عودة نبضات تائهة
تاريخ النشر: 31/03/17 | 8:39أمس كنا في جنازة خالد .. صديقي القديم .. كانت له جنازة متواضعة , توفي أثر مرض عضال ألم به , ولم يمهله كثيرا.
قبل وفاته بأشهر قليلة, بدأت ألتقي به في المسجد بعد انقطاع طويل, ” تُزيِّن” وجهه لحية سوداء, كانت تطول وتتكثف, حتى كادت تخفي معظم معالمه ,فلم تبقِ إلا عينين صغيرتين ,تختفيان وراء ستار,تطلان من خلفه ,لتسرقان حفنات من صور العالم الخارجي , ومن ثم تعودان للإختباء خلف هذا الستار .وكنت ” أمسكهما بالجرم المشهود “,تختلسان النظر أِليَّ .. إِلى الصديق القديم ..!
وفي طريق عودتي من المقبرة الى البيت , عرجت الى بيته لأقدم واجب العزاء للبنى زوجته .
ولما لمحتني أدخل من بوابة بيتهم , تركت المعزيات , وتقدمتْ لتقابلني في ساحة الدار, لتتقبل مراسم عزائي لها , سرقت نظرة إلى وجهها, فلاحظت آثار بقايا دموع لم تستطع محوها.
” أني بحاجة لمقابلتك لأمر هام ..!” سلتْ همسة من بين تدافع مشاعر فائرة كادت تخنقها .
فخرجت من بيتهم ,وأنا أحمل على كاهلي حملاً, كنت قد رميته منذ زمن طويل , في مناطق بعيدة عن تفكيري.. كان يحاول العودة الى دائرة خيالاتي القريبة , فأطرده دون شفقة أو رحمة ,ليعود الى مكانه بعيدا عن حياتي .
كان ذلك قبل خمس سنين ..
” سأتقدم لخطبة لبنى ..! , لقد فاتحتها في الأمر أمس .. وأنت الأول الذي نزف له الخبر ..!” هكذا أقتحمني صديقي خالد .. أقتحمني ,دون ان يترك لي الفرصة, لِأَبني لي حواجز أحمي بها نفسي , ان أربط شهقات روحي , أن ابني لي ميناء, ومجدافاَ لقاربي ,كي أصل اليه هارباَ, من الحوام الذي رماني فيه .
أحببت لبنى بما لم يحب حبيب لحبيبته .. رأتها في كل نظرة مني تداعب أحاسيسها المتلهفة .. انتظرتني طويلا كي تسمعها مني ..كلمات تنقذها من هذا التيه ,الذي تضيع في سرابه ..مجداف يجعلها تتحسس المسار ,الذي سيوصلها الى ميناء ,كانت تحلم ان تصل اليه .. ولكني بقيت أتخبط في حوامات عجزي ,وبقيت الكلمات محبوسة وراء لساني, وأبقيت أسماعها عطشى لها حتى أصابها اليأس مني !
لملمت شظايا روحي وفلقات تحطمي , وهربت الى حرم الجامعة في حيفا ,أحتمي به, وأحاول أن أرمم أحساساتي المكسورة , وأبني لي قوقعة, تحميني من سياط الموقف , وقناعاً يستر افتضاح مشاعري.
لماذا طلبت لبنى مقابلتي ..!؟ أتحررها من قيود خالد بعد رحيله, هو الذي دفعها لهذا ..!؟
” هل أحبت لبنى خالد قبل ارتباطهما معا .!؟ أم ان حباً نما بينهما بعد الزواج ..!؟ أم أنهما عاشا معاً حياة بلا حب..!؟ هل مازال بقايا من حب لي دفين في ثنايا قلبها , وآن الأوان كي تبوح لي به .!؟ أم تريد معاتبتي, على تركها لقمة سائغة لخالد ..!؟
عادت ذاكرتي ,إلى اليوم الذي رجعت فيه الى البلد, بعد غياب دام شهرين , هرباً من الواقع ,الذي نتج عن الصدمة التي تلقيتها, من جراء إرتباط لبنى وخالد .. لأجد أن ما بنيناه قد اندثر ..النادي والنشاطات الثقافية والتطوعية التي قمنا بها في نطاقه..الفرقة المسرحية ..والعلاقات الرائعة ,التي بنيناها بين مجموعة الشباب , والتي كنا- أنا وخالد ولبنى- على رأسها .. والتي استغرق بنائها سنين من الجهد المضني ,لأجد أنها تبخرت ولم يعد لها من أثر .
وغاب خالد في وظيفته الحكومية التي حصل عليها من مِنَنْ السلطات عليه مقابل خدماته .. وغابت لبنى بين طلابها في مدرسة القرية..
وأصبحت حيفا هي ملاذي الذي يحتويني , والضياع الذي يحميني.!
إِن استدعائي من قبل جهاز الأمن, لم يكن غريبا علي , فقد اعتدت عليه منذ ان بدأت مجموعتنا الثقافية , تمارس نشاطها في القرية , كان هدفهم معرفة وجهتنا , والى ماذا نريد ان نصل , وإِفهامنا أننا تحت المراقبة , و” دبِّ ” الخوف في قلوبنا .
ولكن الذي أثارني ,وجعل الدنيا تغيم في وجهي , وان أكفر بكل ثوابتي في هذه الدنيا , عندما بدأ رجلهم برميي باتهامات كنت أنفيها, وأُفشِل كل محاولاته لهز كياني واخلال توازني .. ولكن فجأة رماني بصخرة غشيمة أطاحت بي, وأعمت بصيرتي :” أنت مشترك بجريدة الأتحاد الشيوعية..! ” صرخ بي كأنه وجد السلاح الذي “يفتك بي .. !” وأنت قبل شهرين, كنت مديون لموزعها ثلاث عشرة ليرة ونصف ..!” أكمل بكلمات تحمل كل معاني الزهو والأنتصار, والتي تقول ” مسكتك بالجرم المشهود ..! , وأننا نعرف عنك كل شيئ .!”.
لم يكن يهمني أن يعرفوا أنني مشترك في جريدة الأتحاد , فلم يكن هذا سراً , فقد كنت استلمها على رؤرس الأشهاد , ولكن الذي “طيَّرَ” صوابي هو: ” أن صديقي خالد ,هو الوحيد الذي كان يعرف مقدار مديونيتي لموزع الأتحاد ..!” .
(هل تريد لبنى ان تقابلني ,من أجل أن تطلب مني مسامحة خالد ,على ما سبب لي من أذى ..!؟ ربما تريد عن طريقي, أن تعتذر لكل الناس الذين أساء أليهم ..!؟)
وعادت ذاكرتي لتكمل حكاية ماض قديم تابى أن تريحني منه..
وكبر خالد , وصار من ذوي “العز والجاه “, وأصبح “يُغمِّس” من صحن السلطة , و” يُزيِّن “صدره بدماء جراح الناس .
.. حتى داهمه المرض العضال .. فأطلق لحيته والتجأ الى المسجد
يحتمي به , واحتمى بصوم رمضان ليطهره , وبالحج لعله يعيده بريئا كما ولدته أمه .!
ولم يمهله المرض طويلاً .. مات أمس .. ولا أستطيع تفسير أو أعطاء جواب للسؤال الكبير, الذي يعذبني ويعذب كل من حولي :”لماذا سرتُ في جنازته ..!؟” .بالرغم أنني رفضتُ كل الضغوط , التي نبعتْ من داخلى , والتي أتتْ من الذين حولي ,فلم أحضر عرسه ,ولم أهنئه بميلاد أولاده الثلاث , ولم أعوده في مرضه , أو أهنئه في حجته .!
واختارتْ لبنى “حديقة الأم” الحيفاوية ,لتكون مكاناً نلتقي به ..
جلستْ بجانبي على المقعد ,وانفجرت في بكاء محموم , ترافقه موجات من شهقات متقطعة, وأنا متجمد لا أدري ماذا أفعل وماذا
أقول , وبعد محاولات محمومة, استطاعتْ ان توقف سيل البكاء ,وتخرج من بين الشهقات كلمات مبتورة :
– رامي لقد قررت مغادرة هذه الدنيا ..لقد قررت أن أضع حداً لحياتي فيها ..!
-… !
– طلبت لقائق لأودعك .. أنت الوحيد في دنياي الذي شعرت أني بحاجة إلى وداعك ..!قالت دون أن تنتظر ردي ..
– لا تستطيعين ..!
– … !
– أنت لاتملكين الجرأة على فعل ذلك ..!
– لقد وهنت قواي , لم تعد قادرة على حمل مستقبل ثقيل , بعد أن حطمتها عذابات ماض مسفوح .
– ألم أقلك أنك لا تستطيعين ..!؟
– لماذا .. !؟
– لو أنك تملكين هذه القوة .. لهربت من جحيم الماضي الذي كنت مصلوبة فيه ..!
– كيف كنت أترك أولادي وأهرب ..!؟
– أولادك ما زالوا ..
قامت من مكانها , وتناولت حقيبتها وغادرت , تلاحقها تفجرات بكاء محموم .
*************
بدأت عيناي تستشعران طريقهما ,بين كتل الضباب الذي كان يلف المكان ..من بين غطاءاته ,بدأت تتشكل أمامي صورة .. الوجه ثم شيئا فشيئاً بدأت تتشكل تفاصيله : الجبهة ..العينين ..الأنف .. الفم الصغير, الذي يتوه في إبتسامة تائهة .. الشعر الأسود الفاحم ,الذي أكمل تدويرة الوجه المخطوف البياض ..
-أنتِ ..!؟ تسللت من بين شفتي الواهنتين.
– لا تقل شيئاً ..! فأنت بحاجة إلى راحة تامة .
– ولكن أين أنا ..!؟ وماذا حدث لي ..!؟
– تعرضت لحادث طرق ..وأنت في المستشفى ..وأنا بجانبك ولن أتركك ..!
رافقتني لبنى ,طيلة أيام مكوثي في المستشفى .. غير مكترثة بكل الهمسات واللمزات والنظرات ,التي كانت تستهجن وجودها مع رجل غريب .
في إحدى الليالي,بينما كانت تجلس بجانبي ,وكان ثالثنا الصمت , الذي توحد مع ثقل السكون, القابض بخناق المكان, وإذا بها تنفجر بسؤال ضربني في مقتلي :
– لماذا لم تتزوج حتى الآن ..!؟ تجمدت كأن عاصفة ثلج هاجمتني ..
وبعد جهد وتمرغ في الوحل ,الذي علقت فيه, قلت ما إستطعت سلخه ,من بين شفتي المتجمدتين :
– لا أدري ..!وعدتُ لأحتمي في أحضان تجمدي ..
– ولكنك بلغت الأربعين ..! قالت لتعيدني إليها , من هروبي منها.
– أسباب كثيرة متشابكة .. ناتجة عن متاهات ,لا أعرف بداياتها.
– هل ما زلت تحبني ..!؟ رمتني بسؤال آخر ما كنت أتوقعه .
– لم أتوقف يوماً ..!
– وأنت أيضاً ..!!؟
– لنبدأ من جديد ..
– ولكنك عازمة على وضع حد لحياتك ..!
– كان هذا قبل أن تصدمك السيارة ..!ردت وعيناها تسبحان في أحضان عيني .
قصة بقلم : يوسف جمّال – عرعرة
قصه بتجنن بارك الله فيك