صومٌ وطنيّ،، عن شعائر الفرح..

تاريخ النشر: 05/05/17 | 19:40

“..لا زلتُ أرسم يوم الأرض على بوّابة بيتنا الحديديّة القديمة طفلة بجديلة طويلة، تشبهني، تُعلِّمُ الأطفال، (راس- روس) رغم أنّ ذات البوّابة صدئت منذ وقت طويل، واستبدلناها بأخرى جديدة أكثر جاذبيّة وحداثة.”
رجاء.ب
منذ دموع الطّفلة في العام 1976، عشيّة اجتاحت مدرّعات رابين أراضي الملّ، ومعها شوارع قريتي الصّغيرة آنذاك، وأنا واقفة على طرف ذات الشّارع, أمسحُ دُموعا لا أفهم مصدرها بكمّ بلوزتي البرتُقاليّة، شأن الدّموع الكثيرة الّتي سالت، أمام جدّتي، كلّما دخلت شرطة ورشة أبي، ولم أفهم مصدرها. ذات الطّفولة الشقيّة، في ذات الأحياء والشّوارع.
لا زلتُ أحاول أن أفسّر العالم من خلال مشهد الشّارع الّذي ازدحم بالبكاء. وفي كلّ “يوم أرض” و “نكبة”، يعود المشهد بخرابِهِ وتُرابِهِ، مع أمشاطِ شَعري المرتبكة فوق غيم المسافة. يعود، كيوم وطنيّ بامتياز لمكوّنات المكان. أحمل ذكرياته تحت كمّ بلوزة لا تزال برتقاليّة ولو تبدّلت ألوانها. نقشتُهُ يومذاك، أنا وأترابي، بنبتة دمِ الغزال، الّتي عثرنا عليها في البريّة بعد الثّلاثين من آذار، كيومٍ شُهرَتهُ “خير اللّحام”، الشّهيد الّذي خسرناه في مثل هذا اليوم، هو ومركبته الفضائيّة، وأعني جراره الزّراعي العالي.
لا زلتُ، للآن، عالقة بخواتم شعره وصهوة الجواد المعدنيّ الّذي أتى بهِ إلى ورشة أبي. لا زلتُ أرسم يوم الأرض على بوّابة بيتنا الحديديّة القديمة طفلة بجديلة طويلة، تشبهني، تُعلِّمُ الأطفال، (راس- روس) رغم أنّ ذات البوّابة صدئت منذ وقت طويل، واستبدلناها بأخرى جديدة أكثر جاذبيّة وحداثة. أذكر جيّدا أنّي، للآن، لم أناقش أحدا بصدقِ التّاريخ الّذي عنده ننزلُ إلى الحقل، سهل البطّوف، ونشمّ رائحة التّراب والعشب الأخضر. كما لم أناقش مسألة وجوب إعلان الإضراب فيه لأنّي اعتبرتها مسألة قضيّة، والتزام أخلاقيّ تجاه الّذين استشهدوا في مثل هذا اليوم تحت رصاص جنود رابين، ونياشينهم الفضّة. استشهدوا عن قناعة تامّة بعدالة حقّهم في الأرض، الّتي شنّ جيش الدّفاع، في حينِهِ، خوذاتهُ ومدرّعاته، ونواياه لقنصها، ومصادرتها.
مثل هذه الإستراحات التّاريخيّة في تاريخ الشّعوب المناضلة، ونحن بعضها، يجب أن تُعلن شاهدة وفاء للحقّ ضدّ نظم القمع والظّلم بكلّ أشكالها. ولو شئنا اعتبار الثّلاثين من آذار عُرسا وطنيّا أصيلا، سنحرزُ إنجازا تاريخيّا، على مستوى الوعي الأخلاقي والفكري تجاه أرقامِنا المنكوبة أصلا، منذ نُزعت منه صبغته الفلسطينيّة الخالصة. منذ وفد أبناء عمومتنا ضيوفا لاستصلاح الأراضي، وتحسين جودة المحاصيل، واستحالوا إلى مضيفين، وأصحاب مكان.
شخصيّا، أتابع منذ السّنة ستّة وسبعين، نفسي، وأقيس بالقلم والبيكار تبدّل ملامحي كلّما ابتعدتُ أو اقتربتُ من الطّفلة الكانت تشبُهُني. ويومَ قصصتُ شعري أوّل مرّة، أحسستُ بالخسارة. خُيِّلَ إليّ أنّي حصدتُ سنابل خضراء وهمية، كبرت في رأسي، قبل أوانها مع خصلاتي. ولا يهمّ كم شعرتُ بالخُسارة والنّدم، لكنّ المهمّ أنّي كلّما استرجعتُ صورة طفلة يوم الأرض اصطدمت عيناي بجديلة كستنائيّة طويلة، كأنّ التّاريخ توقّف هناك، ويصرّ ألا يتقدّمَ قيد أُنمُلة.
أُضيفُ ،إذا كنّا جماهيريّا، شأني شأن أبناء عمومتي البعيدين والقريبين وجيراني، لا زلنا عند ذات المحطّة نؤرّخُ هذا اليوم باحتفاء المركبات الزّراعيّة الغريبة، وخروج الآلاف إلى الشّوارع احتجاجا على سياسة رابين المتوارثة في تهويدنا شعبا وأرضا، لِمَ إذا، لِمَ لا نفرض آليّة صومٍ وطنيّ، ليوم واحد فقط، عن شعائر الفرح؟
بقلم رجاء بكريّة – أيّار، 2017 حيفا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة