آيات فيها تدبّر
تاريخ النشر: 09/05/17 | 0:46الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على اله وصحه اجمعين
و بعد:
فان القران الكريم كلام الله عز وجل انزله الينا و امرنا بحفظه و تدبر اياته وللاسف كثير منا يجهل تفسير كثير من السور
و قد يعلم معاني الكلمات لكن لنقص في التدبر تجده لا يوفق الى فهم معنى السورة و هنا احببت ان أبدا معكم تدبر بعض سور كتاب الله لفهم معانيها و لنزداد يقينا بان هذا الكلام لا يمكن ان يكون من عند بشر بل هو كلام الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (7)وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا
أقسم تعالى في هذه الاية بالخيل في الحال الذي لا يشاركها فيه غيرها من انواع الحيوانات
و العاديات جمع عادية، وهي التي تسرع في الجري
ضبحا, الضبح هو صوت نفسها في صدورها عند اشتداد عدواه
و هذا الصوت هو غير الهَمْهَمَة وغير الصهيل
فصار المعنى
أي: والخيل العاديات التي يخرج منها صوت من صدرها ليس بصوتها المعتاد من صهيل أو همهمة و ذلك عند اشتداد جريها
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا
الموريات: جمع مورية، و الايراء غير الايقاد
فالإيراء إخراج نار عن طريق احتكاك وليس عن طريق الإشعال المباشر
كما قال تعالى ” أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَالَّتِي تُورُونَ”
مثال:
اشعال عود الثقاب يعتبر نوع من الإيراء
وعندما يوضع الثقابالمحترق في الورق مثلا فهذا إيقاد
اذن فالخيل إذا ضربت بحافرها على الحجارة خرج منها نار
همسة: الإيراءَ يظهر ليلاً للظلمة
فحتى الان صار المعنى
قسم من الله بالخيل التي تجري جريا شديدا فيصدر منها صوت الضبح ,
فيتوقد شرر النار من شدةاحتكاك أقدامها بالحصى
– و هذا التوقد اشد ظهورا في الليل و ان كان موجودا في النهار-
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا
هذه الخيل تغير في الصباح على العدو،
هذا المعتاد في الإغارة, فهو امر اغلبي لانهم يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو و لانه اخف و ايسر
و لان الاغارة في الليل تجعلهم لا يرون شيئا و الاغارة في الصباح تعينهم على معرفة حال عدوهم
ويهجمون صباحاً في اول النهار و ليس في اخره او وسطه
لان العدو في اخر النهار ووسطه يكون في قمة الاستعداد
و قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير صباحا و يستمع الاذان , فان سمع اذانا و الا اغار
فصار المعنى
قسم من الله بالخيل التي تجري جريا شديدا فيصدر منها صوت الضبح ,
فيتوقد شرر النار من شدة احتكاك أقدامها بالحصى
و عدوها هذا اغلبه ليلا ثم تكون الاغارة في اول الصبح لما ذكرنا من الاسباب
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا
النقع الشيء المستقر, فالخيل العادية المذكورة بالأوصاف السابقة(جري,واغارة…) تثير غبارًا كان مسستقرا، وهو النقع في وسط العدو و في مكان المعترك.
همسة: وإنما يظهر النقع نهاراً كما أن الإيراءَ يظهر ليلاً للظلمة وفي إثارة النقع إشارة إلى شدة الجري
فصار المعنى
قسم من الله بالخيل التي تجري جريا شديدا فيصدر منها صوت الضبح ,
فيتوقد شرر النار من شدةاحتكاك أقدامها بالحصى
و جريها هذا اغلبه ليلا ثم تكون الاغارة في اول الصبح فتثير في مكان المعركة اغبرة و اتربة من شدة الجري
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا
اي توسطت بالركاب -التي لها من الصفات ما ذكرنا- جموع الاعداء الذين اغار عليهم
فصار المعنى
قسم من الله بالخيل التي تجري جريا شديدا فيصدر منها صوت الضبح ,
فيتوقد شرر النار من شدةاحتكاك أقدامها بالحصى
و جريها هذا اغلبه ليلا ثم تكون الاغارة في اول الصبح فتثير في مكان المعركة اغبرة و اتربة من شدة الجري حتى تصير هذه الخيل في وسط جمع العدو
فالمشهد الأول في السورة المتعلق بقسم الله
فيه اقسم سبحانه بالخيل العادية الضابحة باصواتها, القادحة للشرر بحوافرها,
المغيرة مع الصباح فجاة من غير انتظار, المثيرة للنقع و للغبار,
الداخلة في وسط العدو تأخذه على غرة و تثير في صفوفه الذعر و توقع في صفوف العدو الفوضى و الاضطراب
يليه جواب القسم و هو مشهد اخر متعلق بالانسان
إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
الكنود من الكند و يدل على القطع بالقطع
فالأرض الكنود التي لا تنبت
و الانسان الكنود هو الكفور للنعمة فلا يشكرها, و يمنعها غيره فلا يعطيه
تراه يعد االمصائب و ينسى نعم ربه عليه
و المقصود بالانسان المجموع لا الجميع
فالانسان بطبيعته و جبلته ان نفسه لا تسمح بما عليه من الخقوق فتؤديها كاملة موفرة
بل طبيعتها الكسل و المنع لما عليها من الحقوق المالية و البدنية
الا من هداه الله و خرج عن هذا الوصف الى وصف السماحة بأداء الحقوق
همسة
انظر الى تقديم “لربه” و ما يفيده من الحصر و ما في ذلك من المبالغة في الذم
و انظر الى شدة الكفران للنعمة , كيف يكفر نعمة من نعمه الظاهرة و الباطنة لا تعد و لا تحصى
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ
فالانسان على ما يعرفه من نفسه من المنع و الكند لشاهد بذلك لان الامر بين واضح
و من لم يشهد بلسان المقال فهو شاهد بلسان الحال و شهادة الحال ابلغغ لعدم احتمال الكذب
و من لم يشهد بالدنيا بالقال شهد في الاخرة
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
الانسان كثير الحب للمال, فتراه يحتال ايما حيلة للحصول على المال و منع غيره منها
و هذا الحب هو الذي اوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه
فقدم شهوة نفسه على رضا ربه
وكل هذه الاوصاف ما هي الا لقصر نظره على هذه الدار و غفلته عن الاخرة و لذا قال حاثا على الخوف من الموت و من يوم الوعيد
أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ
فهلا يعلم هذا المغتر ما هو حاصل اذا اخرج ما في القبور؟ فاخرج الله الاموات من قبورهم لحشرهم و نشورهم؟
و انظر كيف عبر بـ “ما” و لم يقل “من” لان الانسان في ذلك الحين غير مكلف, فعقل العقلاء معتبر في الدنيا للتكليف! و من لم يستعمل عقله في ذلك في الدنيا فهو كالبهيمة بل هو أضل
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ
فظهر و بان الظاهر و هو الجسد عندما بعثر ما في القبور
و هنا ظهر و بان مافي الباطن و ما استتر في الصدور من كمائن الخير و الشر
فصار السر علانية و الباطن ظاهرا و بان على وجوه الخلق نتيجة اعمالهم
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
فليعلم كل انسان ان الله ربه الذي ساده و صرف امره بربوبيته له عالم ببواطن أعمالهم و مأسروه في صدورهم و ما اعلنوه, و لا يخفى عليه شيء و هو مجازيهم عليها
و خص خبرهم بذلك اليوم مع انه خبير بهم في كل وقت لان المراد الجزاء على الاعمال الناشئ عن علم الله و اطلاعه
تأملات…
سبحان الله و أنا أجمع هذا التفسير من كتب اهل العلم مر بذهني امور و تاملات و لطائف كثيرة جدا و روابط بين الجزء الأول و الجزء الثاني في السورة أذهلتني و كنت أقول في نفسي و الله ما هذا بكلام بشر و الله هو كلام رب البشر
فمن اللطائف التي دارت في بالي:
1-ضرورة فهم معاني كلمات القران و ما في ذلك من فائدة لفهم كلام ربنا
2- انظر معي اخي الى سرعة المشهد الأول الذي يصور الحرب بدايتها الى نهايتها
ثم انظر الى سرعة المشهد الثاني من حياة الانسان الى موته الى حسابه
3-انظر الى المشهد الاول الذي يقسم الله به و ما فيه من مدح للغزاة الذين خالفوا طبعهم بالغزو نصرة لدين الله
ثم انظر الى المشهد الثاني الذي يذكر طبعا في الانسان يجب عليه ان يخالفه و هو كفران النعمة و البخل بالمال
و كما كان معالجة داء الطبع الأول فيجب ان تكون معالجة الداء الثاني و ذلك بتذكر البعث و الزهد في الدنيا
4- انظر الى الاية الاولى من المشهد الثاني الذي يصف طبيعة في الانسان و هي شدة كفران الانسان لنعمة ربه عز وجل
و انظر الى الاية الاولى في المشهد الاول الذي يصف طبيعة في الخيل و هي شدة الجري
5- انظر الى الاية الثانية في المشهد الثاني و هي التي تذكر بان الانسان يشهد على حاله بكفرانه للنعم
وانها موجودة بلسان الحال و لو غابت عن لسان القال,
ثم انظر الى المشهد الثاني الذي يصف الشرر الذي قد يغيب او لا يلاحظ في الصباح رغم وجوده, بدليل ظهوره في الظلمة
6- انظر الى الاية الثالثة التي تصف الانسان بشدة الحرص و الحب للخير و ما في ذلك من التماسه لمختلف الطرق للحصول على المال, ثم انظر الى الاية الثالثة التي تصف كيف يتخير الغزاة افضل الطرق بان يسيروا ليلا و يهجموا صباحا في وقت الغفلة
7- ثم انظر الى مشهد بعثرة ما في القبور من الاموات الذين كانوا مستقرين و تخيل المشهد, و انظر الى مشهد اثارة الغبار المستقر
8- انظر اخي الى مشهد وصل الغزاة الى وسط ارض العدو و ما احدثه هذا من الخوف و الرعب ثم انظر الى حال الانسان يوم القيامة اذا عرض عمله و حصل ما في صدره و هناك يبلغ الخوف مبلغه
و انظر الى تحصيل الامر الذي كان في الصدر مستترا و الى خروج الغزاة على العدو بعد ان كانوا مستترين
9- انظر الى اخبار الله عز وجل بالدواء لهذا الداء و ان الانسان لو تيقن في كل حين ان الله مطلع عليه يعلم حاله و انه خبير بحاله و تيقن الجزاء لاصلح من حاله
10- انظر الى قسم الله بالعاديات و هذا يدل على عظمتها و قد قال صلى الله عليه و سلم الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة
11- انظر الى الاشارة الى الجهاد بالسيف و الاشارة الى ضرورة جهاد النفس للكف عن شجعها و كفرانها للنعمة
و اربط بين الجهادين و اسال نفسك أتقدر على الأول دون الثاني؟
12 – و انظر الى اعداد العدة في الجهاد الاول بتجهيز الخيل العاديات ترقبا للغزوة
و انظر الى ما يجب عليك من اعداد العدة في الجهاد الثاني ترقبا للبعث و الحساب
13- انظر الى فائدة العقل في الدنيا و ان المقصود الأول منه عبادة الله عز وجل فمن لم ينتفع من عقله في الدنيا فلن ينفعه في الاخرة
14- الدنيا الى فناء كما ان الغزوة ستنتهي و لا محالة
15- هذا نموذج يدلنا على وجود تناسب بين القسم و المقسم عليه, و من سياق كل سورة يستطيع القارئ أن يعرف حكمة مجئ الأقسام في سورها
16- و فيه تمثيل الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس ليسهل الفهم
17 – الخيول في الحروب تمر في مرحلتين هناك مرحلة أولى باتجاه الحرب(هي وسيلة), تتمثل في الايات 1-3 و المرحلة ثانية هي الحرب (و هي الغاية الاساسية) في الايات 4 – 5 و لما كانت الخيل في المراحل الاول ناجحة في اظهار شدتها و طاعة سيدها
افلحت في المرحلة الثانية في الحرب في تحقيق مراد سيدها منها (ادخال الرهبة في قلب العدو باثارة النقع و توسط الجمع)
و اما الانسان فهو يمر ايضا في مرحلتين مرحلة اولى في الحياة الدنيا (هي وسيلة) _ الايات 6-8_و مرحلة ثانية في الاخرة (هي غاية)_ الايات 9 – 10 _ و كما كان المطلوب من الخيل ان تحقق امر سيدها في المرحلة الاولى لتفلح في المرحلة الثانية
كان المطلوب من الانسان ان يحقق مراد ربه عز وجل في المرحلة الاولى ليفلح في المرحلة الثانية و العجيب ان الانسان في المرحلة الاولى لا يفعل ذلك رغم معرفته بمروره بالمرحلة الثانية
فهلا تخلى عن شحه و بخله و حبه للدنيا و كفرانه للنعم و اذ علم ان القبر مبعثر و ما في القلب سيحصل!
والله خبير بعباده يصطفي من يشاء لنصرة دينه و ادخاله جنة عرضها السموات و الارض
و رب الخيل ادرى بخيله لذا يختار منها ما فيه الشدة و البأس الكافي لخوض الحروب
و لله المثل الاعلى
هذا الذي تيسر و كنت قد كتبت هذا في احد المنتديات ثم رأيت أن أنقله هنا ايضا لعل للاخوة استدراك أو تعليق
و أخيرا
هذه المشاركة منقولة من احد المنتديات عن الأوجه البلاغية في السورة مع تعديل بسيط جدا
نلاحظ أن مبنى هذه السورة الكريمة كلها قائم على الحدث الفردي والتتابع الثنائي له
فإذا نحن نظرنا في أول السورة وجدنا أن الله تعالى يقسم ب ” العاديات ضبحا ” فهذا مقسم به فردي
ثم بعد ذلك يأتي وصف تابع لهذا المقسم به وهذا الوصف وصف ثنائي ( موريات قدحا , مغيرات صبحا )
ثم يأتي بعد ذلك توصيف بالفعل لهذا المقسم به وهو توصيف ثنائي كذلك ( أثرن به نقعا , وسطن به جمعا )
ثم يأتي بعد ذلك المقسم عليه , فالله أقسم بالعاديات الموصوفة وصفا ثنائيا مثنى ( وصف بالاسم وبالفعل !)
ونجد كذلك أن التتابع الثنائي يصدق في جواب القسم , فنجد أن الجواب جوابان وهما قوله تعالى ” إن الإنسان لربه لكنود ” وكذلك ” إن ربهم بهم يومئذ لخبير ” .
فإذا نحن نظرنا في المقسم عليه الأول وجدنا أن ما يصدق على المقسم به يصدق كذلك في المقسم عليه
فسنجد أن المقسم عليه وهو ” إن الإنسان لربه لكنود ” موصوف بوصف ثنائي بقوله ” وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد ”
ثم بعد ذلك تعلق بجملتين فعليتين وهما قوله تعالى ” أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ” . فانظر أخي في الله إلى هذا التقسيم العجيب :
آية يتعلق بها آيتين اسميتين وآيتين فعليتين ثم يتعلق بها إثنان من المقسم عليهما ! ثم نأتي إلى المقسم عليه الأول فنجد أنه كذلك موصوف بجملتين اسميتين ومتعلق به جملتان فعليتان !
فإذا نحن عرضنا بعض الأوجه البلاغية في السورة نجد التالي :
تقارب بين الضبح والصبح ! وبين العاديات والموريات !
سجع بين ” ضبحا و قدحا و صبحا
سجع بين قوله تعالى ” نقعا و جمعا ” وقوله ” كنود و شهيد و شديد ” وكذلك قوله ” القبور و الصدور و خبير ” ” فأثرن به ” وفي الآية التالية ” فوسطن به ”
تقابل بين البعثرة والتحصيل ” بعثر ما ” و ” حصل ما ”
و صلى الله على نبينا محمد و على اله و صحبه وسلم
موقع : ملتقى أهل الحديث