وميض من عتمات الرحيل .!

تاريخ النشر: 15/08/20 | 19:06

يوسف جمّال – عرعرة
قصة إنقاذ عدة عائلات من الرحيل وبقائهم في بلدنا, وعدم تحوُّلهم الى لاجئين , تكاد تختفي من ذاكره أبناء بلدنا .
حتى أبنائهم , يكادون لا يعرفون عنها شيئاّ .
ولكن كبار السِّن, ما زالوا يذكرونها .
بطلاها محمود الحسن وزوجته فريزه .
ومحمود الحسن اشتهر بقوته الجسمانية ,ويحكي عنه الذين ما زالوا على قيّد الحياة من أهل البلد , وعاصروا الحادثة , أنه أدار حجر الطاحونة بيديه , عندما نفق الحصان الذي كان يديره , ظلَّ يشغِّله حتى وجدوا حصاناً قوياً يحلُّ محلَّه ..
وهو الوحيد الذي كان يقدر , على رفع حجر بئر البلد الثقيل !
أحرن مرة حماره , فاشتعل الغضب في قلبه , فرفع الحمار بيديه ورماه في صبره البلد !
وكان يثور بسرعة , فيغضب من حوله , ولكنه سرعان ما يعود الى هدوئه وطيبته, ويعتذر للذين أغضبهم , ويرجوهم أن يغفروا له ..
وعلى رأس الذين كانوا يعانون من “شرِّه ” – زوجته أم أحمد .!
فكان يعنِّفها في كلِّ يوم , و ” يمطرها ” بوابل من السّباب والضرب أحياناً , ولكنه عندما ” تذهب السكرة وتعود الفكرة ” , يعود الى مراضاتها , وتشُّفعها من أجل أن تغفر له وتسامحه , مستعملاً
كلَّ الطرق حتى البكاء . و ” تبويس رجليها ” , ولا يتوقف عن ذلك حتى ترضى عنه وتغفر له .!
ولكن أحياناً كانت تشعر أن السَّيل قد بلغ الزُّبى , وبالغ وتمادى في الشجار معها , فتغتنم فرصة خروجه الى عمله , فتترك البيت و “تحرد ” عند أهلها .
وعندما يرجع من العمل مساء , و لا يجدها في البيت , ويعرف من أبنائه أنها ” حردت ” عند أهلها , كان يتجه الى بيت أبيها , وعند وصوله , كان يبدأ بذرع الزقاق , المحاذي لبيتهم , ذهاباً وإياباً , حتى يراها خارجة من باب سور الدار , فيهجم عليها ويرفعها بيديه القويتين عن الأرض , ويضعها على ظهره , ويتوجه بها نحو بيتهما , غير آبه بما تطلق من صرخات واستغاثات , وما تكيل له بكفيها وأظافرها , من لطمات وجروح , ولا ينزلها حتى تعِده أنها ستعود معه الى البيت .
وكان لا يكترث بما يقوله الناس ,الذين يمر بهم في طريقه , وهو يحملها على ظهره . ولا ردِّ فعل أهلها ,عندما تصلهم أنباء فعلته .
كانت بداية وقوع البلد , تحت سيطرة جيش اليهود ..وبداية الحكم العسكري البغيض ..
اشتدت قبضة حرس الحدود على البلد , وزادت ساعات منع التجوّل , فقد امتدَّت طوال ساعات الليل , منع فيها أهل البلد من الخروج من بيوتهم , وكان كلّ من يقبض عليه متلسباً ” بجريمة ”
الخروج من بيته , كان يتعًّرض للضرب والسجن ودفع غرامة باهظة ..
رجع محمود من الحراثة , فلم يجد زوجته في البيت .. إنه يعرف سبب حردتها .. فقد كان قد تشاجر معها , حول عدد المدعوين , الى حفلة طهور ابنهم.!
” ولّ يا فريزة يا بنت الناس ما حردتيش إلاّ اليوم!؟ , اليوم إلي بدّنا ” نطهِّر” الولد فيه !؟” قال في نفسه والحسرة تقطِّع قلبه .
” والله يا محمود , هذا لسانك دايماً معثرك !” أكمل وهو يستعيد ما فعل بزوجته ليلة أمس .
” باطل أنا أبوك يا أحمد .!” قال وهو ينظر في وجه ابنه , الذي كان مستسلماً لسلطان النوم .
” والله ما بتنام الليله إلا في حضن أمك !”.
كانت معظم بيوت القرية متلاصقة ” الحيط على الحيط ” .
خرج الى فناء بيته , وصعد درجات السلم الى سطحه , ومشى يتنقَّل من بيت الى بيت , حتى وصل بيت أهل فوزية . فعل ذلك لكي يتجنَّب حرس الحدود ,الذين يجوبون أزقَّة البلد بحثاً عن ” صيدة “, يضعون سمومهم فيها .
تأكد من وجود السّلم ,الذي يوصل بين فناء البيت وسطحه .
انبطح على بطنه على سطح بيتها , بحيث يستطيع أن ير ما يخرج أو يدخل من والى الفناء ,عاقداَ العزم أن ينزل من الٍسطح إذا ما خرجت فريزه إليها , ويحملها على كتفه , ويصعد بها الى السطح , ويعود بها طريق السطوح الى بيتهما .
بقي منبطحاً على السطح , يراقب ما يجري . وإذا به يسمع طرقاً خفيفاً على بوابة البيت , سبح الى جهة الزقاق , بحيث يستطيع رؤية من يقف بجانب البوابة .
كانوا أربعة جنود من حرس الحدود !
تسارعت دقات قلبه .. ترى ماذا يريدون في هذه الساعات من الليل.!؟ .
بقي متجمِّداً في مكانه . وعيناه منصبتان الى أسف نحو الفناء وبوّابته , يراقب ما يجري .
رأى شبحاً يخرج من باب الغرفه , ويتَّجه الى البوابة ويفتحها , يبادلهم بعض الكلمات الهامسة , فيعود الى باب البيت , ويدخل الجنود وراءه , ويقفون في الفناء .. مرّت عليه لحظات خالها الدهر .
وإذا بجميع أفراد عائلته , يخرجون تباعاَ ويتجِّهون نحو البوابة . وكنت زوجته فريزة معهم .
كانوا يحملون في أيديهم وعلى ظهورهم , محتويات البيت : فراش , أدوات منزلية ..
خرجوا من البيت , فتبعهم . كان يحبو على ظهر السطوح المحاذية للزقاق , الذين يمشون فيه , إلى أن وصلوا سيارة شحن, كانت تقف في ساحة المسجد , وبدأوا يحمِّلون أغراضهم فيها .
فأصيب بصدمة شديدة ,غامت الدنيا في وجهه .
عرف أن حرس الحدود , يريدون ترحيلهم الى بلاد الشتات , مثلما فعلوا مع الكثيرين , من أبناء بلده وسكان القرى المجاورة , أقنعوهم بالترهيب والترغيب , على الرحيل من بيوتهم وبلادهم .
وفريزة , إن لم يفعل شيئاً , سترحل مع أهلها , ولن يراها ثانية!
لا بدَّ من إنقاذها من الرحيل , إن أولادها ينتظرونهم في البيت .
نزل بخفة عن السطح مستغلَّاً انشغالهم بالتحميل , وغطاءات الظلام التي تلفِّع المكان , اقترب من زوجته التي كانت تقف خلف السيارة , رفعها على ظهره , أرادت أن تصرخ فوضع يده على فمها , وأسرع الى أقرب “خشَّة ” واطئة , ورماها بكلِّ قوَّته على سطحها.
ووضع يديه على حافة السطح , ورمى بنفسه عليه .
تناول فريزة , ووضعها على ظهره , ومشى على السطوح باتجاه بيته .
“وين بقيته رايحه يا فريزة !؟” سألها لائماً .
” قالوا لنا – بنا نغيب اسبوعين ونرجع !”
“هيك قالوا لكم !؟.. اليهود بدهم يرموكم , مثل ما رموا غيركم ورا الحدود .! بدهم يفرغوا لبلاد من أهلها العرب !” ردَّ عليها مقاطعاً واالغضب يكاد يفجِّر قلبه . .
وعندما وصلوا بيتهم صاح بها من أعماق قلبه :
“اليوم يومك يا فريزه ! .
هات ِ الموس والحقيني ! ” .
خرجت من جوفه كلمات , كان يقولها لزوجته عندما يواجهون صعاب , تحتاج الى جهود مضاعفة للتغلِّب عليها , أو عمل يحتاج الى صبر وجهد كبير لإنجازه .
كانت تفهم سريعاً ما يطلب منها , فتلتحم معه وتشمِّر عن ساعديها وتبدأ بالعمل . في هذه الأوقات كان الحب يشتعل بينهما ويصبح في أعلى درجات تألقه.

وتناول منها الموس ووضعه في جيبه , وتسلٌّق حائط بيته ,وتسلَّقت ,صاروا يتنقلان من سطح الى آخر , حتى وصلا الى سطح البيت الذي يطلّ على ساحة الجامع .
انبطحا على سطح البيت , وتركا لعيونهم رؤية ومراقبة ما يحدث في الساحة ..
كانت هناك شاحنة كبيرة يحيط بها أفراد عائل فوزية , وعائلات أخرى من البلد , ” يرمون ” بها أغراض بيوتهم – فراش أدوات منزلية . جرار زيت. أكياس من الحبوب .
كان صوت حنيفة الذياب يقطّع بقايا فتات عتمات الليل .. ويقطِّع القلوب التي كانت تنزف حسرة و دماً :
” واحنا نوينا على السفر وبخاطرك يا بلادنا ! ” .
كان زعيق النساء والأطفال يرافقها لحناً لنشيدها الدامي ..
“خذي الموس وانزلي !”
همس في أذنها بصوت تعمَّد أن يخنقه .
كانت في هذه الحالات تفهم مقاصده “بالإشارة ” كما كان يقول..
تناولت الموس من يده , وبدأت تلملم نفسها للنزول عن السطح والتوجه نحو الشاحنة .
كانت تعرف أنه لن يثير قدومها أحد , بما فيهم رجال حرس الحدود . فهي ابنة محمود ولم يشعر بها أحد منهم , عند “اختطفها” من قبل زوجها .
“تسحسَّلت ” بخفة عن السطح وتوجهت الى السيارة .
كانت ستر الليل المتبقية, تساعدها على الاختفاء ,عن أعين المتواجدين حول السيارة ..
وعندما اقتربت من أول عجل , سحبت الموس من جيبها .. وغرزته فيه بكلِّ قوتها .
ثم لفَّت حول الشاحنة , تتنقَّل من عجل الى عجل , حتى أتلفتها جميعاً .
رجعت بخفَّة الى الحائط , وتعلَّقت بيد زوجها التي كانت تمتد من أعلى , فسحبها الى فوق السطح , ورجعا مسرعين الى بيتهم .
وعندما ظهر الصباح ” وغزا ” بكشّافاته ” المكان .. ” فضح ” ما حدث لسيارة العسكر .
وقف العسكر مشدوهين مصروعين .. متجمدّين في أماكنهم , عاجزين عن عمل أيِّ شيئٍ , ينقذ الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه.
عرفوا أنهم لا يملكون عدة عجلات , من أجل أن يتمكنوا من جعل السيارة تتحرَّك من مكانها .
كانت دولتهم في بداية تكوِّنها وإمكانياتها ضعيفة .. والفوضى تعمُّ في كلِّ تحركاتها ..
فترك العسكر السيارة وغادروا البلد , ولم يرجعوا .
وبقيت الشاحنة في مكانها في ساحة الجامع .تحكي قصة إنقاذ محمد وزوجته فريزة ,لأربع عائلات من البلد من غول الغربة والشتات . ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة