مشهد من نقد الشعر القديم

تاريخ النشر: 22/10/16 | 8:13

مشهد من نقد الشعر القديم:

كان نابغة بني ذبيان حَكمًا في الشعر، وكانت تُضرب له قبّة من أدَم (من جلد، وقيل هو أحمر) بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسّان بن ثابت وعنده الأعشى، وكان قد أنشد الأعشى شعره.
ثم حضرت الخنساء، فأنشدته قصيدتها التى مطلعها :

” قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ … أَم ذَرَّفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ ”

حتى انتهت إلى قولها:

وَإِنَّ صَخرًا لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِـهِ … كَأَنَّهُ عَلَــمٌ فـي رَأســِهِ نــارُ
وَإِنَّ صَخرًا لَمولاِنا وَسَيِّدُنا … وَإِنَّ صَخرًا إِذا نَشتو لَنَحّارُ

قال النابغة: لولا أن أبا بصيرٍ (يقصد الأعشى) أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، أنت والله أشعر من كل ذات مثانة (موضع الولد من الأنثى- أي أشعر النساء) !!
قالت الخنساء: ومن كل ذي خُصيتين. (كناية عن الرجال- كذلك).

فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:

لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى … وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَابني مُحَـــرِّقٍ … فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِنا اِبنَما

معنى البيتين أن حسان يفخر بقومه اليمانيين وكرمهم، وأن لهم جفانًا ضخمة- أي أوعية ضخمة للطعام، تُنصب فى الضحى ليأكل منها الناس، وفى نفس الوقت فهم شجعان وأسيافهم تقطر دمًا من كثرة نجدتهم للناس.
ثم يفخر بأنهم أهل لهذين الحيين (بني العنقاء) و (ابني محرق) فأكرم بنا نحن الأخوال، وأكرِم بالأبناء!
وكلمة (ابنما) تعنى ابن، ويجوز زيادة (ما) فيها .

قال النابغة:
إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك.

وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت- “الجفنات”، فقللت العدد، ولو قلت “الجفان” لكان أكثر.
وقلت- “يلمعن في الضحى” ولو قلت- “يَبرُقن بالدجى” لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا.
وقلت- “يقطرن من نجدة دمًا” فدللت على قلة القتل، ولو قلت “يجرين” لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسرًا منقطعًا”.

(أبو الفرج الأصفهاني- “الأغاني” ج 9، ص 384 -طبعة دار الفكر)

كان نقد النابغة واضحًا من الناحية الفنية، فهو ينبه إلى أن حسان لم يوفق فى اختيار الألفاظ المناسبة التي يجب أن تدل على معانى الكثرة والمبالغة.
كما نقَـده فى معنى من المعاني، وهو أنه فخر بأبنائه ولم يفخر بآبائه، والعادة عند العرب أن يفخر المرء بآبائه، ويدع لأولاده الفخر به.

ذكر المَرزُباني في (المُوشَّح)، ص 76 قصة النابغة مع حسان- دون أن تكون الخنساء طرفًا فيها، فالنابغة استمع إلى الأعشى فحسان، ثم علق على الأخير: “أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك”.
كذلك ينقل المرزباني الرواية عن الصولي بغير اختلاف ما. ثم يضيف لنا فيها إعجاب الصولي بنقد النابغة:
“فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل على نقاء كلام النابغة وديباجة شعره…..”، م.ن.

على النقيض من ذلك دافع قُدامة بن جعفر فى كتابه (نقد الشعر) عن بيت حسان الأول فقال :-

“. …فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: “الغرّ”- أن يجعل الجفان بيضًا، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغرّ- المشهورات، كما يقال يوم أغرّ ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: “يلمعن بالضحى”، أنه لو قال: “بالدجى”، لكان أحسن من قوله: “بالضحى”، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائمًا تلمع بالليل ويقلّ لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال نارًا.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: “يجرين”، خير من قوله: “يقطرن”، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دمًا، ولم يسمع: سيفه يجري دمًا، ولعله لو قال: يجرين دمًا، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به…..”.
قدامة بن جعفر (في نقد الشعر)، ص 64.
مع ذلك فهناك من شكك بالقصة كلها، فهذا سيبويهِ يلمح إلى ضعفها، فقد ورد في (خزانة الادب)- الشاهد 594، ج 8 / 106 ما يلي:

“على أنَّهُ إنْ ثَبَتَ اعتراض النابغة على حسَّان بقوله: قَلَّلْتَ جِفَانَكَ وسيوفَكَ؛ لكان فيه دليلٌ على أنَّ المجموع بالألف والتاء جمعُ قِلَّةٍ)، وعلَّقَ البغدادي عَقِبَ قول سيبويه: (وهذا طَعْنٌ منه على هذه القصَّةِ).

كذلك نجد الزجّاج يشك في القصة كلها، نقل عنه البغدادي في (الخزانة) ج 8 / 107:
“وهذا الخبرُ عندي مصنوع، لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة… قال تعالى {وهم في الغرفات آمنون}، فالمسلمون ليسوا في غرفات قليلة”.

قال البغدادي ص 108:

“وكان أبو علي يُنْكِرُ الحكايةَ المَرْوِيَّةَ عن النابغةِ، وقد عرضَ عليه حسَّان شعرَهُ، وأنَّه لما صار إلى قوله لنا الجفناتُ الغُرُّ، البيت، قال له النابغةُ: لقد قَلَّلْتَ جِفانَكَ، وسيوفَكَ!
قال أبو علي: هذا خبرٌ مجهولٌ لا أصلَ له، لأن الله تعالى يقول {وهم في الغرفات آمنون}”- سبأ، 37.

ثم إن القول إن حسَّان افتخر بمن ولدتْ نساؤهم ولم يفتخر بآبائه وبقومه، هو غير دقيق، ففي القصيدة نفسها فخر بقومه:

وكائنْ ترى من سيد ذي مهابة *** أبوه أبونا وابنَ أخت ومَحرما
بكلِّ فتىً عاري الأشاجع لاحهُ *** قِرَاعُ الكُمَاةِ يَرْشِحُ المِسْكَ والدَّما
إذا استدبرَتْنا الشَمْسُ دَرَّتْ مُتُوْنُنَا *** كَأَنَّ عُروقَ الجَوْفِ يَنْضِحْنَ عَنْدَما .

فانظر الى هذا الفخر بقومه، وكيف جعلهم أُسودَ الشراة يلطمون كبشَ القوم لطما؟! بل جعل العرق الخارج من أجسادهم كأنه المسك، إذ كانوا يعتقدون قديمًا أن دمَ الملوك له ريح المسك، فهو يرفع قومه الى درجة الملوك.
فكيف خفي ذلك على النابغة إن صحّت الرواية؟

ثمة ملاحظتان أخريان:
* من المعروف للغويين أن جمع المؤنث السالم والأوزان فِعْلة، أفْعال، أفْعُل، أفْعِلة هي جموع قلة، ولكنها إذا حُلّيت بلام التعريف أو إذا أضيفت فإنها تفيد الكثرة، لذا فالجفنات وأسيافنا جمعا كثرة، وليس هناك ما يعيب حسان لغويًا.
ثم إن جمع القلة قد يستخدم للكثرة، وجمع الكثرة قد يستخدم للقلة، وهذا يسمى “استعمال النيابة”.

(انظر علي رضا “المرجع في اللغة العربية ج1، ص 132- مادة جمع التكسير، وكذلك ج3، ص 227.)

حسان إذن يصف قومه بالبأس والكرم، ولا يقصد إطلاقًا أن يصفهم بقلة ما يمدحهم به، وهذا من نافلة القول.

* مما يثير الغرابة في رواية الأغاني وسواها أن النابغة يقول:

“لولا أن أبا بصيرٍ أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس….. “.
فهل النابغة يحكم بالأفضلية تبعًا لتأخير القراءة أو لسبقها؟
يؤكد تساؤلي ما لاحظنا أن الأعشى كان “مغيّبًا” في الحوار حول أفضلية الخنساء أو حسان.

أخيرًا، فإن القصة تبقى طريفة تدل على النقد العربي في بداياته، فهذا المشهد مسرحي تمامًا.

كما تدل القصة كذلك على مكانة المرأة الجاهلية التي تصرّح بكناية جنسية جريئة كأنها عبارة عادية تطلقها وتتحدى، ولا تبالي.

وتدل ثالثًا على اختلاف الروايات، فثمة روايات أخرى يزيدون فيها في النقد الموجَّه لحسان، منها استخدام (الغرّ)، و (دما) و (أسيافنا) …إلخ

مع ذلك، فثمة من جعل الرواية كلها موضع شك وتساؤل.

ب. فاروق مواسي

faroqmwasee

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة