.. "تغمره هالة بحبّها وحنانها، فيهدأ بين ذراعيها ولكن البحر يشدّه.. وعندما تفتح عينيْها يكون قد غاب وتركها فريسة الألم والغياب.

"خطوات فوق جسد الصحراء": وهكذا ينتقل وهيب الشاعر الحسّاس مُثقلًا بمآسي مجتمعنا وضياعه، إلى الرسالة النبوية الشريفة التي أُنزلت من السماء هدايةً للبشر، وقد تناولها بكلّ شفافيّة منذ الجاهلية؛ زمن المعلقات وإيوان كسرى وسد مأرب والتيه في الصحراء، مُحَلّقًا في تاريخٍ تفاوت بين الكفر والإيمان ومدائن الرخام والحرير، والعرب البائدة والعرب الباقية، وحضارات تألقت عبر الربع الخالي إلى صنعاء ومدين، وازدهرت على ضفاف الرافدين وفي وادي النيل وعلى شواطئ المتوسط، وامتدادًا من شواطئ المحيط الأطلسي إلى تخوم الصين. يطوف وهيب بروعة تعابيره السماوية في أجواء ماضٍ يسبح في فلكٍ مسحور بين مسارات النجوم، تؤسّس مملكة للنور القادم من الغار ويعلن: سيد الأرض سيأتي يهتف باسم الواحد الأحد من أعالي جبل حرّاء، وتكون ليلة القدر وحيًا تنزّل في ليلة السابع والعشرين من رمضان، فَتحت السماءُ أبواب الجنة: وخرجتَ للعالم رسولًا وأُنزل عليك الكتاب: "إقرا باسْمِ ربّك الذي خلق".. نزل الضوء فوق كوكب الأرض مطرًا من كلام الله، وتكون هي الصحراء أخرجت للعالمين نبيًّا. تُغلق قريش طوق الاختناق حول أعناق المسلمين، ويخرج سيد الأرض كما تخرج البذرة من التربة، وينبعث الصوت من مئذنة كما ينبثق الضوء من العتمة، ويصعد صعود المعراج إلى القدس، ويدخل السماء السابعة، وتنطق الصخرة كما الصحراء باسْمِ الله في بيت المقدس! وخرجت الوثنية لحرب الله، وخرجتَ أنت من عند الله منصورًا.. وتشرق مكّةُ سيدةَ الأرض الحبيبةِ طوْع يديكَ مؤمنة! هي لحظة خلقٍ في التكوين فتحت فيها هاجر وإسماعيل كتاب الماء، فكانت بين يدي المُصلّين زلالا. هي لحظة خلقٍ في التكوين، أن تعود إلى مكة وأن تكون حجّة الوداع: "لا إله إلا الله".. بهذه الكلمات الرائعة يختم وهيب قصيدته" خطوات أعرابي فوق جسد الصحراء، التي تأتي بالإيمان بلسمًا للروح وآمالًا في الحياة.

الجنة: يتجلى خيال وهيب المُحلّق في رصد الجنة جغرافيًّا، فيبصر في فلك البصيرة بوّاباتها الخمسة، ثمّ يرصد مكانها وطبيعتها المتحولة في دوران لا مرئيّ، ويتجلى في خياله النور الذي يُغلف الغلاف الداخليّ، ويحضن بحنان مملكة الجنان. كل شيء يُشار إليه بالرمز. فمدارها الخارجي مسار جسم يتحرك دوريًّا كمدار الإلكترونات حول النواة في الذرة، وهو يدور إن شاء الله ويتوقف عن الدوران باسْم الله. يحافظ على مناخ الجنة ويتحكّم في تبدّل الفصول. بخيال رائع تتراءى نواحي الجنة المختلفة باختلاف ألوان بواباتها، وما تكتنفه من رموز، وما تقوم به من أداء وأجواء نحو البشر الذين أراد الله لهم بعدالته أن يلاقوا فيها جزاء أعمالهم. صورٌ أخاذة لكلّ لون وما يحتويه من عوالم ربانية، حلّق فيها خيال شاعرنا ببصيرة كشفت له بمنتهى الجمال والروعة ما ترمز إليه إرادة الله في الجنة، حيث تتجلى عظمته وعدله.

مفاتيح السماء: أما مفاتيح السماء فجاءت درة من البلاغة في شاعرية تأخذ القلب، وتغمر الروح بجَمالها وعمقها، وسلاسة أسلوبها المعبر عن تساميها في المعاني الروحانية التي تسمو بألوهيّة أدت رسالتها، وأوصلت العبرة من عظمة حياة السيد المسيح التي بذلها في خدمة الإنسانية بتواضع ومحبّة، مُتدرّجًا بوصف معجزاته الإلهيّة، وتنقله في مراحل حياته المقدسة بشفافية في التعبير على لسان الصوفي الذي أمسك بروح القارئ منذ المشهد الأول إذ يقول: "كان هائمًا يحمل نهر الأردن، مُتوّجًا من السماء، قاصدًا أرض كنعان، وكنت صاعدًا إلى ملكوت الكلمات، يخاطبني الغمام ويحاورني الصدى، وينام تحت يدي مدى من الأزمنة. لغتي الريح، وقميصي جسد الأرض، وجسدي جسرٌ بين آلهة الشمس وجهة الشرق، وخيولي الجامحة بين الريح والغمام تسابق سيد الدنيا الزمان. والمكان يضيع في متاهات السراب". ويحملنا عبر رحلة يسوع بخشوع وجلال منذ ولادته المتواضعة في المذود، حتى صعوده إلى ملكوت السماء إذ يقول: "صعد كسنبلة قمح للجائعين المبعدين عن حقول الكلمة.. صعد كرفةِ جفنٍ بين الطير والشجرة، وكمثل برق السماءِ أنار الدنيا..

أهنئ أخي الشاعر وهيب وهبة بما وهبه الله من بلاغة وقوة، في مسرحة قصائده التي لم تكن دائمًا شعرًا كما نعرف الشعر، ولكنها لمست قلوبنا وحرّكت مشاعرنا كأعظم الشعر بأناقة وعمق. حفظه الله ورعاه ومدّ في عمره، ليستمرّ بإثراء أدبنا ولغتنا بمثل هذا العطاء الجميل.

وجاء في مداخلة د.محمد خليل:

يقول جبرا إبراهيم جبرا "على الناقد أن يجعل العملَ المنقودَ ذا مغزىً لعصره مرتبطًا بالتجربة البشرية، مطهِّرًا للنفس"! بكلماتٍ أخرى ضرورةُ ارتباطِ الفن وتعميقِ صلته بالحياة الاجتماعية، وتحويله إلى معايشةٍ فعلية للناس فرادى وجماعات، الأمرُ الذي يعني تحقيقَ إحدى أهمِّ وظائفِ الفنِّ كلِّ فن، وهي الوظيفة التواصلية. هذا ما سنحاولُ توضيحَهُ في المقاربة الآتية.

مفتتح: يمكن تصنيف هذا الأثرِ/الرباعيةِ ضمنَ الإبداع الحداثي من حيثُ المبنى، الذي يتضمّنُ بحسب الترتيب الزمني الصحيح، الكتبَ الآتية:

الكتاب الأول: المجنون والبحر-1995، يتحدّث الكتاب بلسان المجنون عن إنسانية الإنسان في هذا الزمن، عن الجوع والفقر، عن العدالة المطلقة، وعظمة الخالق وإبداعه، كقوله "أليس الخالقُ أكبرَ فنانٍ، وأفضلَ مبدعٍ، وأحلى رسام؟!" ذلك هو المجنون الذي يقول فيه جبران: لا يكسرُ الشرائعَ البشريةَ إلا إثنان: المجنون والعبقري.. وهما أقرب الناسِ إلى قلب الله!

الكتاب الثاني: خطوات فوق جسد الصحراء-1999 ويحكي الرحلةَ النبويّة الخالدة، من الجاهليّةِ إلى حِجّةِ الوداع، فيها يتداخل الأدبي بالتاريخي والشعري والمسرحي، بما تحمله في ثناياها من نفحات نورانية إيمانية.

الكتاب الثالث: كتاب الجنة-2006، وقد جاء ترتيبه في الرباعية في المرتبة الرابعة. فيه يرصد المؤلف الجنة جغرافيًا، ويحدد بواباتِها ألخمسَ كما يراها هو. يرمز كتاب الجنة إلى وحدانية الخالق وخلوده بإزاء وجود الخلق وفنائه، والبحثِ عن الإنسان في الجنة، كذلك، يُرشد الإنسانَ إلى معالم الطريق إليها، طريقِ الهدايةِ

والنور.

الكتاب الرابع: مفاتيحُ السماء-2012، وقد جاء ترتيبُه في الرباعية في المرتبة الثالثة. فيه، يستعرضُ الشّاعرُ رحلةَ الفادي السيد المسيحِ عليه السلام منْ أرضِ كنعانَ إلى أرضِ الكِنانةِ، والعودةَ لنشرِ رسالةِ السماء والعدلِ والمحبّةِ. وقد نرى شاعرَنا مبدعًا محلقًا في فضاءٍ لا متناهٍ، فهو يستمد طاقته الإبداعيةَ ربما من وحي العناوين الأربعة ذات الإيحاءات المتعددة!

المسرحة: مفهومُ المسرحةِ حديثُ العهدِ نسبيًا إذ ظهر في بداية القرن العشرين وتعني من بين ما تعنيه، تكييفَ العملِ الفني وإعدادَه أو تحويلَه إلى عملٍ سردي أو شعري بتقنيَّةٍ درامية. فإذا كان الشعر يعتمد في الأغلب السردَ والوصفَ، فإن المسرحيّة تعتمد الحوار أساسًا. وهو شكل من أشكال الكتابة لا يقتصرُ على فن معين، أو أدبٍ معين، بل يطالُ كلَّ الفنون والآداب تقريبًا. وقد شاع هذا اللونُ في العصر الحديث مع تداخل الفنون بعضِها ببعض، وزوالِ الحدودِ بينَ الأجناس الأدبية والفنية، ومع تطور الإمكانات الفنية التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة. كان الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت أولَ من استخدم المصطلح في أوروبا الغربية وذلك من خلال دراسته حول مسرح بودلير في عام 1954.

البحرُ والصحراء: يعدُّ كتابُ "البحرُ والصحراءُ" فيما بلغَهُ علمُنا، نَتاجَ تجربةٍ إبداعية رائدة شكلاً ومضمونًا، تنضافُ إلى مجمل إبداعاته السابقة، ونقلة نوعية ليس في مسيرة أديبنا فحسب، بل وفي مشهدِ حركتِنا الأدبية المحلية. وأديبُنا، كما يبدو، لم يدخر جهدًا أو وسعًا بُغيةَ أن ينميَ ملكتَه الُّلغويةَ أو مخزونَ ثروته أللفظية والدلالية، وذلك من خلال سعةِ القراءةِ والخبرة والتأمل، في مختلف ألوان المعرفة وليس في مجال تخصصه أو هوايته فحسب، فكان مما لا شك فيه، أنَّ ثقافةَ شاعرِنا فنيًا ومعرفيًا هي المؤهلُ الذي مكنه من الإبداع الفني الذي يتجلى في الكثير من إبداعاته المتعددة. وقد انعكس ذلك بوضوح تام في ولوجه طقوسَ "البحر والصحراء" أو إلى حالةِ الصوفي العارفِ في تأملاتِه! فالشعرُ ليس مجردَ بوحٍ وتعبيرٍ فقط إنما كشفٌ وانطلاقٌ ورؤيا! وإننا لنراه يميل إلى التخلص من الصور الفنية التقليدية والمألوفة، إلى صورٍ فنيةٍ مبتكرةٍ تقدِّم المشهد، مع ما فيها من إيحاءاتٍ معبِّرةٍ ومثارِ خواطرَ وتداعي أفكارٍ، تتناغم إلى حد كبير مع المضمون. وهو في ذلك المنحى إنما نراه متأثرًا بالمتصوفة وبجبران لكن بأسلوبه الخاص به! يقول المرحوم محمد الماغوط في آخر لقاء صحافي معه: أنا شاعرُ الصورة لا الفكرة! وهو ما يلمسُهُ القارئُ في الرباعية.

صورةُ الغلاف: قد يكون من المفيدِ بمكان، قبل الولوج إلى لذةِ عالمِ النص، التوقف عند لذةِ مكنونات صورةِ غلافِ الكتاب، البصريةِ والُّلغويةِ على حدٍ سواء. والتي يمكن أن تساعد في تفكيك العُنوانِ عتبةِ النصِّ الأولى، ووضعِ تصورٍ عن عالم الشاعر وفضاءاته، وجدانِه ومعاناتِه!

يُرى أديبنا الصوفي في رسمه، منطلقًا من وعيه بالذات وبالواقع من حوله وهو يزينُ لوحةَ الغلافِ الخارجي في حضرة العُنوان، مفكرًا متأملاً، أمام محرابِ "البحر والصحراء" اللذين غابا، للأسف، عن صورة الغلاف، ما أدى، برأيي، إلى انقطاع التواصل الدلالي بينهما وبين العُنوان! في عالمِ التناقضات ألمتنافرة وقد جمعتها لوحةٌ فنيةٌ مُتَخيلَةٌ واحدة. هذه الثنائية المتناقضة تتكرر كثيرًا لدى الشعراء! فالبحر وكذا الصحراء حمالٌّ كلاهما دلالاتٍ متعددةً ربما أهمُّها: أن البحرَ رمزٌ للحياة، حياةِ الفطرة، فهي حياةٌ نقية وبسيطة وجميلة في آن، بإزاء حياة العصر المعقدة. وقد كان البحر وما زال أحدَ المصادر التي ألهمت ألشعراءَ بالتأمل، وحبِّ الحياة والخيال، فيه يقول على لسان هالة "لكَ البحرٌ سفينةٌ للخيال"! وقد خاطبه الشعراءُ في حالاته المتعددة: الصخبِ والهدوء، الشفافيةِ والعمق، الخوفِ والأمان!

أما الصحراءُ فتأتي مناقضةً للبحر، فإذا كان البحر رمزًا للارتواء والعطاء والحب فإن الصحراءَ، رمزٌ للظمأ والحرمان وسعةِ المدى. وثمةَ معنيان: معنى حقيقيٌ وآخرُ مجازيٌ وهو معنى المعنى! والمجازي، برأيي، أصوب وأبلغ. فالصحراء مرادفةٌ لما يعانيه مبدعنا من ظمأ وحرمان، وهو مترعٌ بحالةٍ من الوجد والكشف عن روح متعطشةٍ لمعرفة السؤال أو بالأحرى حداثةِ السؤال، فالسؤالُ مِفتاحُ المعرفة والبحثِ عن إجابة له.. هي روحٌ تحلق في فضاء الوجود، وجناحاها: العقل والخيال! والخيال أعلى مرتبةً ومتعةً من العقل كما يقول شلي (في كتابه دفاعٌ عن الشعر) هذا من جهة. في الوقت نفسِه، ارتبطت الصحراءُ، ذلك الفضاءُ الواسعُ الممتد، منذ أقدم العصور، مع حياة الإنسان كحياة العرب وسواهُم، من جهة أخرى. يقول إبراهيم الكوني في إحدى تجلياته: وطني صحراءُ كبرى! إنه العشق الصوفي المتناغمُ مع الوجود الكوني!

البحر والصحراء، القيمةُ المضافة: قد لا أراني مجانبًا للصواب أو مبالِغًا إذا قلت: إنَّ العنوانَ "البحرُ والصحراءُ" يحملُ دلالاتٍ متعددةً تحيل على الواقع الذي يعيش فيه الأديب، وتساهم في تغييره، ناهيك بأنه قد جمع من عناصرِ تكميلِ الأثر الأدبي صدقَ العاطفة، وسِعةَ الخيال، والمعنى، ومعنى المعنى وما إلى ذلك، في لبوسٍ فنيٍ جديد على شكل تأملاتٍ تصدر عن أعماق مبدعٍ مسكونٍ بالقلق، مرهفِ الإحساس، من روحٍ مفكرة متأملة تبحث عن خلاص في حياة إنسان العصر أو ربما عنِ انسجامٍ وتوازنٍ بين الروح والجسد في أقلِّ تقدير! أما اللفظُ فعذوبتُهُ بسلاستِهِ، قياسًا على قول الجاحظ: "فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"! وكذلك المعاني وهي هُوِيتُه، فإنها تشبه صاحبَها إلى حد كبير كما تُظهرُها خصائصُ النص البنائية. يقول الجرجاني"فإن سلاسةَ اللفظ تتبعُ سلاسةَ الطبعِ، ودماثةَ الكلام بقدرِ دماثةِ الخِلقةِ"! (الجرجاني: الوساطة ص17).

"البحرُ والصحراءُ" صورةٌ فنية لثنائيةٍ متنافرة، فالحياةُ جوهرُها التناقض! وقد تكون متجاذبةً أيضًا، لكنها في الحالتين، هي صورةٌ مبتكرة ومؤثرة لأنها ذاتُ طاقةٍ انفعاليةٍ وأخرى إيحائية. يقول وليم بليك في كتابه "زواج السماء والجحيم": "لا تقدمَ بدون أضداد. فالجذبُ والدفع، والعقل والعزيمة، والحبُ والبغضاءُ، كلُّها ضروريةٌ للوجود الإنساني"!

ويقول ابن منظور: إنما "سمي الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيرُه"! من هنا يُخيَّلُ إلينا بأنَّ مبدعَنا (ربما بفعل المرحلة العمرية التي بلغها) قد سئم العالم الواقعي المألوف، توقًا إلى عالم افتراضي جديد، وهما على طرفي نقيض، على ظهر طائر جناحاه: خيالٌ جامح وعقلٌ متأمِّل، لكي يرى واقعًا آخرَ أكثرَ غنىً واتساعًا، واقعًا يُلهم على التأمل والخيال وروحِ المغامرة في فضاء مغاير، وذلك فرارًا من المعاناة من أحداث هذا العالم، بعد أن ضاق بهما ذرعًا. الأمرُ الذي قد يعني من بين ما يعنيه رحلةَ اللجوءِ أو العودةِ إلى الجذور إلى الإيمان، وكذلك رحلة البحث عن الحرية والانعتاق، عن الحقيقة والمعرفة الروحانية، وحبًا بتغيير الواقع. فالفن الجيد هو الذي يطمح دائمًا إلى التغيير! وإن كنتُ أخشى ما أخشاه عليه وعلينا، من تلكَ الشياطينِ التي تكمن في التفاصيل!

في خضم أجواء العولمة والحداثة وأمواجِ القلق والشك، وشقاء الإنسان بينهما! يضع مبدعُنا، في مركز اهتمامه، محاولةً جادَّة لإعادة الإنسانِ إلى انسانيته، بعد أن ابتعد عنها أو كاد، واستغرق في متاهات التشظي من جشع وشهوة وأنانية ومادية ونفاق، كفعل جبرانِ في روحانيته التي استقاها من كافة الأديان، إذ ينزه نفسه عن الكذب والخداع والتملُّق في الشرق، وعن المادية الطاغية في الغرب! بحثًا عن تجليات الحق والخير والجمال، يقول الدكتور عبد الواحد لؤلؤه في دراسته الرائعة "البحث عن معنى" (بغداد، 1973) "لكي يكونَ العملُ الأدبِيُّ ناجحًا، يجبُ أن يتوافر فيه صدقُ التعبير عن واقع الحياة ودقة التصوير لمشكلات المجتمع"! لكي تصبحَ حياتُنا أسمى وأرقى وأجملَ، وهذا ما فعلَه مبدعُنا في رباعيته الخالدة!

أخيرًا، هنيئًا لنا ولك هذا الإنجاز الإبداعيُ الرائع، مع ما فيه من حرارة التجربة والكشف والتجاوز، فلا نضبَ دمُ يراعِكَ، ولا جفَّ معينُ إبداعِكَ! وشكرًا لكم!

في كلمة رشدي الماضي جاء: وهيب كلمة وصلاة أمام جدول عبقريّة دم الصليب، يكتمل الفداء قيامةً و"حداد العشاء سِرًّا"، ويخضوضر الدمع المُعتّق في جلجلة منفى الرب خمرًا، خمّرَ آلام "المعلم" روح قدس، تجلّت "ابنًا" يده أبدًا تمتدّ خلاصًا في ليل الخيانة والخطيئة.. خلاصًا أنوار حروفه تلجُ عتبات الجراح النازفة، حاملة أكثر من مسرّة ترتل في هيكل الإيمان: الآن نافذة جديدة، الآن عنوان جديد، الآن حائط عنيد لأعلق المصباح والوطن السعيد. هذا ما انكشفت أمامك حُجبُه وأنت في شطحات فتوحاتك، فقرات قدر الإنسان في هذا الزمن الخؤون "حياة على وتر الجراح جراح ليد شافية منتظرة"، ولأنك يا شاعري كنت دومًا على موعد مع الأمل الوضّاء الذي لا تعرف حتى ثمالته، حلقت بسموٍّ لتطفئ غليل القصيدة بسحابة ممهورة بقطرات "منديل فيرونيكا" و"حجارة المجدلية". حلقت تحمل وجع المخاض "كلمة" حروفها، وتمرّ المعاني تبحث في الجغرافية الذبيحة عن "مكان قصيّ" وعن "جذع نخلة"، كلماتك يا شاعري نجمٌ أرجوانيّ وصلاة، حتى إن أتت مع صدى الريح ومن بقية حنجرة، فقد مشت على النهد ولادة تغسل الماء بالماء، لترتفع أجراسًا في معابد اللازورد، أجراسًا تغني هللويا. صار موت "المعلم" مفتاحًا لأبواب الحياة، ها هو النهر يبزغ في شرايين دماه، ومن عينيه يطلع القمر، والقيامة تحملها يداه.

مبدعي وهيب وهبة.. أنت واهب وهاب ومهيب وموهوب، أعلنت ولاءك لقدس أقداس جراح الصليب، فأثريْتنا بهذه المرثية المَلحمة سفرا في المطلق، ذابت فيه الحدود والأمكنة والأزمنة يجترح المناطق الصعبة، ولكنه يتنفس الحياة شمعة صباح تسهد في سماء القصيدة، لتزداد نورًا على نور. هنيئا لك ولنا يا مبدعي، ملحمتك غوص في نهر القصيدة، ترفض أن تُقايَض بالنوارس، لتظلّ مَعين صدق يلمّ شتات الأبجدية من براري التيه والترحال، فتنساب فيضًا رقراقًا يعطينا تسبيحة وفيّة فتيّة نديّة تنادي: الحق الحق أقول لكم.. قدر الإنسان أن يحيا ولو على نبض الجراح، وقدر الجلاد أن يهلك في زحف الصباح، ولوهيب ولكم الحياة.

وجاء في كلمة غادة وهيب وهبة: مساء خير ومودة ومحبة وصفاء للجميع مع حفظ الألقاب، شكرًا لكم على دعوتكم الكريمة لنحتفل وإياكم بتكريم وتبجيل وتقدير شاعرنا وأديبنا وهيب نديم وهبة، وقفت الكلمات احترامًا وتقديرًا لك، وخشعت أمام كلماتك العذبة المتكاملة، ووصفتك أجمل وصف لتردّ لك جميل استعمالها وحُسن معاملتها وقالت: كالحصان تمتطي الأرض، وتبحر بين أمواج البحر وتغرق بين نوافذ الحياة لتفتح أبواب السماء، لتحلق كالملاك الأبيض لتصل إلى الأفق، وتحطم جميع القيود لتبزغ شمس الجنة، فأنت أبي تخلق الجمال وتبدع أحلى قصيدة.

أبي الغالي: ربيتنا ثلاث، بنات رعيتنا حتى كبرنا، وأحببتنا حتى في أخطائنا، واحترمتنا بمشاعرنا وعلمتنا بكل إصرار وعنفوان، وزوّجتنا بكلّ ما تحمل من حبّ وحنان. نحبّكَ أبي ونحترمك، ونعيش ونتعلم من عَلم مثلك أصولَ معترك الحياة وحنان الأرض. أحبَبْنا أنا ورندة وفضيلة إهداءك رمزًا مُعبّرًا عن كل ما نشرت لنا من عبير حبّك وعذب كلماتك، وشكرًا.

وفي كلمة يوسف خوري رئيس المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا جاء: إن الشاعر وهيب وهبة ابن هذه البلاد، ابن دالية الكرمل وابن حيفا، فهو ابننا البارّ، نعتز به ونفتخر لأنه بكتاباته أثرى المكتبة العربيّة المحليّة، وتبوّأ بإبداعه مكانة خاصّة، وأخضع مبنى القصيدة التقليديّ لتجديدات حديثة وضعته في صدارة الشعراء والكتاب المسرحيّين، فإنّ المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، صاحب الكليّة العربيّة الأرثوذكسيّة ونادي حيفا الثقافي، يفتخر بتقديم شهادة تقدير واعتزاز للأستاذ وهيب وهبة، متمنّيًا له بالمزيد من العطاء والإبداع.

وفي نهاية الحفل قدم الشاعر وهيب وهبة نصين: القصيدة الأولى:

قمرٌ/ فوقَ ليلِ الْجزيرةِ/ ويداكَ منْ فضّةٍ/ وجسمُكَ مِنْ ترابٍ/ وسماؤُكَ مِنْ نحاسٍ/ وَعِشْقُكَ منْ سَرابٍ./ ماذا سَتجنِي منْ سرابِ الْقلبِ؟/ ماذا سَيأتي منْ غابرِ الزّمانِ؟

قمرٌ/ يرسمُ ظلَّ الّلونِ/ يلعبُ في فرشاةِ الضّوْءِ/ يرسمُ بحرًا وجزيرةً/ يرسمُ قصرًا في صنعاءَ.. تسْكُنُهُ أميرةٌ../ وخيالاتٌ بعيدةٌ.. تطلُّ منْ قصرِ غَمَدانَ..

كانَ الْقمرُ يتنزّهُ في بستانِ الْأرضِ/ يصْغي إلى أصواتِ أغنياتِ المْاءِ/ تموجُ تندفعُ تتدفّقُ في أبراجِ فلكِ الرّغبةِ/ ويُدَحْرِجُ نصفَ الضّوْءِ/ فوقَ غاباتِ الشّجرِ الْعالي/ نِصفُ دوائرِ أشكالِ ألوانٍ لقوسِ قزَح/ تدورُ في نفسِ الْمكانِ/ ترسمُ شكلَ الْوطنِ الْقائمِ بينَ الْبحرِ وبينَ الرّملِ../ ترسمُ خارطةً على شكلِ سكّينٍ/ صنعَتْ ذاتَ زمنٍ مسكونٍ بالمْجدِ/ إمبراطوريّةً عربيّةً/ حَمَلَتِ الْأرضَ على كفِّ السّماءِ/ ويَهْمِسُ الْقمرُ…./ حينَ يندسُّ الضّوْءُ في المْاءِ/ ويَعْلو المْوجُ إلى الْقمّةِ/ ويختلطُ الشّعاعُ بالْياسمينِ/ والنّورُ بالْعتمةِ لتحيا الْحياةُ.

القصيدة الثانية: أَوقَفَني الصُّوفِيُّ، على حافّةِ الْحُلُمِ/ كانَ هائمًا يَحمِلُ نَهرَ الْأُردُنّ، / مُتَوَّجًا مِنَ السَّمَاءِ، / قَاصِدًا أَرضَ كِنعَانَ../ وَكُنْتُ صَاعِدًا إلى مَلَكُوتِ الْكَلِماتِ/ يُخَاطِبُنِي الْغَمَامُ وَيُحَاوِرُنِي الصَّدَى/ وَيَنامُ تَحتَ يَدِي مَدىً مِنَ الْأَزمِنَةِ.

لُغَتِي الرِّيحُ، وَقَمِيصِي جَسَدُ الْأَرضِ، وَجَسَدِي جِسرٌ بَينَ آلِهَةِ الشَّمسِ وَجِهَةِ الشَّرقِ، وَخُيولِي الْجَامِحَةُ بَينَ الرِّيحِ وَالْغَمَامِ تُسَابِقُ سَيِّدَ الدُّنيَا الزَّمَانَ. وَالمَكَانُ يَضِيعُ فِي مَتَاهَاتِ السَّرابِ.

قَالَ الصُّوفِيُّ: اُنظُرْ، هُنَاكَ.. يَنَامُ الْيَمَامُ عَلى شُرفَةِ الْبَحرِ.. وَالْبَحرُ كَالْأَطفَالِ يَلهُو بِنَشِيدِ الْكَائِناتِ.

الْبَحرُ يَرسُمُ بِالْأَصَابِعِ وَالتَّلوِين/ الْأفقُ أَبعَدُ مِنْ مَدَاهُ/ الْأفقُ أبعدُ مِنْ مَدَاهُ/ تَعزِفُ غَابَاتُ الرِّيحِ،/ نَايَاتُ الغَيابِ، وَصَولَجَانُ/ الزَّمَانِ وَفَرَسُ التَّاريخِ الْهَادِرِ:/ الْفَرَحُ الْعَاصِفُ آتٍ/ يا مَلَكوتَ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة