حوار مع الرّوائيّة الفلسطينيّة رجا بكريّة

تاريخ النشر: 18/07/17 | 0:08

هكذا يُقدّم الكبار:
رجاء بكرية، أديبة، قاصّة، روائية معروفة، وفنانة تشكيلية. يضاف إلى ذلك ناقدة مسرحية في المسرح الفلسطيني. من جليل البطوف، تعيش بي الجليل وحيفا.
واحدة من الرّوائيّات البارزات الحاضرات بقوّة في الرّواية الفلسطينيّة. ممّن أسّسنَ لمشروعِها إلى جانب روائيّين آخرين كمحمّد نفّاع، فاطمة ذياب، والمنبع الأوّل، إميل حبيبي ذائع الحضور في فلسطين الأم، 48.
حضورها خرج ليؤكّد سُمعَة الرّواية الفلسطينيّة عموما وفلسطين ال 48 خصوصا. هاجسها رَفْع القضيّة الفلسطينيّة من مستوياها السّياسي إلى الإبداعي عبر تفنين الحدث الرّوائي، الشّخوص، الأماكن، والتّاريخ. شغلها على مدى سنوات طويلة سؤال الهويّة حين يتزامن مع البطاقة الإسرائيليّة الزّرقاء. وفي روايتها قبل الأخيرة ((امرأة الرّسالة)) الصّادرة عن دار الأداب، بيروت07، أثارت للمرّة الأولى إشكاليّة الهويّة الفلسطينيّة لفلسطينيّي أل 48. التّعريف الّذي تتبنّاه وترفض استبداله بعرب ال 48 للحفاظ على المصداقيّة الحدثيّة لشعب ظلّ يؤكّد حياة هويّته ووجوده حين رفضه العالم العربي بأسره، وعليه شكّلت ((امرأة الرّسالة)) مفتاحا لحضورها الواسع في العالم العربي .
في روايتها الطريّة، حديثة العهد” ((عَين خَفشة)) تثير للمرّة الأولى من وجهة نظر فلسطينيّة داخليّة بحتة قضيّة النّكبة كما روتها جدّتها لأبيها، (لسان حال البطلة) وبلهجة المكان ذاته، تورد خلالها حكايا حقيقيّة تقشعرّ لها الأبدان عمّا حدث فعلا أيّام النّكبة. كيف تبعثر النّاس، أخرِجوا من بيوتهم، ودُفعوا إلى السّفن والشّاحنات غصبا.
بلغة سرديّة شاعريّة حينا، واقعيّة حينا آخر. قاسية رهيفة، عنيفة لينّة. متناقضات كثيرة تجتمع هنا لتحكي عن النّكبة بمصداقيّتها الحدَثِيّة، عبر شخوص حقيقيّة ومتخيّلة. بعيدة وقريبة، وأماكن مبتكرة قد نسمع عنها للمرّة الأولى هنا. وعبر دهشة زَخِمة بفنيّتها الآسرة للمشاعر والأنفاس. كلّ ذلك يجري في العين الّتي “خَفَشَ” في مائها الضّبع فتزحلق، وقضى عَطِشا، فنقشهُ جدّها في خاتم زوجته، جدّتها لأبيها، تيمنّا بذاكرته.
تحكي جدّتها لأبيها ما حدث بين الصّلوات الخمس، وماء الإبريق الأخضر،والبرتقالة العامرة تتحرّك الحدث بالمكان كي تضفي الكثير من الطراوة وتصخب بالجمال الغافي في تلك العَين. عبر سنوات تجاوزت الستّة عشر عاما كتبت هذه الرّواية.. هي آخر أعمالها، وتصدر عن ((دار الأهلية للنشر والتوزيع)) واّلتي يكشف حوارنا هذا الستار عن حبات مسبحتها.

الحوار

“..أمام عينيّ تلوح حلقاتُ الذّكر اتي غصت بساحات بيتنا الباطونية وتكبيراتها، جدّتي ثمّ بسملاتها وحوقلاتها على الذين ذهبوا. ” لا يا ستي لن تعيدهم الريح ” أهمس خلف حطّتها. فتستدير إليّ بعنف، ” وشو عرّفك إنتِ ” وحين يفزعني الانظار أشد طرف كُمِّها البنيّ، ” تعبت من شكل الخيل إللي حكيتيلي عنه، وتعبت من تفاح الجن إللي راح يجيبولي منه سلّة، ستي ليش تضحكي على عقلي؟”، تهز يدي، ” لا يا ستي، لا تِيْأسي، إحنا الفلسطينية مشوارنا بدو نفس طويل.”، (عَين خفشة)

1. أنت غنية عن التعريف، ولكن ما الذي يمكنك أن تخبرينا عنه حين نتحدّث عن “رجاء بكرية” ؟
امرأة تريد أن تصنع من الرّواية الفلسطينيّة حالة لمذاق لا يتكرّر. باعتقادي تحتاج الرّواية عموما للمغامرة بثوابتها لتصبح طقساً يحتفي بحضوره القارىء كل.. قارىء، فما بالك بالرّواية الفلسطينيّة الّتي لا تزال منجما خاما للتّجربة؟ أعوّل على مساحة التّخييل الّتي لديّ وقلّة المغامرة الّتي أعلنتها الرّواية للآن. أريد أن أصنع حقيقة قادرة على إدهاش قارىء يمرّ كي يتصفّح، فيعلقُ في حرارة الورق.

2. “عين خفشة” من أين استوحيتِ هذا الاسم؟
واحة مرّت في حُلُمي فأردتُ أن أجعلها نبعا يشرب منه كلّ مارق. أعتقد أنّها أغلى ما كتبت للآن من ذاكرة وتاريخ يخصّانِ المكان والشّخوص الفلسطينيّة. قبل سنوات، سبعة عشر عاما على الأقل اصطدمتُ بتقرير في جريدة الإتّحاد الحيفاويّة حول مقبرة الأرقام أثار مخيّلتي وحُبّ استطلاعي، ودفعني لعمليّة بحث وتجريب طويلين. كان ما أكتبه لا يُشبع فضولي ولا مخيّلتي. كنتُ أمحو، وأسجّل بلا تعب. أثبِتُ، وألغي، أبدّل. أقلب. أمسح وأضيف. ألغي وأبدأ. وكلّ بداية تحملُني إلى هوى جديد. رائحة الفستان الّذي لبستهُ جدّتي هفّ على السّطور، وغزا كلّ ما بدأتُ أتعلّمهُ عن الرّحيل والنّزوح حين فرشتْ صور اللّاجئين ذاكرة الأيّام الّتي كُنتُها معها. على غير انتظار داهمتني نتَف مواويلها وتنويحاتها المبكية.
أتذكّر نفسي جيّدا، طفلة تبكي كلاماً لا تفهمه، لمجرّد أنّ لحنَ الكلماتِ فَرطَ عنقودَ المسبحة الّتي تقرأ على خرزها ذكر الرّحمن. لقد جمعت جدّتي صور جدّات وعمّات بلا عدد، وسماء القرية الّتي مشيتُ أحداثها رسمت خطوات التّاريخ الّذي مرّ من هنا.

3. منذ متى بدأت تتشكل لديك فكرة “عين خفشة”؟
ربّما منذ بدأت أفهم ماذا تعني فلسطين لكلّ من عاش النّكبة من عائلتي وجيرانهم، وزوّارهم. في طفولتي عايشتُ فنون حارقة من أشكال البكاء على شيء لم أفهمه مهما بالغتُ في التصنّت خلف أبواب جدّتي وعمّتي، ومهما سألت، وعاتبت، واحتججت. وأحيانا بكيت مثل ما بكوا خوفا على الباكين من الموت وهم ينوحون بلاد لم أفهم أنّها بلادي! لقد فهمتُ البكاء سببا مباشرا للموتُ، ولذلك لم أشأ أن يأخذ إبريق جدّتي وأغانيها إلى القبر، وكنتُ كلّما نعفني صوتُها في ساحة البيت أتطيّرُ قهراً، وعلى كلّ ما لا أفهمهُ في جملة “أَجو اليهود، وأخذوا لبلاد”. ولأنّي عشتُ في قرية متكتّمة، امتنع الأفراد فيها عن التّفسير لصغري أوّلا، ولأنّ الشّرطة تعتقل كلّ من يحنّ إلى نوافذ مهدّمة. نوافذ، لم يعد جائزا مشروع حنين عشوائيّ إليها.

4. من هم (هو /هي) أبطال “عين خفشة”؟
بالعادة لا أحلم بالأبطال، ولكن بالأصوات. والصّوت الأشدّ جلاء كان صوتُها، جدّتي العالية. صوتٌ تجاوز ساحة الباطون، وشجر البرتقال اليانع، ورائحة زهر البيّارة الجميلة الّتي لنا. تجاوز حلُمي ليصير واقع حكاية، كانت شحصَها. لقد احتفظت جدّتي بحكايا النّزوح كلّها، الفرق أنّها كانت ترسلها على شكل إشارات دعاء أو لعنات، وتولّت عمّتي تفسيرها. لا أصدّق كمّ الإصغاء الّذي كان لدي، وهي تحكي، حتّى حضرت كلّ الذّاكرة المعطوبة تلك، بتفاصيلها وكرجت كخرزِ مسبحة على جسدي، وفي قلبي.

5. ماذا سيجد القارئ في “عين خفشة”؟
أنتظر أن يعثر القارىء على نفسهِ فيها، ليس إلاّ.

6. هل تحضر المرأة “الأنثى” في “عين خفشة”؟
كما في سائر رواياتي للمرأة حضور طاغ فيها، والأنوثة في الغالب سيّدة تملك تغيير منطق الزّمن وفق هوى خصوبتها. للمرأة خصوبة طاغية تغيّر مناخ الزّمن والتّاريخ، بل والجغرافيا إذا شئتُم. وهو ينعكس في رحلة لَبِيبة عبر علامات الزّمن الّتي تنابتت حتّى على فخذها دفتر ذاكرة، فالمرأة حين لا تعثر على الحبر تكتب بريقِها، وحين لا تجد الورق تكتب على كعبها أو فخذها. ذات الأمر يحدث مع الجدّة الّتي توقظ عالما أخضر من أثر بكائها. كذلك الأمر مع ناعسة وسواها من النّساء. هنّ من يؤسّسن لمملكة خصوبة نادرة، تُغرق النّص بمصادرها الأولى . رغم أنّهنّ أتينَ من ذاكرة خرساء تماما، تولّى من صادرها بعد النّكبة إسكاتها.
للنّص رائحة امرأة، كلّ النّساء اللّواتي ترويهنّ الحكاية، زهُوّا، بكاء، قتلا، نزوحا جميعهنّ يُغنينَ، ولو التوين في نكسة الأغنية.

7. وكيف ستتجسد؟
وجوه النّساء وأصواتهنّ تحديدا وظيفتها أن تلوّن وتبهّر مذاق الحدث ومكاناته ومناخاته أيضا. وتعلّم النّساء أعمارهنّ شأن الجدّة، حارقة الصّوت، بمذاق المراحل. فالجدّة صبيهة تتلوّن بين طفولتها وصباها وشيخوختها كنموذج غير متداول لمراحل عمريّة تقليديّة، تتجاوز أرقامها لتنثر عبر المسبحة دهشة لن تستفيق منها قبل موتها.
مذاق النّغمة مميّز فنّي مثلا لشكل العلاقة الّتي تربط بينهنّ، وهي تحدّد مسار الحدث غالبا. للغناء لغة، وللحكي لغة، وللبكاء مسرب آخر يؤلم، وللنّواح رجفة ثقيلة في عين الحرف مثلا. كلّها نساء مفاتيحها حروف مسنونة كالسّكاكين تماما، كلّما دوّرتها بين يديك وخزت جزءا منك. فالنّساء بيوت وذاكرة بعضها ذهب وبعضه أُذهِب، والباقي يقاوم ذهابهُ.

8. لاقى القارئ في الأعمال السابقة ك (عواء ذاكرة، امرأة الرسالة، الباهرة) رجاء بكرية وتعرف عليها وميز أسلوبها، فأين رجاء بكرية من “عين خفشة”؟
أنا، في هذه الرّواية أنثى من دمعٍ وحبق، ملفوفة كزهرة توليب، مستباحة كساحة معركة، منفتحة كقُرُنفُلة. لا يمكن أن أتخلّى عن دور القرنفل في تربة ورقي، ومساكب حكاياتي، ولو كنت أنثرُ قصاصات نكبة. يكفي أن تستحضري حكاية العشق السريّة الّتي تعاش على طولها كي تصدّقي أنّها، ولا الهزائم يمكن أن تقتل الحبّ, والحبّ في كلّ حرب يفرض جمالا لم يأخذه أحد في الحسبان..

9. هل النهاية في “عين خفشة” مغلقة أم مفتوحة للقارئ؟
عين خفشة، قد تكون بلا نهاية، وقد تكون سيّدة النّهايات. أنت يا جميلة من سيقّرر مسافاتها
شكرا ريهام، شكرا غزّة…
حيفانشكرك ونشكر تعاونك، ونتمنى لك مزيداً من الإبداع والتألق.
تحيّات الإعلامية الصاعدة
رهام المغاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة