كذبة إسمها “الوضع الراهن” في القدس

تاريخ النشر: 09/09/17 | 8:50

قد يتحول تاريخ الثلاثين من آب الماضي إلى واحد من أيام فلسطين المشهودة في العصر الحديث. وعلى الرغم من أننا سننتظر طويلًا كي نتحقق مما ستفضي إليه نتائج تحقيقات النائب العام الفلسطيني، الدكتور أحمد براك، في الشكوى التي قدمها إليه عدد من الشخصيات الوطنية المعنوية والاعتبارية المسيحية، تبقى هذه السابقة، أي اتهام قيادة الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، ممثلة برئيسها ثيوفيلوس وأعضاء مجمعه وأعوانهم ومستشاريهم، خطوةً تصويبية هامةً أسهمت ولو بقليل في أخراج قضية تسريب أوقاف هذه الكنيسة من غابات “المطر الأسود اليوناني الكنسي” وكشفها كنزيف فلسطيني موجع آن الأوان أن تواجه دماءه بمسؤولية جماعية وطنية ووحدة مسيحية جامعة، ويعاقب كل من كان مسببًا أو مستفيدًا أو شريكًا أو متعاونًا أو متواطئًا فيما أسميته “مذبحة أراضي فلسطين المسيحية” المستمرة.
من اللافت أن تقديم الشكوى وما اشتملته من وثائق ومعطيات حول عدة صفقات بيع لجهات غريبة قد استحوذ على مساحات إخبارية ملحوظة في فلسطين وخارجها، كما وأثارت تفاصيل ما نشر من معلومات حول أطراف التعاقد المستفيدة من تلك البيوعات حمية العديدين من أبناء فلسطين البررة وقسم من مؤسساتها النقابية والمدنية الهامة، وقد نعتبر بيان نقابة المحامين الفلسطينيين من أبرز وأهم تلك البيانات وذلك ليس بكونه صادرًا عن نقابة لها مكانتها ووزنها الاعتباريان وصاحبة العلاقة المهنية في موضوع الشكوى القضائية، بل إضافة على ذلك، بسبب مضمون البيان الواضح والحازم والذي لا يمكن إغفال روحه من اليوم فصاعدًا .
فموقف نقابة محامي فلسطين، بكل أطيافها، حول الوقف الأرثوذكسي في المدينة المقدسة يؤكد بأننا “أمام قضية وطنية خطيرة وهي ليست مجرد مسألة كنسية بل هي جزء من وطن” وبعد ذلك التأكيد الضروري والتشخيص الثمين تعلن النقابة “أن ما قام به البطريرك ثيوفيلوس وأعضاء المجمع خاصته يشكل مساسًا بالحقوق الموروثة والمصانة ومساسًا بالهوية الوطنية الفلسطينية، فالأوقاف المسيحية والإسلامية تشكل جزءًا مهمًا وأصيلًا من ترابنا وأرضنا وتاريخنا وهويتنا وأن التفريط بها يرقى إلى درجة الخيانة العظمى”. أوجزوا وقطعوا على كل العابثين والمتلعثمين والمهملين والمغرضين طرق النفاق والتضليل والمهانة.
على الرغم مما أحرزته هذه المسألة من استنفار لقوى جديدة وضمها إلى صفوف من يحاولون منذ سنوات طويلة كشف مخطط الإجهاز الكبير على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية في داخل إسرائيل وفي فلسطين ومحاولاتهم لاحباطه، ما زلنا نلحظ غياب الاهتمام المقنع في الأوساط الشعبية والمؤسساتية المؤثرة وبين القادة والسياسيين الملزمين بالدفاع عن المصلحة الوطنية، وذلك على الرغم من تحذيراتنا المتكررة أن الشركاء في تلك المؤامرة الكبرى يندفعون بشهوتين لا تعرفان الرحمة ولا المهادنة ولا الشبع، فبعضهم متخصص بالانقضاض على ما يعتبرونه مساحات استراتيجية تقع ضمن دوائر المصالح “الحمراء” للقيمين على تنفيذ سياسة الاستيطان الصهيوني التنيني الجشع، خاصة في حدود القدس الكبرى والمناطق ذات الخصوصية التاريخية، وآخرون يلهثون وراء شهواتهم المادية الخنازيرية، التي لا يردعها ضمير إنساني.
قد يكون الجهل الشعبي بمعطيات مسلسل التفريط في الكنيسة الأرثوذكسية أحد أسباب ضعف المؤازة المرغوبة، وقد يكون يأس “الكمشة” العربية المسيحية الصغيرة وراء عدم تحرك هذه الأقلية المأمول، مع أننا شهدنا في هذه الجولة تصاعدًا في عدد الأصوات المسيحية المعارضة والشاجبة لما يحدث وفي طليعتها ما قرأناه من بيانات أجمعت على اصدارها معظم المجالس التمثيلية الأرثوذكسية في القرى والمدن الفلسطينية وتضمنت موقفًا يطالب العموم بضرورة مقاطعة ثيوفيلوس ورجالاته وعدم استقبالهم في كنائسنا وفي مجالسنا وفي حواضرنا.
لقد شكلت هذه “النهيضة” مشهدًا نضاليًا وطنيًا ومسيحيًا مبشّرًا لا لبس فيه ولا خدوش عليه وخلقت كذلك حالةً مدنية ورعوية تفيض بمشاعر العزة والتفاؤل، مما دعانا للاستغراب من سبب إصدار “بطاركة ورؤساء الكنائس في القدس” بيانًا مشتركًا لا ينسجم مع تلك المواقف السائدة وخارجًا عن الإجماع الأرثوذكسي العربي الواسع.
مشكلتي مع البيان تبدأ بشكله وتنتهي بمضامينه الممغمغة والمهادنة، فلقد استهلوه بحكمة استلهموها من كتاب “أشعياء” إذ تعظنا ” تعلموا فعل الخير. أطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم” وقد كان أولى بهم توجيه تلك النصائح إلى زميلهم ثيوفيلوس فهو الذي نسي حكمة ” أشعياء”، وهو المتهم الأول في قضايا بيع عقارات الكنيسة الأرثوذكسية، وبدل أن يفعلوا ذلك وجدنا اسمه يتصدر قائمة الموقعين على البيان ومن وراءه اصطفت تواقيع باقي البطاركة ورؤساء الكنائس، في صورة دفعت كثيرين للتساؤل والاستهجان لا سيما من أولئك الذين لهم في تاريخ النضال الوطني أقساط، ولكنائسهم مساهمات مميزة في الذود عن التراب الفلسطيني ووقفات مشهودة ضد سياسات إسرائيل القمعية وخاصة الاستيطانية.
يبدأ النص معلنًا “نحن رؤساء الكنائس في القدس نلجأ اليوم إلى إصدار بيان عام يعبر عن قلقنا بشأن انتهاكات الوضع الراهن (الستاتيكو) الذي يحكم المواقع المقدسة ويضمن حقوق الكنائس وامتيازاتها ..” فمن هذا الكلام لا نفهم عن أي انتهاكات يتحدثون وازاء أي مواقع مقدسة يبدون قلقهم، وقد يتبادر إلى الذهن أنهم يقصدون تلك الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، فنحن لم نسمع عن إعتداءات إسرائيلية رسمية جرت بحق مواقع مقدسة كنسية مسيحية.
ثم ينتقلون بلغة ركيكة ومليئة بالتعابير والجمل التي يمكن تفسيرها على أوجه كثيرة ومتناقضة أحيانًا فيعلنون “..وفي ظل هذه الأمور فإننا نحن رؤساء الكنائس حازمون وموحدون في معارضتنا لأي عمل تقوم به أي سلطة أو جهة تسعى لتقويض القوانين والاتفاقات والأنظمة التي نظمت حياتنا على مدى قرون”. من هي تلك السلطة أو الجهة التي “يهددونها” بحزم، إن كانت إسرائيل هي المقصودة فلماذا تنكروا لإسمها ولم يشيروا إليه ولو بالترميز؟ أما اذا قصدوا غيرها، وهذا وارد وفقًا للنص، فهوياتهم كثيرة وهي تبدأ بالتصويب نحو النائب العام الفلسطيني، وتنتهي بالمجالس الرعوية والمؤسسات الوطنية والمسيحية في فلسطين وغيرها.
ويحاولون بعد ذلك التعاطي بارتباك وبطريقة غير مهنية ومحزنة مع واحدة من أخطر القضايا الوطنية المتفاعلة في فلسطين، وهي ما نسميه بمؤامرة الإجهاز على جميع ممتلكات الكنيسة وبضمنها عقارات البلدة القديمة في القدس، فيعلنون: “وبما أن هناك إجراءات أخرى تشكل خرقًا واضحًا “للوضع الراهن” فإن قرار المحكمة المركزية الإسرائيلية في قضية “باب الخليل” ضد بطركية الروم الأرثوذكس المقدسية نعتبره غير عادل .. وهذه الإجراءات هي اعتداءات على الحقوق التي ضمنها دومًا الوضع الراهن (الستاتيكو) .” من كتب لهم ذلك البيان؟ وبأي لغة أم فكروا؟ هل افترضوا حقًا بإن من سيقرأ هذه “الهراءات” سيصفق لوطنيتهم المتلعثمة وانسانيتهم العرجاء؟ وهل بالتعبير عن “قلقهم” المحلق سيرضون مسيحهم وأهل البلاد؟ وهل قرأوا تعليل القاضية لقرارها قبل أن يكتفوا بنعته “بالغير عادل” وهو قرار قضائي مفصلي وخطير “يشرعن” عملية اغتصاب بابين من أبواب القدس،؟
لو قرأوا تفاصيل الرواية، كما وردت في القرار وكما نعرفها، لما وافق بعضهم على وضع توقيعه وراء أو بمعية اسم ثيوفيلوس، وهو المسؤول الأول والأخير عن خسارة القضية وضياع تلك العقارات وغيرها .
كم كان أفضل لو لم يصدروا بيانهم وقد أنهوه بخفة غير مسؤولة بالدعوة للتضامن مع قضاياهم العادلة وضمان عدم بذل أي محاولات أخرى “من أي جهة كانت” لتغيير الوضع الراهن، فهم لا يقولون شيئًا يليق بالحدث، وكأني بهم يصرون على إفهامنا بأن “سهامهم” مصوبة نحو أكثر من جهة، فإسرائيل قد تكون عندهم واحدة منها لكنها ليست المتهمة الوحيدة بالاعتداء على المواقع الكنسية، فمن يا ترى غيرها هم المقصودون؟
أنصح المعنيين والبطاركة ورؤساء الكنائس في القدس بمراجعة مواقفهم وبيانهم لأنه برأيي، يتضمن مواقف سلبيةً ومغالِطة وسيبقى، حتى لو لم يكن ذلك مقصودًا، مجرد محاولة “لتنظيف” ثيوفيلوس ورجالاته ومعاونيه مما فعلوه ويفعلونه في حق أوقاف المسيحيين وتراب الوطن.
فمن يغيّر وضع العقارات المسيحية المقدسية التاريخي في فلسطين هم رؤساء الكنيسة اليونانيون ومعاونوهم وعلى رأسهم “زميلكم” ثيوفيلوس، ولا علاقة لتسريب هذه العقارات بما أسميتموه على وجه التعميم “وضعكم الراهن” بل هي طعنات في قلب مستقبل حلم/أمل سيبقى اسمه “فلسطين” ومعركة عل بقاء ما تبقى من وجود فلسطيني مسيحي كسيح؛ لأننا، كما أعلنت بوضوح نقابة محامي فلسطين “نحن اليوم أمام معركة وطنية بامتياز تتمثل بحماية أرض الوقف الأرثوذكسي وإننا في نقابة المحامين نقف صفًا واحدًا مع كل المدافعين عن عروبة فلسطين بأوقافها ومقدساتها وممتلكاتها في وجه المفرطين بها ..”
هذا هو صوت الحق فمع من أنتم؟
بقلم:جواد بولس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة