القرآن ضوء لامع
تاريخ النشر: 02/12/16 | 0:00الكون كتاب يفشي كل سطر فيه سرًّا من أسرار الملأ الأعلى،غير أن سطور هذا الكون وأوراقه ستبقى مبعثرة ومشتتة حتى يأتي اليوم الذي يتحول فيه القرآن إلى نور ينهمر على وجه هذا الوجود.
ويُجمع الناس -عدا أصحاب الفكر التقليدي- أنه عندما أشرق القرآن كشمس ساطعة زالت الغيوم السوداء التي كانت تجثم على الدنيا، وظهر الوجه الضاحك للوجود، وانقلبت جميع الأشياء إلى فقرات وجمل وكلمات لكتاب مؤنس ومبهج لقارئه.
عند سماع صوته انهمرت الأنوار على عيون القلب، وبدأت المشاعر التي فارت في الأرواح، والألسنة التي أصبحت ترجمانا لهذه المشاعر بإنشاد أناشيد النور.
أجل!… فاعتبارًا من اليوم الذي أضيئت به العيون والقلوب، كم من لغز في الكون كان ينتظر الحل منذ آلاف السنوات، وكم من مشاكل معقدة متداخلة بعضها مع البعض الآخر كانت تنتظر الحلول حلت الواحدة منها إثر الأخرى، وظهرت العلاقة الصحيحة بين الإنسان والوجود والخالق واضحة وضوح البدر التمام، ولبست كل الألغاز والمعميات لباس المعاني وانتظمت في مدارات الحكمة.
وعندما كان القرآن يتنزل إلى الدنيا بموجات مختلفة من الأنوار لم يصرف أصحاب القلوب النيرة نظرهم عنه أبدًا، ولم يلتفتوا عنه، بل ارتبطوا به بكل جوارحهم وأرواحهم…
أجل !… بينما كان ينزل من السماء كشلال ليملأ القلوب العطشى، فتح أصحاب القلوب الواعية صدورهم له ولم يضيعوا قطرة واحدة منه.
استطاع هذا القرآن أن يوصل صوته إلى أبعد زاوية من زوايا الدنيا في قفزة واحدة، وأن يسكت كل أصوات الشؤم، وأثار في كل قلب ٍ يبتغي الحق ولا يملك فكرًا مسبقًا عواطف جياشة كأنها أصوات خرير الكوثر، وأطفأ في القلوب التي فتحها نيران الهجر، وفجر في كل روح أمل الوصال والشوق إليه. الطبائع الباردة تحرك فيها نبض الحرارة، أما القلوب المتولهة بحب الأبدية والخلود فقد أنست به وأطمأنت إليه.
وإذا كان هناك من بقي جديدًا ونضرًا على الدوام في هذه الدنيا الفانية التي يقدم فيها كل جديد ويبلى فيها كل نضر، ويبهت فيها كل لون، فهو القرآن. فهو الكتاب الوحيد الذي استطاع أن يقف منذ نزوله في وجه جميع الأعاصير والعواصف التي هبت، والأمطار والثلوج التي سقطت، وفي وجه جميع الظروف القاسية التي ظهرت وبدت أمامه، واستطاع أن يحافظ على أصله ككتاب سماوي وحيد دون تغيير أو تحريف . لذا فما أن يرتفع صوت القرآن من حنجرة قارئ حتى نشعر وكأنه نزل الآن من السماء وكأننا مدعون إلى وليمة إلهية آتية من الجنة، وعندما ينثر اللآلي تشعر القلوب المؤمنة أنها قد سمت واستغنت عن جميع ثروات الدنيا.
عندما يسمع صوته في أي بقعة يبدو كل كلام وكل تعبير آخر نوعًا من الضوضاء لا غير. وفي البقاع التي ترتفع فيها أعلامه يغمر النور قلوب المؤمنين، وتنزل الحجارة على رؤوس الشياطين، ويعيش الربانيون هناك أعيادًا دائمة.
ربط الله تعالى رب العالمين ذو القوة المتين سعادة الدارين بإرشاده وتوجيهه. فلا يمكن الوصول إلى الهدف من دونه، ومن يستغنِ عن إرشاده ووصاياه ولا يلتجئ إليه يضِع في الطرق ويتِه.
هو آخر وأكمل كلام يهدي من اتبعه وسار في إثره، ويوصله إلى الغاية والهدف. ومع أنه يتلى بكل سهولة صباح مساء فلا يستطاع الإتيان بمثله. ومن يستمع إليه بأعماقه يشعر أنه قد سمع كل ما يجب سماعه، وأصوات هؤلاء تتداخل على الدوام مع أنفاس الملائكة.
بل إن العصور المظلمة التي جال فيها ظله أصبحت عصورًا ذهبية. أما العصور التي تعرفت به عن قرب وعاشته فقد تحولت إلى ما يشبه الجنة. من وهب نفسه له سما إلى مرتبة الملائكة، وأصبح كل ما في الكون من أحياء وجماد أليفًا عنده.
من فهم القرآن حق الفهم تصبح البحار الواسعة كقطرة ماء، ومن تنور بنوره تتحول الشمس تجاهه إلى مجرد شمعة. أنفاسه التي نشعر بها في أعماق قلوبنا تحيينا، وضياؤه الذي يغمر الأشياء يجعل كل موجود برهانا للحق تعالى.
من يصله صوته -وإن كان في أبعد أرض وأخفاها – تدب فيه الحياة وكأنه سمع صور إسرافيل.
والقلوب التي تستمع لصوته وبلغته الخاصة به تتوثب حركة ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية : 20]. أجل هو بصائر ورحمة للذين لم تمت قلوبهم.
لم يكن القرآن في أي يوم من الأيام -مثل غيره من الكتب- كتابًا بقي ضمن إطار زمن أو مكان معين من طفولة الإنسانية. بل هو معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة، وتلبي جميع المطالب الإنسانية بدء من العقائد وانتهاء بأصغر الآداب الاجتماعية. وهو يستطيع حتى اليوم تحدي الجميع وتحدي جميع المتحديات.
قام في العهد الذي نزل فيه بمواجهة جميع اعتراضات مخاطبيه، وتحداهم أن يأتوا بكتاب، أو حتى بسورة أو بآية من مثله. ذُهل منه المعارضون الأولون بأنه ساحر، وأنه له، وسحروا من بيانه ومن بلاغته، حتى اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وأنه شاعر. وإزاء أخباره الغيبية التي أتى بها من وراء الأستار فقدوا صوابهم فقالوا عنه إنه كاهن، ولكنهم عجزوا تماما عن الإتيان بمثله. أي إن أبطال الشعر والنثر والخطابة وأعلامها من معارضيه اضطروا إلى الصمت والخرس والانسحاب إلى جحورهم.
أما منكرو هذا العصر المعاندون فعلى الرغم من توارثهم روح المعارضة والإنكار من هؤلاء السابقين، إلا أنهم على الرغم من أنواع الديماغوغية والديالكتيك وجميع أنواع المجابهة والاعتراض لم يستطيعوا انجاز شيء خارج إظهار العجز والغضب. تغير الزمان وتعاقبت العصور واختلفت القناعات ووجهات النظر، وحميت حدة المعارضة والصراع، ولكن القرآن لا يزال واقفًا كالطود الشامخ وكالبحر الواسع وكالسماء التي لا تحدها حدود تجاه جميع المعارضين وتجاه جميع الاعتراضات. وهو مستمر في بث روعه وروعته في القلوب، وفي هداية العقول.
منذ نزوله قبل أربعة عشر قرنًا وتربعه على عروش قلوبنا تقلبت عهود كثيرة ظهر فيها العديد من مشاهير البلغاء، ومدارس فكرية عديدة، ونظم عديدة وفلسفات مختلفة. وقد حاول العديد منها هدم القرآن واستعملوا لهذا الغرض كل ما لديهم من وسائل ومن سحر الكلام من بيان ومن بلاغة لهدم القرآن، وخاضوا على الدوام غمار الحرب معه، ولكنهم ُ غلبوا على الدوام وارتدوا على أعقابهم خائبين أمام الأسس القوية المتناسقة والمنطقية التي وضعها للكون وللوجود وللإنسان، والإيضاحات العميقة لهذه العلاقات.
أجل لقد أتى القرآن بنظرة متميزة للكون وللأشياء وللإنسان بأسلوب غاية في الروعة والسحر. لأنه يتناول الإنسان ككل ضمن الوجود بأكمله، ولا يهمل أي شيء، بل يضع كل شيء مهما كان صغيرا في مكانه المناسب. الأجزاء فيه مرتبطة ارتباطًا وثيقا ودقيقا بالكل… والأجوبة المختلفة عن أدق الأسئلة التي تخطر على بال الإنسان في هذا المعرض الكوني الهائل ترد فيه. وبينما يعمد إلى تحليل أدق المسائل الموجودة سواء في عالم الشهود أم فيما وراء الأستار حتى أدق تفاصيلها، لا يدع هناك أي تردد أو شبهة أو علامة استفهام في العقول…
أجل! إن القرآن في جميع هذه التفاصيل الدقيقة التي يوردها لا يدع أي ثغرة يؤتى منها لا في العقول ولا في القلوب ولا في المشاعر ولا في المنطق، لأنه يحيط بعقل الإنسان وبأحاسيسه وبمشاعره وإدراكه بشكل يجعل الإنسان وهو تحت تأثير هذا العشق يكاد يخرج من هويته الإنسانية ساميًا إلى الذات العلية.
ومثل جميع السائرين في الطريق إلى الله تعالى ينتقل من الدهشة إلى الذهول ومن الذهول إلى بحر من العواطف المتلاطمة التي تجعله ينحني من الخشية وهو يقول: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف : 109].
إذن فهذا هو القرآن… المفتاح الذهبي لخزائن الكلمات التي لا تنفد ولا تنتهي، والإيمان هو شفرات أو أسنان هذا المفتاح السحري. ولا أعتقد أن من يملك مثل هذا المفتاح وهذه الشفرات سيحتاج إلى أي شيء آخر بخصوص مسائل القواعد والأسس العامة المتعلقة بالإنسان والوجود والكون.
