إلياس جبّور جبّور قلم عريض ومجنّد للقضايا الوطنيّة

تاريخ النشر: 31/01/21 | 7:36

(مهداة إلى روح الفقيد الفاضل والكاتب إلياس جبّور عشيّة الذّكرى الأربعين لرحيله)
بقلم: علي هيبي

قبل الكتابة:
في زيارتي إلى بيته العامر في مدينة “شفاعمرو” الجليليّة العريقة، في الثّامن من شهر كانون الاوّل هذا العام (2020) ما يعني قبل وفاته بحوالي أسبوعيْن أهداني الأستاذ الجليل “إلياس جبّور جبّور” (طيّب الله ثراه) هذا الشّفاعمريّ الفلسطينيّ العربيّ حتّى النّخاع مع بشاشة وجهه وشباب روحه مجموعةً من كتبه الّتي كنت حتّئذٍ لمّا أقرأ منها حرفًا، وقد زرته بحثًا عن معلومة أروي بها ظمأ معرفتي فأرواني حدّ الثّمالة، والأستاذ “إلياس” محدّث لبق ومربٍّ مجرّب ورجل خبِر الحياة بآلامها ومعاناتها وبآمالها وأفراحها، فالرّجل من كلامه وشخصيّته تستشفّ باختصار أنّه “يعرف من أين تؤكل الكتف”. وفي أثناء حديثنا الأنيس تشعّبنا إلى مجالات كثيرة: إلى الواقع السّياسيّ الّذي تضطرب فيه الأمّة والواقع الاجتماعيّ وما ينعكس عليه من سلبيّات، أخطرها العنف والسّلاح المنتشر والظّروف الاقتصاديّة الّتي تحيق بنا وتضيّق الأحوال خاصّة تحت شبح “الكورونا” اللّعين. وذهبنا إلى التّاريخ: قديمه وحديثه وإلى القضيّة الفلسطينيّة منذ الحكم التّركيّ والانتداب البريطانيّ والاحتلال الإسرائيليّ، وتطرّقنا إلى خيانة الأنظمة العربيّة وصفقة القرن. وكان مسك حديثنا عن القرى المهجّرة والعامرة وتاريخ “شفاعمرو” الضّارب في التّاريخ والعراقة والمواقف العظيمة والنّسيج الاجتماعيّ الرّائع، وعن العادات والتّقاليد وما استجدّ من أمور، لأكتشف فيما بعد أنّ كلّ المواضيع تلك هي موادّ كتبه. وعدت إلى بيتي في “كابول” سعيدًا بهذه الزّيارة المثرية، ومثقلًا بما أفاد وأمتع وأقبلت على قراءة كتبه السّتّة الّتي أهدانيها، لقد كانت هدية ممتعة ومفيدة ولا تقدّر بثمن، فوجدت فيها إسهابًا عظيمًا ورحيبًا لما دار بيننا من حديث أثناء الزّيارة في بيته، لأنّ الرّجل بدا فيها وانعكس صورة حقيقيّة لما كتب، كما كانت مدينته الحبيبة “شفاعمرو” على مدى تاريخها الّذي تناوله في ثلاثة كتب صورة حقيقيّة مصغّرة عن “فلسطين” الوطن السّليب والحبيب على مدى معاناته الوطنيّة وكفاحه البطوليّ والمقاوم. وكان رفيقي العزيز “أحمد حمدي” ابن مدينة “شفاعمرو” قد رافقني في الزّيارة وقد أهداه الأستاذ “إلياس” ستّة الكتب نفسها، فقال لي عند خروجنا: “أستطيع أن أقرأ هذه الكتب في يوم وليلة واحدة”! فقلت له: “أنا ستأخذ من وقتي شهرًا، وربّما أكثر”! فقال متعجّبًا: “ألا تبالغ”! قلت: “لا! لأنّني سأقرأها قراءة دارس سيكتب عنها احترامًا للكاتب والمكتوب”.
مات “إلياس جبّور جبّور” – رحمه الله وتغمّده بمغفرته وأسكنه فسيح جنانه مع الأبرار والأحرار لأنّه كان منهم – عن عمر يناهز الخامسة والثّمانين عامًا، في الثّالث والعشرين من كانون الأوّل هذا العام (2020) والنّاس تعيش أجواء الأفراح الكبيرة بقدوم أعياد الميلاد المجيدة وشجرات الميلاد المزدانة بالأضواء والورود تزيّن البيوت والسّاحات، وكان قد ولد سنة (1935) يأبى إلّا أن يتركنا بعد رحيله في أجواء فرح وأعياد والقدر يأبى إلّا أن ينزع عيدًا من أعيادنا العربيّة ويحوّل فرحًا من أفراحنا إلى حزن وبكاء برحيل شخصيّة وطنيّة عزيزة وكريمة، تركت بصمات من أفعالها وكتاباتها على صفحات حياة مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ في بلادنا هذه الّتي لا بلاد لنا سواها. ويحلو في هذا المقام التّغنّي ببيتيْن من الشّعر للشّاعر “علاء زايد” يليقان بالفقيد المرحوم الأستاذ والمربّي الفاضل “إلياس جبّور”
“إنَّ الكرامَ وإنْ ضاقَتْ معيشتُهُمْ — دامَتْ فضيلتُهُمْ والأصلُ غلّابُ
للهِ درُّ أناسٍ أينَما ذُكروا — تطيبُ سيرتُهُمْ حتّى وإنْ غابوا”

استقبلني وكان ما يزال موفور الشّباب بروحه وإشراقة وجهه، كان ذا عود صلب وعزيمة أصلب على الحياة بشرف وطنيّ وكرامة قوميّة وإنسانيّة.
ترك الأستاذ “إلياس جبّور” مجموعة من المؤلّفات والمقالات والخواطر، كلّها مجنّدة لخدمة القضيّة الوطنيّة والتّآخي والوحدة بين سائر طوائف شعبنا، للتّمكّن من صدّ الاعتداءات الصهيونيّة عن حقوقنا وأراضينا وقرانا ومدننا. والأستاذ “إلياس” هو ابن السّيّد “جبّور جبّور” (1895 – 1981) الشّخصيّة الوطنيّة المعروفة وثاني رئيس لبلديّة “شفاعمرو” بعد وفاة رئيسها الأوّل “داود التّلحمي” سنة 1932، وظلّ “جبّور الأب” رئيسًا للبلديّة حتّى سنة (1969) ومن أبيه المربّي العريق والرّجل الوطنيّ والمناضل الكبير تعلّم “خير الخلف من خير السّلف”. رأيت السّيّد “جبّور” الأب مرّة واحدة في حياتي، كنت طالبًا في الصّفوف الأولى من المرحلة الابتدائيّة حين اصطحبتنا مدرستنا الابتدائيّة الوحيدة في “كابول” في بداية الستّينيّات لاحتفالات ما في ساحة مدرسة “شفاعمرو” الابتدائيّة الرّسميّة الّتي ما زالت تحمل اسم مدرسة “جبّور جبّور” وقد جمعت العديد من طلّاب مدارس المنطقة، وكان السّيّد “جبّور” ما يزال رئيسًا للبلديّة، كان يجلس على المنصّة معتمرًا طربوشًا أحمر، أذكر هذه الصّورة منذ ما يقارب ستّة العقود بأمّ الرّأس كأنّني أراها الآن بأمّ العين.
بعد القراءة:
أعادتني كتابات الأستاذ “إلياس جبّور” إلى بداياتنا الشّعريّة في استهلال قصائدنا القديمة، حيث وقف على أطلال القرى المنكوبة والمهجّرة بفعل عصابات الحركة الصّهيونيّة، يقف بألم ويستوقف بحسرة ويبكي بأسًى بالغ ويستبكي بأحزان لا تطاق، إنّه طريق آلام طوال، ويحنّ إلى ما كان من عمار وحياة تعجّ بالأهالي الفلّاحين القرويّين الّذين كانوا هناك وما عادوا هناك. وإذا كان لكلّ شاعر من شّعرائنا الغزِلين القدماء محبوبة واحدة يخلص لها ويذكر اسمها في مستهلّ قصيدته ويتذكّر أيّام لقائها ويتألّم لليالي هجرها ويحلم بجمال لقاءاتها القادمة الّتي تجعل للحياة معانيَ جميلة وتجعل الأماكن عامرة تعجّ بالحياة فإنّها تخلق في الشّاعر مشاعر وأحاسيس رقيقة ومرهفة قبل الرّحيل، فبعده تتحوّل الأماكن العامرة إلى أطلال دارسة ملساء، وللأستاذ الكاتب والعاشق المخلص “جبّور” 530 محبوبة يخلص لكلّهن بنفس مقدار الوفاء وبنفس معايير الحبّ الصّادق، لكنّ محبوبات الأستاذ “جبّور” هنّ الأماكن والقرى المهجّرة، هنّ لسن خولة وليلى وأسماء وبثينة وعزّة ولبنى، بل هنّ القرى الفلسطينيّة الّتي أعملت بها معاول الحقد الصّهيونيّ وآلات دمار عصاباته الهدم حتّى جعلتها قاعًا صفصفًا وأطلالًا وبسابس صارت أثرًا بعد عين. وقد قال الأستاذ “جبّور” بألم باكٍ ووجدان منفعل: “وكأنّي بامْرئ القيس وشعراء الجاهليّة أجمعين قد استعانوا بهذه المناظر الحزينة للبكاء على الأطلال”. (كتاب رياح العودة، ص 16)
يستهلّ الأستاذ “جبّور” كتابه “رياح العودة” وقبل المقدّمة بمخاطبة النّسيمات الّتي ستحمل سلاماته للأهل والأحبّة النّازحين بعيدًا والقابعين في خيام الغربة والمنفى، ولا يجد من طريقة للتّواصل معهم إلّا بهذه الكلمات الحزينة الّتي تترقرق من قلمه كدموع حمراء من عين ساخنة:
“يا نسيماتِ الخزامى — بلّغي أهلي السّلامْ
واقصدي تلكَ الخياما — حيثُ أحبابي الكرامْ”

وببيت شهير لأمير الشّعراء “أحمد شوقي” يفضّل فيه الوطن عن جنّات الخلود:
“وطني لوْ شغلْتُ بالخلدِ عنْهُ — نازعَتْني إليْهِ منَ الخلدِ نفسي”
ومن ثمّ يهدي الكتاب إلى أبيه السّيّد “جبّور جبّور” لأنّه لم يكن أبًا له فقط، بل كان معلّمًا أيضًا: “تعلّمت منه حبّ الأرض والشّعب والوطن”. الإنسان الفلسطينيّ المشرّد أوّلًا والأرض الفلسطينيّة السّليبة ثانيًا ضلعان أساسيّان، ولن يكتمل المثلّث الوطنيّ إلّا بثالث أضلاعه، وهو الضّلع الضائع والمفقود عند الكاتب، وهو العودة الّتي ستهبّ رياحها ولو بعد حين. هذا هو الألم الّذي نعيشه مع الكاتب في كتابه، ولكنّه لا يتركنا نهيم في تيه الآلام بل يعيدنا لنعيش تحت بارقة الأمل السّاطع. “لن يضيع حقّ وراءه مطالب”.
حقيقة لا لبس فيها ولا شائبة تشوبها كان الأستاذ “جبّور” شاعرًا في كتابه “رياح العودة” الّذي صدر في “شفاعمرو” سنة (1998) لقد أعادني إلى الحُلم الجميل والمستقبل المشرق الحتميّ الرّدّ على النّكبة، ولا شيء إلّا العودة كوجه مشرق لظلام النّكبة والتّشريد، كان الكتاب رغم أنّ كلّ ما كتب فيه من الخواطر النّثريّة الّتي امتزج فيها الذّاتيّ بالموضوعيّ ديوان شعر يفيض رقّة وحنينًا، وكان فيه الأستاذ “جبّور” شاعرًا بكلّ ما تحمل الكلمة من دلالات وما تعكسه من أحاسيس وما تنطوي عليه من روح وعواطف وأنباض تجارب تدقّ في صميم معاناة الوجدان الوطنيّ ومعاناة الأحبّة وبلغة شاعريّة رقيقة تمتلئ بروح الشّعر الرّومانسيّ. وقد عرّف كتاباته في المقدّمة بإنّها “لواعج وخواطر تعبّر عمّا يختلج في النّفس من مشاعر وأحاسيس وأمانٍ وآلام، صور من بعض قرانا العربيّة الجميلة، عمّا كانت عليه في الماضي وما آلت إليه اليوم في الحاضر الحزين”.
لقد أعادني إلى شعر الحنين إلى الأوطان، ومن أحنّ من الإمام الغزّيّ الفلسطينيّ “الشّافعيّ” الّذي عاش قسطًا وافرًا من عمره في “مكّة المكرّمة”، ولكنّه ومع ذلك كان يتوق إلى “غزّة هاشم” ذات التّراب/ الكحل الّتي تسكن في وجدانه الصّاخب رغم الكتمان وكبت المشاعر فقال:
“وإنّي لمشتاقٌ إلى أرضِ غزّةٍ — وإنْ خانَني بعدَ التّفرّقِ كتماني
سقى اللهُ أرضًا لو ظفرْتُ بتربِها — كحلْتُ بهِ منْ شدّةِ الشّوقِ أجفاني”

وإلى الشّاعر الشّيوعيّ، الغزّيّ، الفلسطينيّ “معين بسيسو” وهو الآخر حمل غزّة أينما حلّ أو ارتحل، وكتب يوميّاتها وتاريخها بذاتيّة الشّاعر العاشق “يوميّات غزّة”، والشّاعر الفلسطينيّ النّصراويّ “توفيق زيّاد” الّذي كتب رجوعيّاته على جسر العودة، والشّاعر العراقيّ “مظفّر النّواب” يقول: “صرت شوقًا مخيفًا لكثرة ما اشتقت يا وطني” والعراقيّ الآخر “بدر شاكر السّيّاب” ذلك الغريب على الخليج الّذي عوى شوقًا وحسرة. ومن من الشّعراء العرب القدماء والمعاصرين لم يذق طعم الغربة لهذا السّبب أو لذاك؟ أو لم يتغرّب أحبابه، فصار الوطن يسكنه كما يسكننا أكثر ممّا يسكنه الشّاعر ونسكنه نحن. لقد رحلوا وجودًا وواقعًا فرحلت معهم أوطانهم وجدانًا ومعانيَ وأحاسيس تجعل القلوب في حالة ثورة جامحة وفي رغبة للعودة مهما طال وقسا الزّمان الغدور. سموم الرّياح والسّوافي الصّهيونيّة وبمؤازرة الانتداب البريطانيّ والتّخاذل العربيّ الرّسميّ الّتي اقتلعت أكثريّة الشّعب الفلسطينيّ من وطنه وأرضه لا يرى “جبّور” حلًّا لها إلّا بما عنون به كتابه “رياح العودة” فرياح العودة عمّا قريب هي الّتي ستهبّ حتمًا وستجلب مع نسيمها الجميل والعليل العائدين على طريق الأمل العريض والسّاطع نحو الوطن الحبيب.
مقارنة ذات عذاب أليم:
يعقد الكاتب مقارنة أليمة فعلًا بين ما كانت عليه بعض محبوباته أيّام العزّ الوطنيّ، عندما كانت فلسطين تعجّ ديارها بالحركة الثّقافيّة والاجتماعيّة، والأرض تنبض من محراث الفلّاح والطّيبة القرويّة، والتّسامح الأخويّ الاجتماعيّ يغمر الجميع وبين حاضر ينعق فيه البوم والغربان، والخراب هو سيّد الموقف يعيث بالبيوت والحارات الدّارسة والدّواوين الّتي كانت عامرة بالمحبّة والألفة، ولكنّها خلت اليوم من أحبابها. ومحبوبات الكاتب هنّ: القدس، عكّا، سحماتا، الكابري، الصّفصاف، إجزم، صفّوريّة، إقرث، معلول، البصّة، كفر لام، عين حوض، بيت جن، مجدل شمس، الرّامة، الجشّ، يركا والمغار. كلهنّ محبوبات معذّبات صابرات، ولكنّ العذاب متعدّد الأشكال والمضامين، فمنهنّ من ماتت ومسحت عن ظاهر الأرض وتساوت بالتّراب كسحماتا والكابري والصّفصاف والبصّة وصفّوريّة، ومنهنّ من تهوّدت فصارت ذات أغلبيّة سكّانها من المهاجرين اليهود كعكّا والقدس، بعد أن كانت عربيّة خالصة وبعد رحيل أكثر سكّانها إلى المنافي والغربة، ومنهنّ من ابتليت بالصّراعات العائليّة والطّائفيّة كشفاعمرو ويركا قديمًا والمغار والرّامة وكفر مندا وكابول ومجد الكروم وطرعان حديثًا، ومنهنّ من ابتليت بالمذابح كالجشّ، ومنهنّ من ابتليت بمصادرة الأرض وبتجنيد شبابها الإجباريّ في الجيش الإسرائيليّ المحتلّ لوطنهم كبيت جن. فحاق بنا وبقرانا ومدننا كذلك القول: يا لطيف خلّي البلا تصنيف”، فذقنا صنوف العذاب والابتلاء، ومن بقي لم يكن حظّه بأوفر أو أقلّ همًّا وابتلاء فأصبح مهجّرًا في وطنه، يرى بلده وأرضه بأمّ العين ويحنّ إليها من صميم القلب، ولكنّه يحرم من العودة إليها ومن فلاحتها وحتّى من دخولها أو من دفن موتاه في ثرى ترابها الطّاهر والّذي غدا مدنّسًا بالقدم الصّهيونيّة الهمجيّة.
بما يشبه الغزل العذريّ الشّريف وبتغزّل محبّب ورقيق يتغنّى “جبّور” العاشق بمحبوباته جميعًا، لله درّه كيف يطيق هذا الإخلاص ويقدر على هذه المساواة العادلة في الوفاء، لتلك العربيّات الفلسطينيّات المهدومات، كيف يستطيع ذلك الصّدق في الحبّ الرّوحانيّ الطّاهر لأولئك المحبوبات جميعًا، رغم علمنا بأنّ تعدّد المحبوبات في غزلنا العربيّ يجعله إباحيًّا يبغي الشّهوات الجسديّة ويخلو من الوفاء لمحبوبة واحدة.
وكنموذج على ذلك التّغزّل تعالوا نقرأ ما كتبه العاشق مخاطبًا به حبيبته “الصّفصاف” الّتي غابت وراء مكاناتها المعهودة: “أين أنت أيّتها “الصّفصاف” ولماذا اختبأت وراء أشجارك الباسقة وهل تواريت عن الأنظار حياء وخجلًا ممّا صنعه التّاريخ بك ظلمًا وعدوانًا وهل أصبح ترابك الأحمر بلون خدّيْك اللذيْن احمرّا خجلًا مما ارتكبته أيدي العالم الحديث ولماذا تطلّين علينا برأسك ثمّ تعودين وتختبئين وراء أطلالك الّتي لم تستطع كلّ وسائل التّكنولوجيا الحديثة أن تمحوها عن الوجود”. (رياح العودة، ص 35) فالزّمان والأعداء هم ليس العذول الحقود فقط، بل هم الجنود المدجّجون بالسّلاح والكراهية والعنصريّة، الّذين هدموا الحبيبة وحاولوا تغييب وجودها عن المكان، ولكنّ الأطلال ما زالت تروي، ووجدان الكاتب ما زال يطفح بشوق العائدين. الكاتب بهذه المثابة هو الرّواية الصّادقة الّتي تفنّد كلّ الوجود الجديد والمزيّف، “الّذي طغى عليه الباطل ورقص الشّيطان على قممه وذراه وعربد بين جدرانه وساحاته”. (رياح العودة، ص 35)
وبالمدينة العريقة “عكّا” الّتي “نيّخت نابليون” المستعمر الفرنسيّ عند تلّها الصّامد وفقد هناك على ذراه ذروة مجده، “ها هو “نابليون” يقف ببابك حائرًا خائرًا ولا تأذنين له بالدّخول فيعود على أعقابه خائرًا حزينًا”. (رياح العودة، ص 14) فالحبيبة “عكّا” عند عاشقنا الكاتب نموذج للمحبوبات اللّاتي لا يفتحن قلوبهنّ إلّا للعشّاق الصّامدين في هذا الهوى الوطنيّ والمخلصين لهذ الحبّ العذريّ الطّاهر والعريق.
العودة بالأساس ووفقًا لمفهوم الكاتب ووفقًا لموقفه الوطنيّ هي عودة النّاس إلى الوطن السّليب، وهي ليست الحجارة والبيوت والأشجار والحقول، لأنّ هذه وغيرها لا تساوي شروى نقير إذا غاب الإنسان، لا قيمة لفلسطين بلا الفلسطينيّ: فردًا وشعبًا ومجتمعًا، وهذا المجتمع كان يعجّ بالنّاس والفلّاحين والسّهرات والدّواوين والمجالس والأحداث والقصص والخلافات والصّلحات وطيبة القرويّين وكدحهم وأخلاقهم وقيمهم المستمدّة من عرق الأرض الطّيّبة وترابها الثّريّ بالحكايات. ففي خاطرته الموجّهة لأهل قرية “سحماتا” المهجّرة يروي قصّة جريمة القتل الّتي ارتكبها ابن أحد الوجهاء في حقّ فتًى من قرية “البقيعة” العامرة وكيف طغت الطّيبة القروية على أسباب الجريمة البشعة وعادت القريتان إلى صفائهما وسمت النّاس بوحدتها وانتصارها على شرّ المشاعر الطّائفيّة الضيّقة وتعالت عن الجراح، بحسن تدخّل مطران العرب “غريغوريوس حجّار” ودرايته. (اقرأ تفاصيل القصّة في رياح العودة، ص 18 – 23)
وهكذا وبنفس الأحاسيس الجيّاشة والمحبّة الرّقيقة واللّغة الأنيقة يفعل عندما يخاطب البصّة وكفر لام وإقرث ومعلول وصفّورية. وعلى سبيل المثال، ففي وصفه لحالة “صفورية” المنكوبة يقول بألم: “ولم يبقَ إلّا جدار الصّبر يلفّ بمحيط ما كان يسمّى في ذلك الزّمان قرية عربيّة، وها هي بضع شجرات من الزّيتون وكأنّي بها اختبأت وراء الحشائش والأعشاب خجلًا من التّاريخ … أمّا شجيرات الزنزلخت المتناثرة هنا وهناك فتضفي على ذلك الجوّ مسحة من الحزن وقد تلاعب النّسيم بأغصانها فتناثرت دموعها فأصدرت أنينًا حزينًا يبكي على أيّامها الخوالي”. (رياح العودة، ص 46)
ولطالما وجد الكاتب العاشق في الحنين والنّوسطالجيا سندًا يحطّ على أكتافه تلك الهموم الثّقيلة، ولطالما وجد عن طريق الاسترجاع غايته كي يستعيد تلك المحبوبات وأيّامهنّ العامرة ولياليهنّ السّاهرة مع القمر والسّمر، فتلك القرى هي الأرض المشتاقة للشّمس والفلّاح الّذي يشقّ بطنها وينتظر المطر ليسقي ويأكل ويُطعم من خيراتها البقول والخضراوات وخبز الطّابون المغمّس بزيت الزّيتون، “ولمّا بطلع الخير بطلع عَ الكلّ”، تلك القرى هي العمّال البسطاء يشقّون ظلمات السّحر جريًا وراء لقمة كريمة تأتي ممزوجة بعرق الجبين، تلك القرى هي الطّيبة الفلّاحيّة القرويّة المجبولة بإنسانيّة فطريّة لا تتقن غير المحبّة والسّلام والوئام. وإذا كانت على خلاف أسود مقيت يغتمّ النّاس ولكنّهم يحلمون بصباح ألفة مشرق ومحبّب ويستفيقون على صلح وسلام ناصع ينشر أشعّة أمانه على النّاس فتهيمن الأجواء الباسمة. لم يكن يبتئس الكاتب ولم يتكدّر صفو عيشه إلّا عندما تنشب الخلافات الفرديّة أو الجماعيّة عائليّة أو طائفيّة فترين على الأهالي غمائم التّوجّس والخطر على أغلى ما تملكه من نسيج اجتماعيّ متين، ولا يعود صفاؤه ورغد عيشه وراحته النّفسيّة إلّا عندما تصفو القلوب وتطيب النّفوس بالتّرفّع عن السّفاسف وبالتّعالي على الجراح، ويعود “الصّلح سيّدًا للأحكام”.
أمّا رسالته الوطنيّة من حكايات “رياح العودة” ومحبوباته فيشير إليها في مقدّمة الكتاب: “ثمّ من حقّ أجيالنا القادمة علينا أن تعرف تاريخ آبائها وأجدادها وحفاظًا عليها من الضّياع حاولت جاهدًا أن أنتزعه من طيّات الذّاكرة وتسجيله على هذه الصّفحات خوفًا عليه من النّسيان ووفاء منّي للأهل والأصدقاء الّذين يعيشون في بلاد اللّجوء ويطلّون علينا بعين غربتهم والّذين من حقّهم علينا أن نزرع في قلوب أبنائهم وأحفادهم أمل العودة إلى أرض الوطن”. (رياح العودة، في المقدّمة) يعي الكاتب ويستشرف خطورة النّسيان على الفلسطينيّ اللّاجئ والمهجّر والغريب في وطنه، ولذلك يثق بالذّاكرة الجمعيّة جيلًا بعد جيل، لحفظ هذه الذّاكرة واستمرار الرّواية الصّادقة أمام الزّيف والظّلم والاحتلال، لأنّ في هذه الاستمراريّة أملًا بالرّياح والعودة.

الأب المعلّم والابن البارّ:
من حقّ الأب على ابنه حسن السّيرة والذّكر، ومن حقّ المعلّم والمربّي على الطّالب حسن السّير على النّهج التّربويّ والعلميّ، ولقد أفلح الابن والطّالب الأستاذ “إلياس جبّور” في المساريْن والمنهجيْن. فكتب عن أبيه سيرة خلّدته وإن لم تعظّمه، فقد اكتسب الرّجل عظمته من مسيرته الوطنيّة والبلديّة الخالدة ومن نشاطه السّياسيّ والاجتماعيّ وعلاقاته مع النّاس في “شفاعمرو” والجليل وسائر أنحاء فلسطين. وبهذا يكون الأستاذ “وفّى وكفّى” في حقّ الأب بحسن الذّكر وكتابة السّيرة، وفي استمراره على طريق التّعليم والتّربية فقد كان معلّمًا ومربيًّا كما كان أبوه من قبل دخوله معترك الحياة البلديّة، وتخليدًا له حملت أقدم مدرسة رسميّة في المدينة اسمه الكريم “مدرسة جبّور جبّور الابتدائيّة” والّتي ما زالت تؤدّي رسالتها التّعليميّة والتّربويّة حتّى الآن.
تقرأ الكتاب “جبّور جبّور فلسطينيّ بين ثلاثة عهود” فتتعرف على مسيرة الرّجل عبر عقود طويلة من السّنين، قد تكون أطول من تاريخ القضيّة الفلسطينيّة الحديث فقد ولد سنة (1895)، ثلاث دول استعماريّة جائرة عاش تحت شبح ظلمها واضطهادها: الأتراك والإنجليز واليهود. وقد تناول الابن تلك المسيرة الحياتيّة والكفاحيّة منذ نشأته وبداياته مستعرضًا مواقفه النّضاليّة الّتي خاضها منذ شبابه ضدّ الحكم التّركيّ، وعلاقاته مع شخصيّات تلك الفترة مثل الملك “فيصل” والحاجّ “أمين الحسينيّ” والشّيخ “عزّ الدّين القسّام”، وقد عايش بدايات نموّ الوعي القوميّ العربيّ، وشهد ميلاد الدّولة العربيّة في الشّام. وكذلك مشاركته في ثورة سنة (1936) وفي هذه الآونة كان قد تولّى رئاسة بلديّة “شفاعمرو” سنة (1933) بعد وفاة رئيسها الأوّل “داود التّلحمي” سنة (1932) وما أنشأه من حركة عمرانيّة ومشاريع حيويّة في المدينة، منها تعبيد الشّوارع ومشروع المياه ومشروع الكهرباء وتنظيم الأحياء، لقد كان أسلوبه في تحصيل الميزانيّات أسلوب النّضال وليس الاستجداء. إنّه الشّعار والنّهج الّذي سار عليه رئيس بلديّة النّاصرة الشّاعر والقائد الكبير “توفيق زيّاد” فيما بعد “كرامة وخدمات”.
ظلّ رئيسًا للبلديّة حتّى سنة (1969) ما يعني أنّه كان رئيسًا للبلديّة منذ حكم الإنجليز واستمرّ في المنصب لمدّة 20 عامًا تحت الحكم الإسرائيليّ بعد النّكبة الفلسطينيّة التي حذّر المناضل “جبّور” الأب من وقوعها نتيجة لإدراكه للتّعاون المبكّر بين الانتداب البريطانيّ والحركة الصّهيونيّة، تنفيذًا لوعد “بلفور” المشؤوم منذ سنة (1917) لقد عايش فترة الحكم العسكريّ الّذي نفّذته الحكومة الإسرائيليّة وقانون “تركيز الأراضي” وقانون “الحاضر غايب”، كلّ ذلك للتّضييق على السّكان العرب الّذين بقوا في مدنهم وقراهم كي ييأسوا ويرحلوا. لقد ناضل “جبّور” الأب ضدّ كلّ هذه القوانين الجائرة بإقامة اللّجان الشّعبيّة والبلديّة وأحيانًا بقيادة النّضال الميدانيّ وتنظيم المظاهرات الشّعبيّة الّتي أسفرت عن إلغاء قانون “تركيز الأراضي”.
ذكر الكاتب الابن في مقدّمة كتابه عن أبيه ما يلي: “من الصّعب كتابة مذكّرات رجل كجبّور جبّور كانت حياته حافلة بالأحداث وملأى بالأعمال، وخصوصًا أنّه لم يترك لنا مذكّرات مكتوبة”، لا أعتقد أنّ هذه هي الصّعوبة الوحيدة الّتي واجهت الكاتب الابن، ولا أقصد ما قاله حول صعوبة جمع المادّة بالاعتماد على المقدار الّذي أسعفت به الذّاكرة ممّا سمعه من تفاصيل تاريخيّة، خاصّة أنّ الرّجل عاش في فترة مصيريّة من تاريخ فلسطين، ولنفس الرّسالة الوطنيّة يكتب عن أبيه: “حرصًا منّي على ألّا يضيع ما تبقّى من تلك الذّكريات مع مرور الوقت، آليت على نفسي جمعها ولملمتها من حنايا الذّاكرة وحفظها في سِفر تقرأه الأجيال القادمة لتستفيد من عبره وأحداثه”. (جبّور جبّور فلسطينيّ بين ثلاثة عهود، ص 1)
قلت لا أعتقد أنّ هذه كانت الصّعوبة الوحيدة، بل أعتقد أنّ الكاتب وهو الابن البارّ والمحبّ والسّائر على نهج أبيه الوطنيّ والاخلاقيّ والمعجب بشخصيّته ومسيرته الحياتيّة واجه صعوبة الكتابة لاختلاط الأمريْن عليه: الذّاتيّة والموضوعيّة، فهل يستطيع أن يكون موضوعيًّا مع ذاته! وهل يستطيع في غمرة الكلام عن الذّات الابتعاد عن الحقائق الموضوعيّة والأحداث الواقعيّة! وأقصد هل عندما يكتب “إلياس جبّور” الابن سيرة “جبّور جبّور” الأب سيكون ما ينتج عن هذه الكتابة سيرة ذاتيّة أم غيريّة!؟ لا أعتقد أنّها غيريّة بل هي ذاتيّة يسكنها الغير. كيف سيكتب عن هذا الغير “الأب” وهو جزء من الذّات “الابن” فالحيّز الموضوعيّ سيسكن جزءًا في صميم الذّات، أو لنقل أنّه يلفّع موضوعيّته بذاتيّته المهيمنة فتكتسب الموضوعيّة بذلك أبعادًا لها إيقاع جديد وتأثير على صفحات النّفس وأنسام الرّوح.
كتب الابن البارّ عن والده كنموذج للشّخصيّات الوطنيّة الّتي كافحت ضدّ الظّلم الاستعماريّ الكولونياليّ، وآمن بضرورة تنظيم هذا الكفاح، فالتّنظيم برأيه وسيلة كفاحيّة لإنجاز المشاريع الوطنيّة والوصول للأهداف السّياسيّة والحقوق المدنيّة والقوميّة واليوميّة، ولذلك كان من مؤسّسي اللّجان العربيّة والوطنيّة، وسعى مع غيره من القيادات الوطنيّة على مستوى الثّورة العربيّة الكبرى في الحجاز وعلاقاته مع المفتي الحاجّ “أمين الحسيني”، ومع شخصيّات محلّيّة مثل “يوسف الفاهوم” رئيس بلديّة “النّاصرة”. ولعلّ أبرز ما يشهد لوطنيّته مواقفه الحازمة، وعلى سبيل المثال عدم قبوله بتعيين بريطانيا “هربرت صموئيل” مندوبًا ساميًا على فلسطين لإنّه صهيونيّ بامتياز، وقد رفض “جبّور” الأب المشاركة في استقباله وسخر وتبرّم من الشّخصيّات العربيّة المتواطئة الّتي هرعت إليه ذلًّا ونفاقًا. وفي موقف آخر منعت فيه السّلطات البريطانيّة رؤساء البلديّات العرب من عقد مؤتمر لهم في “رام الله”، فلم يتمكّن أحد من الوصول لكثرة الحواجز، ولكنّ “جبّور” الوطنيّ العنيد استطاع أن يتسلّل من خلال طرق وعريّة شاقّة ويصل إلى “رام الله”، وتكتب جريدة “فلسطين” خبر وصوله. وفي موقف آخر ردّ “جبّور” بعناد وصلابة موقف على ذلك الضّابط الإسرائيليّ الوقح الّذي هدّده بنسف بيته إذا لم يستجب لطلباته بجمع الأسلحة من سكّان البلدة وتسليمها له، فردّ عليه قائلًا وبكلّ هدوء واتّزان: “لقد ضاعت فلسطين ببيوتها كلّها أو تريدني يا سيّدي أن أتأسّف على بيت واحد فقط”! فذهل الضّابط من هذه الجرأة النّادرة وصاح: “إنّك رجل عنيد ولا يمكن التّعامل معك”.
ولعلّ “جبّور” الأب كرجل شفاعمريّ ومربٍّ في سلك التّعليم ورئيس لبلديّة المدينة ورجل مواقف وطنيّة ومحلّيّة مشهودة على مدى سنّي عمره يعدّ بنظري أحد أبرز المعالم الإنسانيّة والحياتيّة في هذه المدينة.
شفاعمرو:
عندما تعرّضت “شفاعمرو” للاعتداء الإجراميّ سنة (2005) والّذي نفّذه الصهيونيّ المتطرّف “نتان زادة” فسقط أربعة شفاعمريّين شهداء، التفّت “شفاعمرو” كلّها حول المجرم ولم تستطع كلّ القوى الأمنيّة من الوصول لإنقاذه وتماسكت أمام هذه المجزرة الرّهيبة. وكعادة القضاء الإسرائيليّ “النّزيه” يبرّئ القاتل ويتّهم المقتول، يقف مع الجلّاد ويحاكم الضّحية. ألقي القبض على العشرات من الشّباب الشّفاعمريّ الّذين هزّتهم الجريمة بحجّة ارتكاب جريمة قتل “نتان زادة”، ولكنّ محامي الدّفاع من العرب استطاعوا استصدار حكم بالبراءة للمتّهمين بعد أن سُجنوا لفترات متفاوتة. كتبت في حينه خاطرة في زاوية “صباح الخير” في جريدة “الاتّحاد” يوم 5 تمّوز 2006 بعد النّضال الشّعبيّ الشفاعمريّ خاصّة والعربيّ عامّة وبعد حكم المحكمة بالإفراج عن المتّهمين، كان عنوان تلك الخاطرة “صباح الخير يا أهل شفاعمرو: لقد أعدتم التّوازن للمعادلة” وقد قلت فيها: “صباح الخير على أهل شفاعمرو لأنّهم أعادوا حدود المعادلة إلى التّوازن المنطقيّ فالمجرم مجرم والضّحيّة ضحيّة، وليس كما أرادتها السّلطة مختلّة، محاوِلة قلب الحدود والتّوازن ليصبح المجرم ضحيّة والضّحيّة مجرمًا”. (نشرت الخاطرة في كتابي “خلطة أدبيّة”، الّذي صدر سنة 2019، ص 67 – 68)
هذا التّماسك الشّفاعمريّ هو ما يعشقه الكاتب “إلياس جبّور” ولأنّه يرى في “شفاعمرو” فلسطين مصغّرة، فيها كلّ مواصفات وطنه الفلسطينيّ الكبير، نعم! “شفاعمرو” هي وطن الكاتب الصّغير. يستهلّ الكاتب كتابه “رياح العودة” بخاطرة عنوانها “إيه يا شفاعمرو لقد مشى التّاريخ فيك” يخاطب فيها حبيبته المفضّلة “شفاعمرو” مستعرضًا بتكثيف لغويّ جميل تاريخها العريق من الرّومان والرّسالات السّماويّة والمسيح مرورًا بالقائد “عمرو بن العاص” الّذي سمّيت البلدة باسْمه عندما مرض ونزل في أرضها وشرب من مائها فشفي وصارت “شفاعمرو”، وأقام فيها “صلاح الدّين” قاهر الصّليبيّين، وقد اتّخذ من قلعتها “ظاهر العمر الزّيداني” مقرًّا لحكمه، وفيها قصّة ابنته الشّهيرة وتنبّؤها بزوال حكم أبيها لجور ولاته وعامليه على النّاس.
حين يكتب الكاتب عن “شفاعمرو” يتكلّم عنها كحضن أمّ وادع ورؤوم، ورغم ما يقوله عنها من حقائق ثابتة وما يوثّقه من معالم قائمة وأحداث حدثت وحكايات وقعت، إلّا أنّ الحقيقة تتنحّى فتفسح مجالًا في كتابته، لتحلّ فيها روح وجدانيّة تطغى على الحقائق والمعالم. بحبّ يكتب “جبّور” عن حبيبته أو عن أمّه أو عن وطنه في تلك الخاطرة الّتي يفتتح بها كتاب “رياح العودة”. ولكنّ كما يبدو لا تكتفي الحبيبة بخاطرة واحدة فيخصّص لهذه الحبيبة/ الأمّ/ الوطن ثلاثة كتب أخرى هي: كتاب “أيّام مضت” صدر سنة (1999) وكتاب “صفحات من تاريخ شفاعمرو” صدر سنة (2009) وكتاب “شفاعمرو الماضي في سطور” صدر سنة (2015) “شفاعمرو” ليست مكانًا ثابتًا في حدود جغرافيّتها فقط ولا وجودًا مادّيًّا ملموسًا عند الكاتب، بل هي أعمق من ذلك في الوجدان، لأنّها غدت عنده تاريخًا نابضًا بالحياة وحياة تعجّ بالنّاس والحركة، تسكن في وجدان الكاتب العاطفيّ أكثر بكثير ممّا يسكن بين حدودها المادّيّة.
ففي كتابه “أيّام مضت” يروي حوالي 50 حكاية شعبيّة ومن ضمنها 15 حكاية شفاعمريّة حقيقيّة، وبعد النّظر في هذه الحكايات تبيّن لي أنّ الحكايات الشّعبيّة هي حكايات فلسطينيّة وعربيّة وعالميّة، تبنى على الخيال والواقع بأسلوب رمزيّ خفيف، أبطالها من الجنّ والإنس والحيوان، تتناول الضّدّيْن في الصّراع الأبديّ بين الخير والشّرّ والظّلم والعدل والعلم والجهل والشّقاء والسّعادة، وتنطوي على أهداف تعليميّة وأخلاقيّة عامّة، وهي ما يسمّى كنوع أدبيّ “الأمثولة” أو “قصّة المثل”. ولكنّي أعتقد أيضًا أنّ الكاتب وهو الواعي لما يكتب لا يوثّق هذه الحكايات فقط كجزء من تراثنا القرويّ الفلسطينيّ والعربيّ والإنسانيّ، بل لإثبات وجوده أمام الخطر الاحتلاليّ الصّهيونيّ المحدق بكلّ شيء، والّذي يبغي محو كلّ ما هو عربيّ وفلسطينيّ من الذّاكرة، حتّى هذه الحكايات، بل لمست في بعضها رمزيّة ترمي إلى توجيه إصبع الاتّهام إلى ذلك العدوّ الّذي ينهب الأرض والرّواية، ويريد الاستحواذ على الذّاكرة، ومن هنا يكرّر الكاتب في كلّ مقدّمات كتبه أهميّة الحفاظ عليها لئلّا تضيع. ولنا في حكاية “الملك والأب الختيار وابنه” (أيّام مضت، ص 14 – 16) أو حكاية “الملك والكلاب” (ص 57 – 58) نموذجان جليّان.
في حكاياته الشفاعمريّة يستعرض نوادر ومقالب لشخصيّات شفاعمريّة خفيفة الظّلّ، لا يُغضب منها مهما فعلت، وإن حدث فمقلب اللّيل يمحوه النّهار، حكايات لها علاقة بالحياة الفلّاحيّة والدّواوين والمجالس والسّوق والطّعام والولائم، إنّها حكايات الواقع اليوميّ ونوادره الّتي تحوّل بها تلك النّماذجُ الحيّة الحياةَ الرّاكدة لتصبح تعجّ بالحركة والحيويّة وتضفي على أجواء الجدّ شيئًا من الهزل المحبّب والطّافح بالحكمة أحيانًا. إنّ نموذج شخصيّة “حسين دانيال” مع “إبراهيم أبو جليّل” (ص 26 – 27) وقصّة “نعيم كركبي” مع عمّه “أبو فوزي” وقصّة دعوته لأكل الهريسة (ص 29 – 32) وقصّة “أبو منصور نخّول مع إيليا مباريكي” (ص33 – 34) وقصّة “حنّا الدّيك” مع “أبي جميل التّلحمي” (ص 38) وقصّة “أبو إيليّا رشيد حبيبي” مع جمله (ص 39) وغيرها تشكّل روحًا حلوة أو رشّة سكّر يلقيها كاتبنا في خضّم المتاعب والأشغال ومرارة الحياة، فتنعش الرّوح وتبلّ الفؤاد بمسحة عذبة تعين الإنسان على استمرار الحياة على الرّغم من شدّتها، خاصّة في الأوقات العصيبة والظّروف الّتي تهيمن بفقرها وظلمها وعدوانيّتها. إنّها حكايات نماذج من الظّرفاء الّذين يجعلون شفاعمرو بمجالسها ودواوينها وحاراتها وسوقها وحقولها وأناسها أكثر تماسكًا وألفة ومحبّة وبقاء وصمودًا.
ولكن بالمقابل لهذه الشّخصيّات الهزليّة ومقالبها ونوادرها يتناول الكاتب عددًا كبيرًا من الشّخصيّات الشفاعمريّة أو الّتي عاشت طيلة حياتها في “شفاعمرو” والّتي امتازت بحضور وأدوار ومآثر وأفعال مجيدة، ما زال النّاس ينعشون بها ذاكرتهم ويستعيدون من خلالها صورًا لا تنسى وأيّامًا لا تغيب ومواقف مشرّفة. ومن أبرز هؤلاء الشّيخ “صالح أفندي المحمّد شبل” وقصّة خلافه الرّجوليّ الدّائم مع الشّيخ “أسعد الشّقيري” والشّيخ “محمّد حمادة” وقصّة والدته “فلّة” الّتي خلّصته من خطر داهم بعد تدفّق النّاس من القرى المجاورة ليأويهم فقالت جملتها المأثورة “يمّا يا محمّد عشّي ومشّي” وصارت المقولة مثلًا متداولًا بين النّاس إلى يومنا هذا، والشّيخ “صالح خنيفس” الّذي يسجّل له موقفه الكبير يوم سما بالصّلح بعد مقتل أبيه بين الطّائفتيْن: الإسلاميّة والدّرزيّة وأعاد الدّيّة بكرم وفخر ورجولة، أمّا الطّبيب “جاد الخوري” الّذي درس الطّبّ في “القصر العيني” زمن الأتراك في مصر وابنه د. “فؤاد الخوري” فلهما أيادٍ بيضاء، ولعلّ من أبرز شخصيّات “شفاعمرو” الطّبيب الإنسان والوطنيّ د. “موفّق ذياب” اللّبنانيّ الأصل، وقد ذاع صيته بين جميع الأهالي في منطقة “الجليل” كطبيب يساعد النّاس بلا مقابل “معك ادفع شوي ما معك الله معك”، والمحامي المشهور “حنّا عصفور” والكاتب “نقولا الدّر” مؤلّف كتاب “هكذا ضاعت هكذا تعود” عن النّكبة الفلسطينيّة، والمهندسان: “عفيف كركبي” وَ “بحّوث سابا”، والشّاعر “إبراهيم بحّوث” الّذي رثى المطران “حجّار” برائعته، ومطلعها:
“لمَنِ الخِرافُ بلا راعٍ يداريها — أشفَّها السّقمُ أمّ دبَّ الأسى فيها”
ومن الشّخصيات الّتي عاشت في “شفاعمرو” وما أحبّت بل تالّمت لمغادرتها ولا تنسى شخصيّة “حسين حسني” آخر مدير تركيّ فيها، الّذي امتاز بثقافته واستقامته وحبّه لأهل “شفاعمرو” فأحبّوه، وحين انكسرت “تركيا” بعد الحرب الأولى سنة (1917) وحان موعد رحيله إلى “إستانبول” هرعت الأهالي لوداعه قال والدّموع في عينيْه: “إنّ انكسار تركيا أهون عليّ من مغادرة شفاعمرو … كونوا أخوة”! وتابع طريقه إلى ميناء عكّا. (شفاعمرو الماضي في سطور، ص 13) ومن أروع ما كُتب عنها ما قاله الرّحالة والمؤرّخ “عبد الغني النّابلسي” أثناء رحلته إلى بلاد مصر وسوريا والحجاز سنة (1670): “مررت بشفاعمرو فإذا بها بالخير مغمورة وبأهلها معمورة”، وقد ذكرها “أبو العلاء المعرّيّ” في لزوميّاته: “مررت بشفاعمرو فأكرمني أهلها”.
وإلى جانب هذه الشّخصيّات شخصيّات مشهورة في مجالات متعدّدة أخرى من “شفاعمرو”، ومنهم من عمل في مدن أخرى في فلسطين وفي دول أخرى من العالم وتبوّأوا مناصب مرموقة، وهم كثر يعتزّ بهم الكاتب ويفخر ونحن كذلك كمنارات شفاعمريّة مضيئة وكأعلام ساطعة ومشرقة، لا نستطيع ذكرها جميعًا، ويمكن للقارئ العودة للاستزادة حول ذلك من كتب الأستاذ المؤلّف “إلياس جبّور”.
ثلاثة مواقف مشرّفة:
بتباهٍ مشروع وتفاخر متواضع يكتب الأستاذ “إلياس جبّور” عن مدينته وتاريخها ومواقفها المشرّفة والانتصارات الّتي حقّقها الثّوار المقاومون على أرضها في معركة “الفوّار” وفي معركة “هوشي والكساير”، وليس فقط في المعارك بل في إرساء الصّلح الأهليّ بين الطّائفتيْن: الإسلاميّة والدّرزيّة بعد مقتل الشّيخ “حسن خنيفس” وإبداء النّوايا الحسنة وإرساء قيم السّلام والوئام بين أهل البلد الواحد، يفاخر الكاتب بِ “شفاعمرو” موحّدة شامخة، وكأنّي به يقول باعتزاز: “أنا ابن هذه المدينة” وهو يجعل من “شفاعمرو” الصّغيرة صورة وطن كبير.
يتناول الكاتب في كتابه “صفحات من تاريخ شفاعمرو” أحداثًا هامّة تعتبر علامات فارقة ومفاصل عظيمة في مسار تاريخ المدينة، ومن أبرزها معركة “الفوّار” بين القوّات الصّهيونيّة وقوّات جيش “الإنقاذ” سنة (1948) والّتي حقّق فيها المقاومون العرب وغير العرب نصرًا كبيرًا، ولعلّ ذكر المتطوّعيْن المقاتليْن اليوغسلافيّيْن إلى جانب القوّات العربيّة السّاعية لإنقاذ فلسطين من الصّهاينة وبلائهما في القتال وبشجاعة ما يدحض كلّ الآراء السّلبيّة على أنّ جيش “الإنقاذ” كان جماعة من قطّاع الطّرق، كما يؤكّد الكاتب ذلك عن إخلاص القادة والمجاهدين وسقوطهم شهداء في معركة “هوشة والكساير” وهي الأخرى صورة مشرّفة لمدينة “شفاعمرو” في أكثر من موقع في الكتاب، ولكنّه يعود ويتألّم عندما يكتب عن سقوط “هوشة والكساير” بيد الاحتلال والعصابات الصّهيونيّة بعد جلاء القوّات العربيّة عنهما ويكون ذلك السّقوط مقدّمة لاحتلال “شفاعمرو” وسقوطها بيد الاحتلال الصّهيونيّ في 14 تمّوز سنة (1948).
أمّا الموقف الثّالث فيتمثّل بالصّلح بين الطّائفتيْن: الإسلاميّة والدّرزيّة والتّعالي عن الجراح بعد مقتل الشّيخ “حسن خنيفس” وقدوم الوفود من سوريا ولبنان وفلسطين من كبار الشّخصيّات سنة (1940) ومن أبرزهم مطران العرب “غريغوريوس حجّار” من فلسطين وَ “عبد الغفّار الأطرش” من “جبل العرب” في سوريا، والشّيخ “أسعد أبو صالح من “الجولان” السّوريّ المحتلّ ومن فلسطين جاء الشيخ “أسعد قدّورة” وشخصيّات أخرى من وجهاء المناطق الفلسطينيّة كلّها. وقد أقام الوفد في “شفاعمرو” مدّة طويلة لم يتركها إلّا بعد إرساء قواعد الصّلح المتينة وعودة المدينة إلى طبيعتها الهادئة والمسالمة. لقد تحوّلت “شفاعمرو” رغم قلّة الموارد وسوء الظّروف المعيشيّة إلى مأوى ومقيل ومضافة لهؤلاء الضّيوف الكرام، وكان رئيس البلديّة “جبّور جبّور” أحد أبرز مضيفيهم، وهكذا كانت المدينة عندما دخلتها القوّات العربيّة سنة (1948) كان الكاتب آنذاك أي زمن النّكبة ابن 13 عامًا، وشهد ورصد تلك الأحداث كطفل كبير بأمّ عينيْه رغم أنّه لم يمتلك آنئذٍ الوعي الكافي لفهم ملابساتها إلّا من خلال اطّلاعه على علاقات أبيه مع الشّخصيّات والمجاهدين والسّياسيّين والأحداث الكبيرة والّتي تنذر بشرّ مستطير، ومن خلال مواقف أبيه من كلّ ذلك، ولا شكّ في أنّ الكاتب تعلّم الكثير من تلك التّجارب الكفاحيّة والمواقف الشّجاعة والعظيمة بعنادها أمام المحتلّ الظّالم الّتي كان يتحلّى بها الأب الموقّر. لقد استعرض الكاتب أحداث “شفاعمرو” التّاريخيّة بكثير من الوصف والسّرد، ولعلّ أبرز ما يميّز أسلوبه دقّة التّفاصيل الّتي تعتمد على الذّاكرة وعلى بعض المصادر التّاريخيّة العربيّة والصّهيونيّة. وهو يبغي من ذلك وعي هذه الفترة المظلمة ودراستها ليس من تاريخ “شفاعمرو” مع أنّه يعدّ نموذجًا، بل من تاريخ الشّعب الفلسطينيّ والأمّة العربيّة. أمّا الهدف فيعلن عنه الكاتب بوضوح وجلاء وصراحة ونظرة آملة: “فكلّي أمل أن يتقدّم الباحثون والمؤرّخون العرب لبحث ودراسة هذه الفترة المظلمة من تاريخنا واستنتاج النّتائج واستخلاص العبر … فترة ضاع فيها وطن وضاعت بلاد بأسرها وتشتّت شعب بريء لا ذنب له سوى أنّ الأقدار حكمت عليه أن يولد ويعيش فيها وليس في مكان سواها هذا إن أردنا أن لا تزول كلّ فلسطين من الوجود إن بقينا نسير على هذا المنوال”. (كتاب صفحات من تاريخ شفاعمرو، ص 47) وبقينا نسير على منوال أخطر وأسوأ وأشدّ ظلامًا وتفسّخًا وتخلّفًا وتشرذمًا وظلاميّة وهزائم وخيانة وتطبيعًا وانقسامًا على المستوى الفلسطينيّ وإقليميّة وتشتّتا واقتتالًا وعدوانيّة على الأشقّاء وتدميرًا للأوطان وخدمة للمشاريع الأميركيّة على المستوى العربيّ يا أستاذنا الجليل “إلياس جبّور”!
التّوثيق غير المحايد:
حتّى في كتابته التّوثيقيّة يكتب الكاتب بنزاهة وموضوعيّة في كثير من الجوانب والمعالم والأحداث التّاريخيّة والمناطق الجغرافيّة، لكنّه لا يكون محايدًا، سواء أعلن عدم حياده أو لم يعلنه، لأنّه منحاز إلى الوطن، إلى “شفاعمرو” وإلى مجتمعه العربيّ الفلسطينيّ. ففي كتابه “شفاعمرو الماضي في سطور” يوثّق الجغرافية والتّاريخ والشّخصيّات البارزة كمادّة نتعلّم منها لذلك يجب صيانتها، ويوثّق بقائمة طويلة المعالم الأثريّة كالقلعة الشّهيرة (السّرايا) والعادات والتّقاليد والخلافات والصّلحات والنّسيج الاجتماعيّ المتين والأماكن المقدّسة لدى جميع الطّوائف والمقامات والمزارات والمُغُر والأضرحة والخِرَب وأسماء الأراضي والبيادر والمدارس والأعياد والأعراس والأغاني والسّوق القديم والحسبة (سوق الخضار والفواكه) والحارات، ويتحدّث عن الحالة الاقتصاديّة وأحوال الزراعة والإنتاج والمؤسّسات والمرافق الحيويّة كماتور الماء وبابور الطّحين ومعاصر الزّيت، والأهمّ من كلّ ذلك عن الطّائفة الواحدة والعائلة الواحدة “شفاعمرو” ومجالسها ودواوينها وأعلامها البارزين والألفة والمحبّة الّتي تربط بين الجميع بلا استثناء وعلى حدّ سواء.
ما عرفته عن المرحوم الكاتب “إلياس جبّور” أنّه كان مدرّسًا للغة الإنجليزيّة الّتي أتقنها إتقانًا فريدًا، وقد ألّف كتابًا باللّغة الإنجليزيّة عن الصّلحة العربيّة، كما ذكر في توطئة كتابه باللّغة العربيّة بعنوان “الصّلحة العربيّة بين النّظريّة والتّطبيق”، وهو ليس ترجمة للكتاب الّذي يتناول الموضوع نفسه باللّغة الإنجليزيّة، لأنّ الكاتب العربيّ الأصيل يريد أن يكون وفيًّا لموضوعه فيكتب عنه بلغتها ولغته العربيّة الأصيلة، كما ذكر في (ص 3) وفي هذا الكتاب يقدّم كلّ المعلومات والمصطلحات والمفاهيم والمدلولات والخطوات المتّبعة والشّخصيّات من أهل الصّلح “الجاهة” لإتمام الصّلح بين الأطراف المتنازعة. لماذا يجد الكاتب أن هذا مهمّ وضروريّ؟ فقد يقول قائل: “ولماذا كلّ ذلك! فليأخذ القانون الرّسميّ مجراه وليجرّم المعتدي بعقاب يناسب جريمته، ولا يجب أن نأخذ أفرادًا من عائلته أو طائفته بجريرته! وبذلك لا حاجة للجاهة ولا للصّلحة العربيّة “وكفى الله المؤمنين القتال”، وفي هذا منطق ما لو أنّنا نعيش في مجتمع ليس كمجتمعنا العربيّ الّذي ما زالت تتحكّم في علاقاته العلاقات العائليّة والطّائفيّة، بالرّغم من تحوّلنا إلى مجتمع استهلاكيّ طغت فيه العلاقات المادّيّة وكثرت المشاكل والعنف الدّامي المستشري والسّلاح المنتشر وظواهر الاعتداءات المتكرّرة والقتل اليوميّ وغير ذلك من مظاهر المجتمع المادّيّ الاستهلاكيّ ومفاهيمه السّلبيّة الّتي أهلكت كلّ قيمنا ومُثلنا وعلاقاتنا القرويّة وانتهكت حرماتنا وطيبتنا وتساوقت مع المخطّط السّلطويّ الرّسميّ الهادف لتفتيتنا وشرذمتنا بالعنف بعد أن فشل بالعدميّة والعائليّة والطّائفيّة. لذلك تبقى هناك أهميّة وضرورة للصّلحة ودور “الجاهة” لأنّها “تعمل على امتصاص غضب ونقمة المعتدى عليهم والتّنفيس عن كربهم وضائقتهم”، (ص 45) وهذا الامتصاص والتّهدئة النّفسيّة ما لا يستطيع تحقيقه القانون الرّسميّ الجافّ.
كم من المصطلحات علّمنا إيّاها الكاتب العارف وهو الّذي شارك كثيرًا في الصّلحات العربيّة على مدى المجتمع العربيّ في بلادنا، فمن منّا على سبيل المثال يعرف الفرق بين “كفيل الوفا وكفيل الدّفا” أو مصطلح “البشعة” أو “عقد الرّاية” أو “الغرّة” أو المرأة “الصّايحة” والمرأة “البايحة” وغير ذلك من مراسيم الصّلحة وأنواع الدّيّة والخطوات المتّبعة يوم الصّلحة وعقد الرّاية. كم تضيع عناصر من تراثنا العربيّ الفلسطينيّ ومن ثمّ شخصيّتنا الوطنيّة وهويّتنا العربيّة وانتمائنا العميق. ولعلّ الأمر يذكّرني بالعرس العربيّ فكم من المصطلحات زال ونسي بغياب “صفّ السّحجة” والدّبكات الفلسطينيّة: شماليّة وشعراويّة وبدّاوية، وكم من الأغاني والأناشيد وأنواع الحداء الفلسطينيّ فقدنا!
وأخيرًا:
حينما بدأت أكتب هذه القراءة الاستعراضيّة والنّقديّة عن “إلياس جبّور” إنسانًا وكاتبًا وعن مؤلّفاته وبعض من سيرته ومسيرته كان الرّجل لا يزال على قيد الحياة، وقد كان ذلك بعد زيارتي له في بيته يوم الثّلاثاء 8/12/2020 بيوميْن اثنيْن، وحينما انتهيت من كتابتها يوم 31 كانون الأوّل هذا العام القاسي (2020) “لا أعاده الله ولا ردّه” ليلة رأس السّنة الجديدة (2021) كان الرّجل قد انتقل إلى رحمته تعالى ومضى على موته أسبوع كامل. كم كنت أودّ أن يمسك بأمّ يديه جريدة “الاتّحاد” ويقرأ بأمّ عينيه مقالتي أو قراءتي هذه. ولكنّ عين القدر كانت تنظر إليه كما يبدو وجاءت يد القدر الّتي لا تهمل لتنفّذ، وترجّل الفارس عن صهوة أيّامه، وها هو من تراب الوطن الّذي أحبّ إلى تراب الوطن يعود، بعد سيرة حميدة ومسيرة طويلة وتجربة غنيّة وفاضلة في مجال التّربية والتّعليم وفي المجال الوطنيّ وفي المجال الاجتماعيّ الرّحيب من إصلاح ذات البين وفي مجال الآثار المكتوبة الّتي استمدّها من الذّاكرة العميقة المحفورة في صميم الفكر والوجدان. إنّ مجال المشروع الكتابيّ لمّا يكتمل، لأنّ الرّجل قام بواجبه نحونا ونحو الأجيال القادمة، ومن حقّه علينا ومن واجبنا نحوه أن نكتب عنه وعن مشروعه، فمعظم ما كتبه من موضوعات في الحقيقة لم يتطرّق إليها أحد، سأهدي كتابتي هذه إلى روحه الطّاهرة وأنا بذلك لا أقدّم شيئًا أشكر عليه، لقد أدّيت واجبي نحو من سلف من أخيارنا ونحو من سيخلف على آثارنا. ومع ذلك أنا لا أستطيع أن أذكر في قراءتي هذه كلّ التّفاصيل الّتي كتبها الكاتب المرحوم وطيّب الذّكر، ولذلك أدعوكم أيّها القرّاء إلى العودة إلى كتب الأستاذ “إلياس جبّور” وقراءتها بإقبال وتمعّن وحبّ وشعور وطنيّ فهي تستحقّ القراءة وتستحقّ تناولها بالكتابة عنها يا نقّادنا الأعزّاء! وما كتابتي هذه إلّا قطرة ماء وحبّة مسكّن ومجرّد أسئلة حائرة، وأمّا في كتب الكاتب فستجدون النّبع الصّافي والدّواء الشّافي والجواب الكافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة