حارِسُ الوُرودَ
تاريخ النشر: 02/11/17 | 15:10أَطَلَّ مَوْسِمُ الإنْتِخاباتِ لِلْبَلَدِيَّةِ، بِرَأْسِهِ الكَبيرِ، عَلَى المَدينَةِ الصَّغيرَةِ الوادِعَةِ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ الشّامِخِ، فَأَمْطَرَتْنا الدُّنْيا بِالمَشاريعِ العِمْرانِيَّةِ وَالتّي باتَتْ المَدينَةِ تَزْخَرُ بها مِنْ وَرْشاتِ عَمَلٍ وَتَعْبيدٍ لِلشَّوارِعِ، وَتَغْطِيَةِ الحُفَرِ المَزْروعَةِ في كُلِّ الطُّرُقاتِ مِثْلَ الفُقَعِ، وَبِناءِ المُؤَسَّساتِ وَتَرْميمِ المُتآكِلِ مِنْها، وَقامَ عُمّالُ البَلَدِيَّةِ بِزِراعَةِ الوُرودِ في كُلِّ أَحْياءِ االمدينةِ، وَحَتّى الأَحْياءِ المَنْكوبَةِ مِثْلَ حَيِّنا “النَّبْعَةَ”.
غَمَرَتِ الفَرْحَةُ قُلوبَ السُّكّانِ الذّينَ كَثيرًا ما تَذَمَرّوا مِنْ الإِهْمالِ المُتَراكِمِ في تَقْديمِ الخَدَماتِ الضَّروريَّةِ، وَالإِعْتِداءِ عَلى البيئَةِ وَتَشْويهِ وَجَهَها السَّمِحِ، لكِنْ ما بِاليَدَّ حيلَةً، وَهذا مَوْسِمُ الوُعودَ وَالأَعْمالِ التَّجْميلِيَّةِ، يَقْلِبُ الأمورَ رَأْسًا عَلى عَقِبٍ، وَيَسْتَقْدِمُ فُصولَ السَّنَةِ في غَيْرِ ميعادِها.
مَدَّ سامِرٌ بَصَرَهُ مِنْ شُبّاكِ غُرْفَتِهِ نَحْوَ الشّارِعِ الرَّئيسِيِّ، وَكَمْ دُهِشَ عِنْدَما شاهَدَ الحَيَّ وَقَدْ اكْتَسى بِالوُرودِ المُلَوَّنَةِ الجَميلَةِ، فَقَفَزَ مِنْ فِراشِهِ مِثْلَ المَجْنونِ، لِيُخْبِرَ إِخْوَتِهِ وَوالِدَيْهِ بِالأَمْرِ، فَهَرْوَلَ الجَميعُ صَوْبَ الشُّرْفَةِ الصَّغيرَةِ، وَكَمْ انْبَهَروا بِجَمالِ الوُرودِ وَسِحْرِها الأَخّاذِ، وَلَمْ يُصَدِّقوا أَنَّ حَيَّهُم يَحْظى بِكُلِّ هذا الإِهْتِمامِ الكَبيرِ وَالمُفاجِئِ، وَتَتَغَيَّرُ مَعالِمَهُ المُتَواضِعَةُ.
وَبَعْدَ مُرورِ عِدَّةِ أَسابيعٍ حَدَّقَ سامِرٌ بِالوُرودِ، فَوَجَدَها مُطَأْطِأَةً رَأْسَها، شَعَرَ أَنَّها تَسْتَغيثُ بِهِ، أَسْرَعَ نَحْوَ الشّارِعِ وَاقْتَرَبَ مِنْها فَوَجَدَها ذابِلَةً، تَكادُ تَموتُ مِنْ شِدَّةِ الظَّمَأِ، سِمِعَها تَهْمِسُ لَهُ بِصَوْتٍ خافِتٍ: أَغِثْنا يا سامِر، الشَّمْسُ حارِقَةً وَالصَّيْفُ مُلْتَهِبٌ، وَنَكادُ نُفارِقُ الحَياةَ مِنْ شِدَّةِ العَطَشِ. عِنْدَها قالَ سامِر: الوَيْلُ لَهُمْ عُمّالُ البَلَدِيَّةِ، كَيْفَ طاوَعَهُم قَلْبُهُم عَلَى إِهْمالِ هذِهِ الزَّهْراتِ الرّائِعَةِ. وَعِنْدَما هَمَّ بِالذَّهابِ سَمِعَها تَقولُ: أَسْرِع بِالماءِ يا سامِر، وَدَمْعَةٌ حارَّةٌ فَرَّتْ مِنْ عَيْنِهِ الصَّغيرَةِ وَارْتَطَمَتْ بِزَهْرَةٍ ذابِلَةٍ تَكادُ تُلاصِقُ الأَرْضَ.
مَلَأَ سامِرٌ دَلْوَ الماءِ، لَمَحَتْهُ أُمُّهُ بِعَيْنِها الثّاقِبَةِ، اسْتَوْقَفَتْهُ قائِلَةً: أَيْنَ أَنْتَ ذاهِبٌ بِالماءِ؟
سامِرٌ: لِأَسْقي وُرودَ الحَيِّ.
الأُمُّ: لكِنْ هذِهِ وَظيفَةُ عُمّالُ البَلَدِيَّةِ.
سامِرٌ: إِنَّهُم غابوا عَنِ الحَيِّ مُنْذُ انْتِهاءِ الإِنْتِخاباتِ.
الأُمُّ: حَقًّا، لَقَدْ جَفَّتِ الوُرودَ كَما جَفَّتِ الوُعودَ الانْتِخابِيَّةِ.
سامِرٌ: اسْمَحي لِي يا أُمِّي بِالإِعْتِناءِ بِوُرودِ الحَيِّ.
الأمُّ: عَمَلٌ رائِعٌ يا سامِرُ، وَفَّقَكَ اللهُ يا بُنَيَّ وَدُمْتَ سِراجَ خَيْرٍ مُضيئٍ. دَبَّ الحَماسُ في نَفْسِ سامِرٍ، أَخَذَ يَسْقي الوُرودَ بِعَطْفٍ وَحَنانٍ، يَتَفَقَّدَها وَرْدَةً وَرْدَةً، يَتَحَسَّسُ أَوْراقَها بِأَصابِعِهِ الصَّغيرَةِ، يَخْفِقُ قَلْبَهُ كُلَّما اقْتَرَبَ مِنْ زَهْرَةٍ، وَمَعَ مُرورِ الأَيّامِ انْتَعَشَتِ الوُرودَ وَالأَزْهارِ وَعادَ إِلَيْها لَوْنُها البَهِيِّ وَثُوْبُها المُزَرْكَشِ وَعِبْقَها الفَوّاحِ وَبَريقَها المُمْتِعِ، وَلَبِسَ الحَيُّ حِلَّةً زاهِيَةً، وَرَسَمَتِ الوُرودَ لَوْحَةً إِلاهِيَّةً آيَةً في الجَمالِ وَالرَّوْعَةِ.
تُشْرِقُ الشَّمْسُ في كُلِّ صَباحٍ ، وَتَطْبَعُ عَلى خَدِّ سامِرٍ قُبْلَةً حارَّةً حُلْوَةً مَغْموسَةً بِالعَسَلِ الجَبَلِيِّ الأَصْلِيِّ، يَنْهَضُ مِنْ فِراشِهِ مُسْرِعًا، يُطِلُّ مِنْ نافِذَتِهِ عَلى الوُرودِ، يُمَشِّطُها بِعُيونِهِ العَسَلِيَّةِ، وَعِنْدَما يُشاهِدَها تُزَيِّنُ الحَيَّ، يَتَراقَصُ قَلْبَهُ فَرَحًا وَطَرَبًا، وَيَمْتَلِأُ جِسْمَهُ نَشاطًا وَحَيَوِيَّةً، كَأَنَّهُ امْتَلَكَ الدُّنْيا، وَتَرَبَّعَ عَلى عَرْشِ الزَّمانِ.
وَذاتَ صَباحٍ، بَيْنَما كانَ سامِرٌ يُهَرْوِلُ لِيَصِلَ إِلى مَدْرَسَتِهِ، قَبْلَ قَرْعِ الْجَرَسِ، لَمَحَ مِنْ بَعيدٍ أَحَدِ زُمَلائِهِ يَقْطِفُ الوُرودَ، لَمْ يَتَمالَكْ أَعْصابَهُ، أَخَذَ يَصْرُخْ بِأَعْلى صَوْتِهِ، كانَ الصَّوْتُ مُنْبَثِقًا مِنْ أَعْماقِ أًعْماقِ قَلْبِهِ، أُتْرُكْ الوُرودَ… لا تَقْطِفَها… ذُهِلَ الوَلَدُ وَأَسْقَطَ مِنْ يَدِهِ الوَرْدَةَ التّي اقْتَطَفَها.
قالَ الوَلَدُ: ماذا تُريدُ مِنِّي إِنَّها وُرودٌ عامَّةٌ لا تَعودُ مُلْكِيَّتِها لِأَحَدٍ.
قالَ سامِرٌ: بَلْ إِنَّها لَنا جَميعًا، لِأَهْلِ الحَيِّ وَأَهْلَ المَدينَةِ.
قالَ الوَلَدُ: وَما شَأْنُكَ أَنْتَ بِها؟
قالَ سامِرٌ: مُنْذُ أَنْ أَهْمَلَها عُمَّالُ البَلَدِيَّةِ أَخَذْتُ عَهْدًا عَلى نَفْسي بِالْعِنايَةِ بِها وَرِعايَتِها وَسِقايَتِها وَحِمايَتِها.
قالَ الوَلَدُ: فَقَط أَرَدْتُ أَنْ أُهْدي مُعَلِّمَتي وَرْدَةً أُعَبِّرُ بِها عَنْ شُكْري وَتَقْديري وَامْتِناني لِجُهودِها مَعي.
سامِرٌ: هُنالِكَ أَلْفُ أَلْفُ طَريقَةٍ لِتَشْكُرَها غَيْرَ الإِعْتِداءَ عَلى الوُرودِ الآمِنَةِ.
مَضى سامِرٌ وَالوَلَدُ مَعًا إِلى المَدْرَسَةِ، وَقَدْ أَيْقَنَ الوَلَدُ في قَرارِ نَفْسِهِ قُبْحَ عَمَلِهِ، وَشَعَرَ بِالنَّدَمِ الشَّديدِ، وَكَمْ حَزِنَ عَلى الوَرْدَةِ التّي فارَقَتْ روحَها الحَياةَ بَيْنَ أَصابِعِهِ، وَتَأَصَّلَ حُبُّ الطَّبيعَةِ لَدَى سامِرٌ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ رافِدٌ مِنْ رَوافِدِ الخَيْرِ التّي تَصُبُّ في بَحْرِ العَطاءِ الواسِعِ الأَرْجاءِ، وَمُنْذُ ذلِكَ الحينِ وَالوُرودَ تُزَيِّنُ حَيَّ النَّبْعَةِ، حَتّى غَدا مَزارًا لِلسُّيّاحِ وَالمُواطِنينَ ، وَسامِرٌ يَطِلُ مِنْ شُرْفَتِهِ وَالإِبْتِسامَةُ لا تُفارِقُ مُحَيّاهُ.
تأليف: سُهيل ابراهيم عيساوي