لقد أحدث القرآن في أول عهده بالنزول وأول عهده بتشريفه الدنيا تأثيرًا لا يمكن تصوره في الأرواح وفي العقول أيضا، بحيث أن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوه النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها لا نحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من معجزاته. ولا يمكن العثور على أي أمثال لهم في مستواهم من ناحية التدين والتفكير وأفق الفكر والخلق ومعرفة أسرار العبودية.
فالحقيقة أن القرآن قد أنشأ جيلا من الصحابة آنذاك لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة. وحتى اليوم فهو ما يزال ينير قلوب المتوجهين إليه الناهلين من نبعه، ويهمس في أرواحهم أسرار الوجود.
والذين يدعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية إدراكهم تسبح في جوه الذي لا مثيل له سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد بأنه قد تغير بمقياس معين وأنه أصبح يعيش في عالم آخر.
أجل! ما أن يتوجه إليه الإنسان من كل قلبه، حتى لا يستطيع بعد ذلك الخلاص من تأثير سحره وجاذبيته.
إن القرآن يتناول الطالب الذي جذبه نحوه فيعجنه ويشكله من جديد ويجعل منه شخصًا آخر تمامًا… شخصا رقيقًا ذا حساسية مرهفة، إلى درجة أن الإنسان يتأكد بأن أي تغيير لا يكون إلا به، بل يمكن في أحيان كثيرة تحقيق العديد من الأمور والتي كان يخيل من قبل أنها مستحيلة التحقيق، حيث تتحول هذه الأمور في ظله إلى حالة اعتيادية مما يذهل الجميع.
والقرآن يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ [الرعد : 31].
لأنه أجرى في القلوب والعواطف والأحاسيس وفي العقول تأثيرا بالغ المدى بحيث أن هذا التأثير لا يقل غرابة عن تسيير الجبال أو عن تقطيع الأرض أو تكليم الموتى، أو عن إحياء أجساد بالية منذ آلاف السنين.
كان كل صحابي بطلًا في عالم القلب والروح، وكان مجتمع الصحابة مجتمعًا متميزًا مباركًا نشأ في ظل فيض القرآن وبركته. استطاع هؤلاء الصحابة إجراء تأثير عميق وكبير على قسم كبير من العالم، حتى إن عملهم هذا ما كان يقل من ناحية الروعة والخارقية عن قلع الجبال عن أماكنها أو سقي الأموات ماء الحياة أو ربط السماء بالأرض. وما كان هناك أي مجتمع آخر يمكن مقارنته بمجتمعهم الفريد هذا
فهؤلاء الصحابة الذين عُجنوا بروح القرآن وتشكلت أنفسهم حسب مبادئه السماوية، أي أصبحوا من ناحية الروح والمعنى ترجمانًا للقرآن، استطاعوا تحقيق المستحيلات وفتحوا به طرق الخلود أمام الأرواح الميتة، وغيروا وجه الدنيا، ونقلوا الإحساس بلذة عالم الروح إلى المجتمعات التي احتكوا بها وتعرفوا عليها، وكسروا الأقفال الموجودة على الأفكار وفوق الأفواه، ورفعوا الإنسان مرة أخرى إلى المرتبة الرفيعة التي رفعه الله إليها وشرفه بها، وقدموا نظرة جديدة وتفسيرًا جديدًا لموقع الإنسان في الكون بين الموجودات، وركزوا الأنظار على السر العميق الموجود بين الأوامر التكوينية وبين القواعد الشرعية، شارحين وموضحين الغاية والحدود النهائية للقلب والإرادة والأحاسيس والمشاعر، ومحركين وباعثين أصول وأسس القيم الكامنة والنسبية الموجودة في روح الإنسان، لكي يوجهوا الإنسان العادي إلى طريق الإنسان الكامل، فنجحوا في جعل الإنسان يحس في كل ما يقع بصره عليه أو يصل إليه بأحاسيسه، أو يحس به في قلبه أصابع الإرادة والقدرة الإلهية اللانهائية، أي ربط كل شيء وإرجاعه إلى صاحبه الأصلي.
إن كان المؤمن مرتبطًا بهذا المقياس بقلبه وروحه وبمشاعره وبأفكاره وبعقله بالله يكون قد ابتعد تمامًا عن سطحية الارتباط بالجسد وبمطالبه، وينظر إلى الحياة من زاوية أخرى ويرى لها طعمًا آخر، أي ينتبه إلى ما وراء أفق هذه الحياة. ومثل رجل الحقيقة هذا يرى ويشاهد في كل شيء في هذا الوجود العلم الإلهي مرفرفًا عليه، ويد القدرة عاملة فيه، فيحس برجفة، وتتداخل في نفسه مشاعر الأمل والقرب مع الخشية والرهبة. ومع كونه يعيش في الدنيا إلا أنه يحس وكأنه في ذروة من ذرى الآخرة. عندما يأخذ نفسًا يحس بالأمل والترقب، وعندما يعطي نفسًا يحس بالمخافة والمهابة ويتجول دائما في الساحة التي رسمها القرآن ويعيش حياته في ظلال القرآن وألوانه.