إجرام تحت الظلام !

تاريخ النشر: 01/03/21 | 10:02

يوسف جمّال – عرعرة
لن تنسَ ذلك اليوم ..
تبتعد عنه .. عمّا حمله من مصائب , فيلاحقها وينتصب أمام ناظريها . يبتعد عنها للحظة , ثمَّ يعود للحظات لا نهاية لها .
جرح نازف دائم السيلان .. طبول تدقُّ حواسِّها بكلِّ قوة ..
آلاف المرات تلاحقها تهاجمها تجَرِّحها ..
لماذا تركته فريسة لكلاب الإجرام .!؟ لماذا لم تكن بجانبه في وقت اغتياله .!؟
هي التي دفعته الى مواطن الموت !
تركته يطير إليها بغير وداع ..
لماذا لم تجد القوة والشجاعة , لتردَّ على واحدة من رسائله !؟
لماذا لم تخرج من الحصار الذي فُرض عليها.. على روحها .. على جسدها .. على هاتفها . وتقف الى جانبه في محنته ..
محنتهما !؟
لماذا .!؟
كانت تنتظره فرجع إليها روح بلا جسد .. فتحوَّل الى ذكرى مرَّت
بسرعة البرق , خُطفت في بدايات ميلادها .
بضع كلمات رأتها مطبوعة على شاشة التلفاز :
” شاب وُجد مقتولاً ..اغتاله الجناة ورموه في البراري .!”
**********
تعود الى ذلك اليوم الذي التقت بأنور في المرة الأولى ..
كان ذلك في المستشفى ..
كان مع أبيه الذي كان ” ينام ” على سرير بجانب سرير أبيها .. جمعهم المرض في غرفة واحدة ..
مكوثها الطويل معه في المستشفى قرّبهم شيئاً فشيئاً ..
لماذا لا يناوبك أحد بجانب أبيك .؟ سألها بعد أن بدأ الحديث يجري بينهما .
ليس لي من أحد لينوب عنّي .. أنا وحيدة والديَّ , ومرض أمّي وعجزها يمنعها , من المكوث في المستشفى لزمن طويل ..
ردَّت وفي صوتها رنين حزين .
فسكت متَّهماً نفسه , بأن تسرّع في اقتحام مجال ليس له .
وأنت .!؟ فاجأته .. بعد أن خرجت من لحظة من صمت ..
أنا .!؟ أنا الوحيد الأعزب من بين أخوتي .. “فتبرَّعت” أن أتركهم في حضن عائلاتهم .
أجابها بعد تغلّب على ” الغيبوبه ” التي غرق بها ..
وبدأ الزمن الطويل الذي يقضونه في غرفة المرضى , والقاعة المعدة لجلوس الزائرين يتلوَّن بألوان مختلفة ..
أحاديثهم بدأت تدخل الى أعماق جديده .. بدأ ينتظرها إذا غابت ..
وإذا غاب عنها , كان يلاحظ أن عودته , كانت تُحدِث على وجهها موجات من اللهفة والانتظار, وجهود لمحاولة إخفائها ..
أما هو فقد بات يشعر , أن حنين أصبحت جزءاً من حياته ..
إذا توارت عن عينيه , ظهرت بقوة في تفكيره وخياله ..
كان يكره أن تطلب منه أن يعتني بأبيها , إذا ما غابت لتعود لبيتها , لتقوم ببعض المهام ..
لأن غيابها هو غياب عنه ..
وعندما ترجع متلهفة للقائه , كان يشعر أن روحه رجعت إليه ..
ذات يوم , قالت له أنها لن تتغيَّب سوى بضع ساعات , لترتيب بعض الأمور في بيتها في البلد , ولكنها لم تعود إلا بعد يومين .
فطار صوابه ..
وعندما رجعت بعد غياب ” قرنٍ” كما شعر , صاح بها :
أين كنتَ .!؟
فوقفت متجمّدة في مكانها ..
وبعد خروجها من حوّام الذهول الذي غرقت فيه , قالت من بين الدموع التي تفجّرت من عينيها :
آسفه إن كنت قد أثقلت عليك, باعتنائك بأبي في غيابي ! .
أنت يا حنين تثقلين عليَّ !؟ أنت تعرفين سبب سؤالي .. أنا لم أعد أطيق غيابك عنّي .!
أكمل وهو يسرع بالهروب خارج الغرفة ..
سلّم نفسه للمصعد ليوصله الى حديقة مدخل المستشفى .. وهناك جلس على أول مقعد صادفه .
قامت من الكرسي الذي كانت تجلس عليه بجانب أبيها , الذي كان غارقاً في نوم عميق .. وضعت يديها على عينيها , وبدأت تذرع مساحة أرضية الغرفة الضيقة التي ما بين الأسرة والحائط , مما جعلها تصطدم بها مرات عديدة . محاولة الهروب من الموقف ,الذي وجدت نفسها فيه مع رائد , ولكنه لاحقها فجعلها تغرق في دوامات تكاد تخنقها , تطرق تفكيرها طرقات , أحسَّت أن الغرفة ستخنقها .
فأسرعت الى باب المصعد ..
إنها تعرف أين تجده ..
خرجت من الباب الرئيسي لبناية المستشفى , وعندما وصلت الى الحديقة , جالت بعينيها باحثة عنه, فقشعته عيناها يجلس على أحد المقاعد ..
اقتربت منه وجلست بجانبه , وشاركته صمته الذي غرق فيه ..
لم أكن أتوقع أن تكونّي قاسية عليَّ إلى هذا الحد .! وجدت كلمات تائهة مكسورة طريقاً من بين شفتيه ..
أرادت أن تردَّ فسبقتها الدموع ..
تسللت يده وحضنت يدها .. فتبادلتا كلَّ الأحاسيس .. وكان الصمت هو اللحن الذي رافقها .
غادرا المستشفى وهم يحملان حبّاً وحلماً .. تبادلا رسائل الحب والحلم ..
داوما على الالتقاء خفيَّة في حديقه المعهد التي تدرس فيه ..
في أحد اللقاءات جاءت متأخرة عن موعدهم المعتاد ..
ظهرت له من بعيد , وأرسلت له إشارة ليتبعها ..
خرجت من بوابة المعهد , ومشى خلفها في شارع لم يرَه من قبل .. شعر أن موجات من الذهول والدهشة , تكاد تحوِّل الشارع الى سراب .. كان يسير خلفها , ويبذل جهوداً جبارة , كي يراها ويرى طريقه من بين الغشاوات التي تهاجم عينيه .
إلى أن وصلت حديقة بجانب الشارع ..
انتظرته على بعد خطوات من مدخلها , ولما وصل , مشت أمامه وتبعها ..
ومشيا حتى وصلا الى مقعد مخفيٍّ, في داخل شجرة كبيرة , فجلست عليه وجلس بجانبها ..
ماذا حدث .!؟ زعق هامساً من بين حوّامات ذهوله ..
خراب بيت .! ردت والدموع تتناثر من عينيها ..
ماذا .!؟ قولَي .! صاح مصعوقاً
لقد رأوني معك .! ردّت كأنها ترمّي قنبلة , تخاف أن تنفجر في داخلها .
مَن .!؟ صرخ صرخة من طُعن في صدره
ابن عمّي الذي يدرس في نفس المعهد .. ويهدد بإيصالها الى “العنوان ” .. الى أبي .!
أجابت بصوت يحمل كلَّ الهموم والخوف .
نحن – يا حنين – لم ندخل في منطقة الحرام .! قال بدفاع مكسور .
يا رائد كلُّ واحد يحدِّد مناطق الحرام الي يؤمن بها ..ّ ردَّت باستسلام من لا يجد في نفسه القوة ليجابه قوَّة فوق طاقته .
أو تخدم مصالحه وأطماعه ! أكمل بيأس شديد .
أو يجرُّها في تفكيره منذ عصور بائدة ! ردّت مستمرَّة في الغرق في حوّام اليأس .
والعمل .! صاح مصعوقاً ..
أن تقطع على ابن عمّي الطريق , وتطلب يدّي من أبي .! قالت كأنها ترمي ثقلا تحمله على ظهرها , وترميه على ظهره .
توقَّع كلَّ شيئ إلا هذا ..
صدمة لم يكن يتوقعها .. معركة لم يعدَّ العدة لها ,ولا يملك الوسائل لمجابهتها ..
*************
هو ابن لفلاح كادح ,لا يملك الأرض التي كان يزرعها .. حتى قطعة الأرض التى كان يستأجرها من مالكها , أجبره المرض على تركها , ويعيش الآن على القروش , الذي يتلقّاها من مؤسسة التأمين الوطني .
انقطع في هذا العام عن دراسته في جامعته , ليعمل في البناء كي يوفَّر تمويلاً لتعليمه ..
لا يملك بيتاً ولا حتى قطعة أرض لبنائه .
الموقف جعلهما يغرقان في سكون رهيب مطعون .
شعرا أنهما دخلا دائرة مغلقة لا منفذ لها ..
قامت من مكانها , وأسرعت هاربة باتجاه باب الحديقة , فلحق بها وهو ينادي ..حنين ..حنين .! فلم تلتفت الى الوراء .
حاول أن يتصل بها في مختلف ساعات الليل والنهار .. أرسل إليها عدد لا يحصى من الرسائل , فلم يتلقَّ ردّاً واحداً .. ذهب الى معهدها مرّات ومرّات فلم يجد لها من أثر .
هل أوصل ابن عمها الخبر لأبيها ,” فحبسها ” ومنعها من الخروج من البيت , و من الوصول الى الجامعه .!؟ كان هذا السؤال يعذِّبه ليل نهار .
لا يستطيع ان يعيش بدونها ..
لقد أصبحت جزءاً من كيانه , صورتها لا تفارقه ..
**********
فقفزت أمام ناظريه صورة صديقه القديم جمال .. الذي قاطعه منذ عدة سنوات ..
جمال الذي باع نفسه للشيطان .. والتحق بعالم الإجرام ..
سأله في اليوم الأخير الذي تكلّم معه : ” من أين هذه الأموال , الذي يبذِّرها ذات اليمين وذات اليسار !” .
إذا أردت مثلها فالحقني ! أجابه صديقه وهو “يطبطب ” على ظهره
الى أين .!؟ سأله ليسمع مرة أخرى ما يعرفه .
الى عالم سيوصلك الى العجائب ..أجاب وهو يرفع يده االى السماء .
أية عجائب .!؟
المال وما يوفره المال .. ستحصل به على كلَّ ما تريد .
ستتعرَّف على رجال أشدّاء , يأخذون القليل ويعطون الكثير .
تقصد عصابات الإجرام !؟ .
لماذا تطلق عليهم هذا الاسم .!؟ هم أطيب الناس , إذا كنت طيّب معهم .
وإذا قررت الدخول !؟ سأل وهو يشيح بعينيه , عن عيني صاحبه .
” إذا دخلت الى هناك فيجب عليك ,أن تلعب حسب أصول اللعبة . وإذا خالفتها سيكون مصيرك هكذا .! ” أجاب وهو يمرِّر حدَّ يده على عنقه .
بعد صراع متلاطم في داخل تفكيره استمرَّ أيام وليال طوال ثقال .. قرَّر أن يتصل بصديقه القديم .
وفي اليوم التالي كانوا في حضرة الأمير .. أبو طلال .
كان وجهه كالملاك الوديع, استقبلهم بحفاوة , وفرد أمامهم ألواناً من أطايب المأكولات والمشروبات ..
وقال له :” سترافق الشباب في المساء , كي تتدرَّب على “العدَّة ” .
وفي طريق مرافقتهم لمغادرة البيت , وضع في جيبه مغلّف ,وعندما فتحه في بيته ,وجد فيه رزمة من الأوراق المالية , وورقة مسجَّل عليها رقم تلفون , عرف بعد ذلك أنها رقم المواصلة مع المسؤول المباشر عنه .
ودرَّبوه على أنواع عديدة من السلاح , حتى تأكّدوا من إتقانه لها ..
وبعد إسبوع اتصلوا به , وأخبروه أن يحضِّر لمهمته الأولى ..
وفي اليوم التالي أتصل به محمود .. الشاب الذي درَّبه على السلاح , وطلب منه أن يلتقي معه في الغابة القريبة من البلد ..
وعندما التقوا أخبره , أن أوامر صدرت له بقتل : سعيد سالم العيسى .. وهذه ستكون أوَّ مهمة له في عالمه الجديد , وإذا نفَّذها بنجاح , سيحصل على مكافأة كبيرة .
وإذا لم أنجح .!؟ سأل والخوف يقطِّع قلبه .
يجب عليك أن تنجح ..! في عالمنا الفشل ممنوع .!
أتفهم ما أقول .!؟
لماذا يريدون قتله .!؟ صرخ مبهولاً .. انه رجل مسالم لا يؤذ أحد .
السؤال ممنوع في علمنا هذا .. أنت جديد فيه , نحن الجنود علينا تنفيذ الأوامر فقط .ومن يسأل فمصيره …
نلتقي عند باب بيته في السابعة ليلاً .. الموعد الذي يعود فيه من عمله ..
لا تنسَ سلاحك .!
***************
قضى نهاره وهو يعيش في حوّام .. يشعر أنه يقف على فوهة بئر
مظلم ليس له قاع .
سعيد العيسى .. صاحب المتجر الكبير .. لماذا يريدون قتله .! ما ذنبه كي يُقتل !
ربما لم يدفع لهم “الخاوة” ..
خطوة .. أو خطوتين سيتحوّل الى قاتل ..
أخذ البارودة ومشى باتجاه البيت .. بيت سعيد العيسى ..
والتقى بمحمود بالقرب من البوابة ..
هنا ستقف خلف سيّارة بيت الجيران .. وعندما ينزل من السيارة ويصل الى البوابة .. أطلق عليه ثلاث طلقات في صدره .. وانسحبْ مسرعاً من الاتجاه المعاكس الى بيتك ,ونَمْ في سريرك .
وأحبس ما فعلته في صدرك ليموت معك .!
فهمت !؟ في عندك سؤال .!؟ استمر في تفهيمه بتهديد مبطَّن .
ورجع في المساء حاملاً بندقيته , تحت معطفه والرعب يدُّق في قلبه .و”ألطى” خلف السيارة الواقفة مقابل بيت سعيد , منتظراً رجوعه الى بيته ..
مدَّ يده ليخرج البندقية , محاولاً التمرن على المشهد , الذي سيقوم به بعد لحظات , فعجزت راحة يده وأصابعه عن القبض عليها , أصابتها موجة من الارتجاج أطاحت بها , فعادت مكانها تضغط بكل بقي فيها من قوة , لتمنع سقوط البندقية من تحت معطفه .
وبقي متجمِّداَ في مكانه ينتظر ..
وجد نفسه في موقف ,لا يعرف كيف يدخل إليه أو يخرج منه ..
وصلت سيارة سعيد وقفت بجانب البوابة ..
فتعال دويُّ دقات قلبه .. حاول أن ينزع يديه من موتها , فعجز أن يدّبَّ بها الحياة .
بَرقَ مصباح البوابة , معلناً عن بدء انسحابها من أمام السيارة , لتمكِّنها من الدخول الى البيت ..
دخلت السيارة الى بيتها وسكت محرِّكها ,وقبل أن تنطفئ أنوارها سمع أصواتاً تنطلق من جوانب السيارة ..
أصوات أطفال ينادون :” أبي ! أبي! “. كانوا يسرعون الى باب السيارة .. غير منتظرين خروجه منها ..
ضجيج مرح الأطفال أسقط يده عن صدره , فسقطت البارودة على الأرض محدثة رنّات كادت تقطٍّعه ..
ترك البارودة ملقاة في الشارع وهرب .. هرب بعيداً ..
كان يعدو بكل ما أوتيَّ من قوة .. كان يشعر أن شياطين الأرض تلاحقه ..
ولم يقف إلا بعد أن ابتعد عن البلد , وأصبح جزءاً من الظلام ..
حاول أن يتصل بحنين فلم تسعفه محاولات ..
بعد يومين وجدوه مقتولاً في براري القرية ..
وعند رجوع المشيعين من المقبرة , كانوا في ضيافة أبي طلال , تناولوا عنده وجبة ما بعد دفن الميِّت .!

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة