قصة قصيرة “خال وحال!” بقلم: ميسون أسدي
تاريخ النشر: 23/05/19 | 3:07“يا خال العروس بلادك ما عرفناها
يا خلعتك من جبل عمٌانِ قطعناها”
لم أفهم مدى الحب التي تكنّه جارتي لخالها، فأنا أعرف هذا الخال منذ سنوات ولم أجد فيه ما يوجب كل هذا الحب الكبير، لكنني احترمت شعور جارتي ولم أناقشها في ذلك، وكنت مضطرة لمشاركتها العزاء عند وفاته والجلوس في ركن النساء المرغمات على إطفاء هواتفهن المحمولة في مثل تلك الظروف، ممّا أعاد لهن غريزة الثرثرة النسائية التي كادت أن تندثر.
بصراحة، تحول العزاء بالنسبة لي إلى متعة كبيرة، إحساسًا يرفع منزلة الذات ويسمو بالروح، وتمنيت أن يكون لوالدتي شقيق أناديه “خالي”، بعد أن اقتنصت ثلاثة قصص عن الخال تنكأ الجرح، وتفقأ حصرما في أعين الحاسدين، وقد استمعت صديقتي لنفس القصص وهي مترنّحة بين الحزن والرضى الروحي.
الجليل/ فلسطين
حليمة شابّة عربيّة مسيحية من إحدى قرى الشمال الفلسطيني، تزوّجت من شاب عربي مسلم من مدينة حيفا. ولحليمة خال فلاح أبًّا عن جد، وهو وحيد بين أربع خالات. أحبت زيارته كثيرًا في طفولتها، فهو الوحيد الذي لم يسرع لطردها من بيته كما اعتاد الكبار. كانت تُطرد من كل البيوت قبل أن تصل إلى الباب لتطرقه، ولم تعهد بأي احترام لصغر سنها وبراءة طفولتها. تذهب إلى بيت خالها لمشاهدة التلفاز وبعد أن ينتهي برنامج الأطفال الذي تشاهده، يطلب منها خالها المغادرة بأدب لم تألفه من الآخرين في حينه.
عندما وعت حليمة وتفتح تفكيرها، علمت بأنّ الخال استحوذ على جميع الأملاك الموروثة من والده، من أراضي شاسعة وأموال، ولم تحصل شقيقاته الاربعة على مليمتر واحد. وقد رأت حليمة الفقر التي تعيش فيه هي وأشقائها العشرة ووالديها، فأخذت تتساءل: لماذا ينعم خالي بكلّ هذه الأموال وأمها التي هي شقيقته لم تنل ولو قسطًا يسيرًا من هذا العزّ.
بدأت الأفكار تتبدل نحو خالها، وتحول الإعجاب إلى نفور، رغم الركن الدافئ الذي تركه الخال في روح حليمة، وقد عرف الخال بموقفها نحوه، لكنّه لزم الصمت وكان معجبًا بها لأنّها تحترمه على مواقفه المبدئية في أمور عدّة، ولم تستعطفه أو تحاول استمالته لتستدر الشفقة ويعطيها شيء ما، لكبريائها.
لخالها بنت وولدان، وقد تزوّجت البنت وهاجرت إلى خارج البلاد مع زوجها، أما الولدان، فقد أخذا بالاستيلاء على ميراث والدهم وهو حي، وباعا قسمًا كبيرًا من الأراضي وصرفا الأموال يمينا وشمالا.
في أحد الأيام، استدعى الخال ابنة شقيقته من حيفا وأعطاها مظروفًا مغلقًا بالصمغ، وقال لها: احتفظي بهذا المظروف، ولا تفتحيه إلا بعد وفاتي…
قرأ الخال علامات التعجّب على وجه ابنة شقيقته وقال لها ممتعضا: لن تنتظري كثيرًا، فأنا أشعر بأنّ أجلي قد حان وأريدك أن تترحّمي عليّ بعد وفاتي.
كانت حليمة متأكّدة بأنّ الخال يريد أن يعتذر لها ولكنّ كبرياءه لا يطاوعه، وقد فضّل أن يقدّم ذلك برسالة مكتوبة بدل المواجهة. فقامت بإخفاء المظروف في خزانة ملابسها، ومع الأيام نسيت أمره.
في صباح شتائي قارس، كانت الريح تتسرب من الشقوق، جاءها خبر وفاة الخال فذهبت إلى القرية لتقوم بواجبات العزاء كما اعتادت أن تفعل مع باقي أقربائها. عند دخولها بيت العزاء، لم يستقبلها أولاد خالها بحرارتهم المعهودة، كأنّهم ابتلعوا حشرجة في الحلقوم، فعزت ذلك لمصابهم الأليم… وفي المساء توجّه إليها محام شاب من قريتهم وسألها:
– هل فتحت المظروف الذي أعطاك إيّاه خالك؟
– أيّ مظروف؟- أجابت حليمة باستغراب.
– ألم يعطك الخال قبل عدّة شهور مظروفًا مغلقًا طالبًا منك أن لا تفتحيه إلا بعد مماته؟ لقد أبلغني بأنّه أعطاك إيّاه في نفس اليوم الذي قمنا بكتابته في مكتبي.
تذكّرت حليمة المظروف وقالت:
– لم أفتحه بعد، لقد نسيته.
– أرجو أن تفعلي ذلك بأسرع وقت.
سيطر الفضول على حليمة وهي تسمع كلام المحامي، فانسلّت من بيت العزاء وعلى الفور اتصلت بزوجها:
– ألو، أين أنت؟
– أنا في البيت، وصلت الآن، سأبدّل ملابسي وأحضر فورًا للعزاء.
– اسمعني جيّدا. هناك مظروف بخزانتي بين ملابسي، أحضره وافتحه وأقرأ ما بداخله.
غاب الزوج بضعة دقائق ثم عاد وقال مختنق بعبراته:
– يجب أن تقرئي ما بداخله بنفسك.
– ماذا هناك؟؟!!
– هل أنت لوحدك؟ هل يوجد أحد يسمعك؟
أخذت تجوب الغرفة جيئة وذهابا وصاحت:
– تكلم، أنا وحدي بعيدة عن الجميع.
– لقد أصبحت تملكين دونمي أرض صالحة للعمار في أجمل منطقة في قريتكم، وتساوي ما قيمته 300 ألف دولار.
– ماذا؟!
– هذه ورقة كتبها خالك وموقعة لدى محامي يدعى صالح سعد.
خيم سكون لا يعكره الا حفيف خافت لريح الشتاء
نيوجرسي/ امريكا
بلانكا شابة أمريكية تزوجت من شاب عربي من مدينة حيفا وخالها شخصيّة مرموقة جدًّا، بروفسور مختص في موضوع الفيزياء. يقضي وقته في السفر بين دول العالم ليلقي بمحاضراته القيّمة أمام زمرة من العلماء. ولد في بيت ثري ومع الوقت ازداد ثراء بسبب علمه ليصبح من الأثرياء الكبار.
عُرف عنه بأنّه انسان بخيل جدًّا. سكن في بيت متنقل تجرّه سيارة يتنقل به من مكان إلى آخر حسب البلد الموجود بها. لم يجد على نفسه ولم يبذّر قرشًا واحدًا عبثًا، يناقش ويجادل الخضرجي ساعة من الزمن ليشتري حبة بندورة واحدة لا غير أو ما يحتاجه من الخضرة بسعر أرخص.
انتبه من حوله لبخله الشديد، خاصة وأنّه ثري جدًّا وليس بحاجة إلى كل هذا التقطير.
لم يتزوّج هذا الخال الثري البخيل ولم يلد له أي ولد يملك اسمه أو إرثه من بعده.
مدّ العمر بالخال وتعدى سن التسعين ونقل إلى بيت للعجزة في ولاية نيوجرسي في أمريكا.
تسأل بلانكا عن خالها وصحّته في فترات بعيدة جدّا، ولكن بعد أن أيقنت بلانكا بأن اللحد فتح فاهه لخالها وهي الوريثة الوحيدة في العائلة، قرّرت وزوجها زيارته في بيت المسن، حيث يقيم، فوجدته في حالة يرثى لها. تحول لونه القرمزي الى اصفر كالموت. مهمل الشكل كعادته، ما زال يربط سلكًا حديديًّا بدل الحزام، يتقمّط به حول بنطاله حتى لا يسقط عنه.
طبطبت بلانكا بود على كتف خالها وقدمت له الأكل وحلقت له ذقنه والبسته بذلة اشترتها خصّيصًا له واصطحبته إلى البنك، حيث تتكدس أمواله حتّى يقوم بدوره بتمرير المال لها
عندما شاهد عمال البنك حاله، وطفق يهذر بسخافات ما انزل الله بها من سلطان قالوا بوضوح بانه غير كفؤ ليقوم بهذه الخطوة والإعلان عن وريث له، فهو في وضع صحي مزر.
آنذاك، اضطرت بلانكا وزوجها لاستئجار بيت في نيوجرسي وإخراج خالها من المصحة وفرشوا له عشًّا من القطن وكأنه فرخ دجاج واهتموا به يوميًّا وعلى مدار ثلاثة أشهر حتّى استعاد صحته وهيبته. فاصطحبوه من جديد إلى البنك.
هذه المرة، بدا على المسن الهيبة والوقار فقد زاد سمنة وتكلم بوضوح وكان صافي الذهن، استقبله الموظفون بكلّ مودّة واحترام، وقام بنقل كل أمواله من البنك على اسم ابنة اخته.
عاد المسن إلى المصحة وعادت بلانكا مع زوجها إلى حيفا ومعهما مبلغ من المال لم يحلما بالحصول عليه.
سرعان ما انخرطوا في الضحك وأجهشوا في البكاء.
كيشينف/ مولدافيا
اناليس شابة مولدوفية، تزوّجت من شاب عربي واقامت معه في مدينة حيفا. خالها بطل رياضي شارك في بطولة الأولمبياد. ثري جدًّا يعيش في استراليا. كان رأسًا كبيرًا في كلّ شيء، والله أعلم ما كان يحمل ذلك الرأس من علوم الدنيا ومعارفها. اعتاد خالها أن يبعث بصور عزبته وخيوله إلى اخته أم اناليس التي تقيم في كيشينيف عاصمة مولدوفا. عانت اناليس وزوجها وابناءها من الفقر المدقع في مدينة حيفا وشاءت الصدف عدّة مرّات ان تلتقي اناليس وابناءها مع خالها في بيت والدتها في كيشينيف.
كانت اناليس امرأة بائسة في مهاوي الضياع، فقررت ان تتوجه لخالها، فطلبت منه مساعدة بقيمة 5000 دولار لتتمكن من شراء بيت لها في حيفا، وبعثت برسالة إلى خالها وجاءها الرد القاطع بأنّه يرفض طلبها. ومنذ ذلك الحين قرّرت اناليس مقاطعته، بل ورفضت الحديث اليه فيما بعد، مشمئزة من تقتير خالها الأرعن.
لأناليس اخت تعيش مع ابنتها في ضواحي كيشينيف، وعند وفاة والدة اناليس تركت وراءها وصية توصي بما تملك لحفيدتها في كيشينيف، وهكذا حرمت الأم اناليس وابناءها من الإرث، مع انّه في وجهها شيء من ملامحها، وفي جدائلها عطر من ريحها. لم تغضب اناليس من أمها فهي حرّة بتصرفها، مع أن الأم أحبّت أحفادها من حيفا. ولكن الجدة أحبّت بشكل خاص هذه الحفيدة الموالدافية.
تتأرجح بنا ارجوحة العمر التي تحمل أفراحنا واتراحنا، وآمالنا وخيباتنا، وحين خطت خطوط الشيب على الجميع. وإذ برسالة تصل إلى اناليس وزوجها في حيفا عن طريق محامي لبناني يعيش في فرنسا، واتضح لها بأن خالها وزع ما يملكه على أبناء زوجته الفرنسية وعلى بعض أقاربه ومعارفه وكانت هي واحدة من المحظيين بالإرث.
لم تنل مبلغًا ضخمًا كالذي نالته بلانكا ولكنها حصلت على مبلغ وصل إلى 500 ألف دولار، فاشترت قصر مع أرض واسعة تحيط به الحدائق الخضراء في ضواحي مدينة كيشينيف، فرمّمته واقامت السور حوله وكتبت على مدخل القصر “هنا عزبة تورغينييف” على اسم خالها.