د. ماتي بيلد من سيرتي الذاتية

تاريخ النشر: 17/03/14 | 0:46

د. ماتي بيلد كان المشرف على أطروحتي للدكتوراة في جامعة تل أبيب، إذ حصلت عليها سنة 1989، وكان أولاً قد تسنّم مناصب في الجيش، إلا أنه ما لبث أن ناهض السياسة الإسرائيلية نحو الفلسطينيين، وأخذ يحاضر مادة الأدب في جامعة تل أبيب، وكذلك عن الاعتراف الحقيقي بحقوق الشعب الفلسطيني في المؤتمرات العالمية، وفي هذه المرحلة تعرفت إليه، وشاركته في تأسيس الحركة التقدمية للسلام والمساواة.

توفي بيلد في العاشر من آذار سنة 1995 عن عمر يناهز الثانية والسبعين.

إليكم ما كتبته عن بيلد المشرف على الدكتوراة، وصراعي في سبيل الحصول عليها، وتصديه لمحاولات تعقيد الأمور.

هو فصل من سيرة الحياة!

فيما يلي فصل من "أقواس من سيرتي الذاتية". طولكرم: مطبعة ابن خلدون- 2011، ص 240- 246.

…………………………………………………..

مع ماتي بيلد:

في زيارة قام بها د. متتياهو بيلد إلى باقة تعرفت إليه لأول مرة. كان ذلك في أواخر سنة 1977، ضمن وفد يساري حضر إلى القرية لمناقشة سبل التعاون المشترك بين القوى التقدمية العربية واليهودية، وللتصدي لمؤامرات مصادرة الأراضي.

أعجبت بهدوء متتياهو (ماتي) العجيب، رغم ما ساورني إزاءه من ريبة، فكيف لهذا الضابط الكبيرالمتقاعد أن يحرص على قضايانا الملحة أكثر منا؟

إذن، لا بد لهذه الدماثة أو الرقة أن يكون وراءها ما وراءها.

وتمضي الأيام…….

فإذا بماتي يزورني في منزلي، وطلب مني أن أزوده برسالة الماجستيرالتي كتبتها عن بدر شاكر السياب، حتى يرى إمكانية إرشاده لي ضمن دراستي للدكتوراة.

عندما أعاد لي الرسالة أبدى استعداده أن يرشدني في موضوع أدبي حديث.

قلت له: كم أود أن أتناول باستقصاء طبيعة الشعر الفلسطيني الحديث.

قال: أقترح أن نتناول موضوعًا حُددت أطره وبانت معالمه، فقد لا تستطيع الخروج من الموضوع الفلسطيني، أو ربما يستجد في أثناء دراستك ما يهدم لك كثيرًا من بنائك.

أضاف بيلد: ما رأيك في"مدرسة الديوان” في شعر العقاد والمازني وشكري؟

فكِّـر، ثم أجبني لاحقًا!

كان ذلك اقتراحًا عابرًا، ولكني نسجت حوله كل الخيوط، وأخذت أعد العدة على التو.

كان بيلد –وأنا في خطواتي الأولى –يتوجس أن كيدًا ما سيداهمني، ولذا فقد ألح علي أن أكتب الأطروحة بالعبرية أو الإنجليزية، حتى تجد الأطروحة قراء لها محايدين لا يخضعون بصورة أو بأخرى إلى إيماء أو إيحاء.

والدكتور بيلد لمن لا يعرفه باحث جادّ، يكثر من السؤال، ولا يسلم بأية مقولة دون أن تدفع هذه المقولة ثمن المساءلات. يستنبط ويستخلص بما يوجهه إلى رفض المقولة أحيانًا، أو يؤدي إلى تعريفها تعريفـًا جامعـًا مانـعـًا. هكذا كان يطالبني، ويثقل علي. فإذا قلت مثلا "لغته فصيحة” اعترض على الوصف، وقال:ما معنى ذلك تمامًا، ثم ما معنى"لغة”؟ هل هو الأسلوب؟ الألفاظ؟… إلخ

يشهد الله أن كل كلمة في أطروحتي المكتوبة بالعبرية قد مرت عبر مصفاة قاسية.

لم يكن عملي يسيرًا، فقد عانيت أكثر من أمرّين، ومع معاناتي كنت أسرّي عن نفسي وأنا أتساءل: هو مستشرق، فهل يحرص على لغة أمي أكثر مما أحرص أنا؟

ألا يدل بتشدده هذا على حرصه علي؟

اتعب يا فاروق!

زرت القاهرة زيارتي الأولى سنة 1980م، والتقيت الشاعر المرحوم صلاح عبد الصبور في الهيئة العامة المصرية للكتاب، حيث زودني بمراجع هامة كنت احتجتها.

فرح ماتي لحصولي على هذه المصادر النادرة وقال: الآن أرنا شطارتك!

كنت أقرأ وأبحث، وفي نفسي جرس خوف يرن، وكأنه يقول لي: لا بد من عرقلتك و"لعن أساسك“، فكل ما تفعله هباء في هباء…..

لكن ناقوس العزيمة كان يقول لي:امضّ! إن النجاح حليف كل مثابر.

بعد فراغي من الكتابة الأولى للأطروحة ارتأى بيلد، وعلى حين غرة أن أغير بناء الدراسة، أن أقلبها رأسًا على عقب.

لم استسغ ذلك أولاً، ولكن لا بد مما ليس منه بد.

وبينما كنت في هذه المعمعة، وإذا بفكرة الحركة التقدمية تداعب طموحاتي السياسية، وإذا بي أُفاجأ بان أستاذي في صفّي السياسي أو على الأصح أنا في صفّه، ولما بدا تعاوننا في هذا المجال كذلك اكتشفت إنسانيته وإخلاصه لشعبه من خلال ما يطالب به لشعبي، كان يحدثني عن لقاءاته بأبي مازن وعصام السرطاوي وشخصيات أخرى لا أذكرها.

أذكر غضبه – على قلة ما يغضب – لمصرع السرطاوي، وربما بسبب منه تأثرت شعريًا، فكتبت مرثية له، ألقيتها في حفل تأبيني في بلدة (سرطة) في جو حاشد بالخوذات العسكرية، قلت في هذه القصيدة:

معتصم هذا الثائر بالفجر

معتصم حتى الحلكة

يستنشق خبز الطابون

والجبــنة نابلسيه

ما أطيبها بعد الفرقــه

معتصم هذا الفارس بالجهر

ويعيد القول :

ماتي… يوسي…. رمزان إلى واحة (يمكن)

وسبيل الصحراء نعيب…

أما "الجبنة النابلسية" التي ذكرتها في القصيدة فقد كانت بسبب ما قاله لي بيلد إن السرطاوي طلب منه أن يحضر له جبنة نابلسية من "ريحة البلاد“ وأما (ماتي) فهو أستاذي الذي رمزت فيه بالإمكان، فليس مستحيلاً أن يلتقي العرب واليهود على أسس عادلة وصالحة.

أما الذين يرغبون باستمرار النعيب فعليهم بالصحراء، لأننا نريد الواحة ليس إلا….

كان بيلد يطالب المثقفين العرب، وفي كل كلمة يلقيها، ألا يبقوا على الحياد، أن" يبقّوا الحصوة"، وكان مع ذلك يتابع الدراسات الأدبية الحديثة.

السياسة والأدب عالمان يعيش فيهما من غير تناقض، فالدكتوراه التي كتبها عن محفوظ بعنوان RELIGION MY OWN، ومقالاته العديدة في المجلات العلمية المتخصصة بالأبحاث، وكتابه عن الأقصوصة التيمورية في مرحلتين تشير إلى هذا العشق للأدب العربي، وقد ختم حياته بإنجاز كبير هو ترجمة رواية لسليم بركات فقهاء الظلام، وحظي بجائزة الترجمة لسنة 1994. كل هذا لم يحل دون نشاطه السياسي المكثف.

لا أدري لماذا فرحت جدًا لانتخاب أستاذي عضوًا في الكنيست. كنت أحس بأن صوتي كان هو المقرر، وأنني فعلت المستحيل من أجل إنجاحه. ذلك لأنني رافقته إلى عشرات الأماكن في طول البلاد وعرضها، وخطبت على أكثر من منصة.

في باقة- بلدي أقمنا للحركة مهرجانًا ضخمًا لم تعرف باقة في تاريخها مثيلاً له. لا أزعم أنني كنت السبب، لكني أؤكد أنني كنت ألهب الجماهير بقصائدي، وكان القس رياح أبو العسل كذلك يكسح الأصوات المؤيدة بحماسته، وفعلا حصلنا سنتها في باقة على أكثرية الأصوات.

ثم وصل بي الحال إلى أن أكون عضوًا في اللجنة المركزية للحركة التقدمية.

لكني ما لبثت أن تخليت عن الحركة لأسباب لا مجال هنا لذكرها، وقد تزامن ذلك مع إعلامي بعدم قبول أطروحة الدكتوراة، وأرفقت الجامعة تقارير الرفض بعد سنتين من المماطلة غير المبررة.

حاول البعض أن يلمح لي أن السبب هو في تخليك عن بيلد وحزبه، لكني لم أقبل الشك في ذلك، ولم يخطر على بالي قط ألا يكون بيلد نزيهًا أيما نزاهة، وعندما التقيت أستاذي وجدته غاضبًا لا أقل مني.

اعتبر الخيبة التي مُنيتُ بها قضية شخصية تتعلق به: "إن هذا الرفض موجَّه لي أكثر مما هو موجه لك“. شعرت أن إلى جانبي يقف رجل، فقد كتبت وظيفتي وفق إرشاده، واعتبرها هو ممتازة، بل كان يظن أنها ستحصل على علامة الامتياز، وتبين لي أن هنالك مؤامرة، كشفت بعض خطواتها وخيوطها في مقابلة لي مع فؤاد عبد النور في كتابه عن المثلث.

كتب بيلد أكثر من رسالة ينافح فيها عني، يقول في إحداها:

"… من الطبيعي والمفهوم أن هناك ملاحظات وانتقادات وجهت لمواسي، وقد يتناقض بعضها ببعض، فهذه أطروحة في بحث أدبي، ولا بد أن يكون ثمة انطباع شخصي هنا وهناك مما يحمل أحكامًا ذاتية، وأظن أن المشكلة الأساس هنا هي: هذا التعارض أو التناقض الذي أورده الحكام الذي قرأوا الأطروحة ورفضوها. لقد اعترضوا على نتائجه، ولكنهم لم يعترضوا على إسهام مواسي في فهم الظاهرة بمعنى طبيعتها ومكانتها في شعر مدرسة الديوان. لم يكن هناك من يعترض على أصالة البحث وجدية التناول، فالملاحظات تركزت في قضايا ثانوية وهامشية".

ورسائله وسواها تدل على ملاحظاته البناءة وقدرته النفاذة للوصول إلى عمق الشيء.

وأخيرًا وبعد شق الأنفس لبست عباءة الدكتوراه وقبعتها، وبعد بضع سنين حصل أستاذي على لقب بروفيسور.

ولم نكن نلتقي إلا قليلاً تذكرنا الأعياد بوجوب المهاتفة والتهنئة.

ثم إن جامعة تل أبيب أكرمته بمناسبة إحالته على التقاعد، ولم يجد أي مسؤول في الجامعة بعض الكرم ليدعو طالبه الوحيد للدرجة الجامعية الثالثة حتى يشارك في تكريمه.

وحزنت عندما سمعت لأول مرة عن المرض العضال الذي ينخر فيه.

والتقيته اللقاء الأخير قبل أكثر من سنة، وذلك في يافا في اجتماع لحركة السلام – هذه الحركة الجديدة التي لا تهادن رابين، ولها رغبة في التغيير الجدي، وتطالب بإزالة المستوطنات.

قلت لبيلد يومها: المستوطنات مثل مسمار جحا.

قال لي: لا اعرف القصة أو المثل.

وبعد أن شرحت له قصة المثل ضحك طويلاً. ولعل هذا المشهد – وهو يضحك- هو آخر ما بقي في ذاكرتي منه.

واليوم، وبعد أن صدرت أطروحة الدكتوراة، وذلك بعد أن ترجمتها (أو ترجمت نفسي) للعربية أحزن لأنني لا استطيع من تقديم الكتاب إليه يدًا بيد. وكنت قد دفعت بكتابي إلى المطبعة يوم نعيه، وراجعت للمرة الأخيرة طريقة إهدائي وشكري لأستاذي، فإذا بي أجد ما نصه:

"… واظبت على هذه الدراسة يرشدني في منهجيتها الأستاذ متتياهو بيلد الذي كان مرافقي في كل فصل من فصولها، ويتوقف عند كل جملة فيها، فله الشكر من قبل ومن بعد"*.

ترى لماذا كتبت في جملة الشكر"ومن بعد“؟!!

* * *

من المؤسي أن الكاتب ع. محاميد عاب علي في موقع "فلسطيني" (وهو بإشراف الكاتب الفلسطيني جميل خرطبيل) في مقال له" اللغة وآداب العربية في"الدولة العبرية" 31/7/2009 أنني كنت طالبًا "لجنرال الحرب متتياهو بيلد الذي شارك في كل حروب (إسرائيل)، وساهم في تشريد الشعب الفلسطيني عام 48، وفي الاعتداء وقهر وإذلال الأمة العربية عام 67 مع العسكريين"الإسرائيليين"- جنرالات الموت."

وضحت لصاحب الموقع الأمر، ومدى التجنّي، ولكنه قال:

"يا أخي هذه حرية رأي"؟؟!!، وطلب مني أن أكتب ردًا، فكتبت:

"لم يكن لي ذنب في مقالة المتجني غير المركزة إلا أنني درست الدكتوراة بإشراف الأستاذ بيلد، ولأنني قدمت له شكري، فبالله ما الخطأ، وما الجناية التي جنيتها؟! ألا يعرف المتجني أننا نحن المرابطين في الأرض نعيش في ظروف تختلف عن ظروف إخوتنا؟ وأننا بحكم ظروفنا نتوجه للدراسة في الجامعات الإسرائيلية، أم أنه يريد لأبنائنا أن نتوقف عن الدراسة في هذه الجامعات، وعندها ما أدراك ما سيكون مآلنا، فربما في شراء الشهادات سيكون الخلاص؟!

لم تجاهل المدعي دور بيلد اليساري، وأنه كان رأس حربة ضد اليمين المتطرف الذي يدأب على قهرنا إن لم يكن ترحيلنا؟ بيلد كان أستاذي في المرحلة الأكاديمية من حياته، وعُرف عنه بعد إنهاء دوره العسكري أنه من أنقى الأصوات اليهودية، وليس أدل على ذلك اليوم من مواقف ابنته نوريت التي تواصل مسيرته النضالية في الذود عن حق الشعب الفلسطيني في دولته وعلى أرضه، ولها مؤسسة اليوم شغلها الشاغل أن تتصدى للجرائم التي تلحق بشعبنا، وتذود عن الحق ليزهق الباطل.

ترى، هل نقول لنوريت: كفّي، فأنتم كذبة، وأبوك كان جنرالاً، وكان…

قد يفهم القارئ لحدة كتابة المتجني أني أشكر المحاضر لأنه جنرال، وأشكره لأنه قام بما قام به يوم أن حارب شعبنا؟؟!!"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة