سارة وسارة!
تاريخ النشر: 16/08/16 | 10:04منذ قدومها للسكن في حيفا، قررت نرجس أن تكون سندًا لزوجها، فالمعيشة في هذه المدينة مكلفة جدًا، خصوصًا إذا أردت أن تعطي لأبنائك حياة عصرية تتماشى مع المجتمع الجديد. وضعت نرجس نصب عينيها العمل في تنظيف البيوت. رمت شهادتها التي حصلت عليها والتي لن توفر لها سوى نصف وظيفة في أحد المكاتب، فالعمل بتنظيف البيوت يدر عليها أموالا لا بأس بها، وتستطيع إن عملت بكد ومثابرة أن تحصل في الشهر على مبلغ يفوق راتب زوجها..
اعتمدت نرجس أسلوب اصطياد زبائنها بواسطة زبائنها أنفسهم، إذ كانوا يوصون بها لأصدقائهم على أنها أمينة ومخلصة في عملها. يومًا بعد يوم، أصبح لديها عدة بيوت، تقوم بتنظيفها بشكل دوري خلال الأسبوع، حتى أنها اكتفت بما لديها، ولم تعد تبحث عن المزيد..
***
قبل أسبوع، توفيت إحدى زبوناتها، وقرر زوجها أن ينتقل للسكن في مركز البلاد، وأصبح لديها يوم بدون عمل. فعادت تسأل زبائنها عن زبونة جديدة تملأ فراغ ذلك اليوم..
في نهاية الأسبوع، قبل دخول يوم السبت، تتسوق نرجس من سوق الفقراء، حيث تجد كل ما تريد بأسعار زهيدة. قررت نرجس في يوم الجمعة الأخير، أن تطعم زوجها وأولادها سمكا، فاشترت نوعين من السمك، قام السمّاك بتنظيفها كما يجب، ثم لفها بورق جريدة ووضعها في كيس نايلون أسود.
في البيت، وأثناء تحضيرها للطعام، لفت نظرها وهي تخرج السمكات من ورق الجريدة، إعلان مبوّب، يطلبون فيه منظفة لأحد البيوت. لم تتوان نرجس، توقفت عن تحضير الطعام وقامت بالاتصال برقم الهاتف المدوّن في الاعلان. رد عليها صوت امرأة وأبلغتها بأن اسمها سارة وهي بحاجة لمن ينظّف بيتها الكبير ويمكنها أن تلتقي بها يوم الأحد..
***
لم تنتبه نرجس أنها تأكدت من العنوان التي قالته لها سارة على الهاتف، لكنها ذهبت يوم الأحد سيرًا وكأنها تعرف المكان جيّدًا.. عندما وصلت للبيت، شاهدت سيّدة مسنّة تطل من الشباك وتلوح لها بيدها مرحبة بها، وما أن وطأت قدمها عتبة البيت، حتى شعرت بطاقة ايجابية وغريبة تلفها. استقبلتها سارة بالترحاب، البيت جميل، فيه غرفتان صغيرتان عند المدخل، عبارة عن مرآب للسيارات، ثم حديقة واسعة جدًا وبعدها مدخلان إلى البيت تصلهما بعد أن تصعد عدة درجات.
اصطحبت سارة نرجس لجولة داخل البيت الكبير. في كل زاوية كانت نرجس ترى أشياء غير التي تشرحها سارة عن التنظيف، فعندما دخلت غرفة النوم الجميلة والمشرفة على ميناء حيفا، تخيلت امرأة في منتصف التسعينات، تنام على فراشها وهي بالنزع الأخير، حولها أشخاص يتناوبون العزف على البيانو، وفهمت من حديثهم أنهم تلاميذها، يقومون بالعزف حسب طلبها واستمروا بذلك حتى فارقت روحها الجسد الكهل، فأغمضت عينيها والبسمة على شفتيها..
قالت سارة منبهة: أين سرحتِ يا نرجس؟
أجابتها نرجس: كم كان عمر صاحبة البيت الأصلية عندما توفيت؟
– تقصدين سارة ليفوفيتش؟
– أجل.
– خمسة وتسعون عامًا. هل تعرفينها؟
– أعرفها جيّدًا..
– مستحيل، لقد توفيت حتى قبل أن تولدي.. لا بد أنك قرأت عنها في مكان ما؟
– هذا ممكن، فأنا لا أذكر..
ابتسمت سارة وقالت: صاحبة البيت كان أسمها سارة وأنا اليوم صاحبة البيت وأسمي سارة، لا بدّ أن هذا تصادف غريب. اشتريت هذا البيت من عائلة ليفوفيتش اليهودية التي سكنت فيه منذ أكثر من (60) عامًا، وكان ربّ الأسرة قاضيا في المحكمة المركزية في حيفا وزوجته كانت عازفة بيانو مشهورة وتدرّس عزف البيانو في بيتها الكبير على سفح جبل الكرمل.
قالت نرجس وهي متشككة: هل قام طلابها بالعزف لها وهي على فراش الموت؟
سارة: صحيح، ولكن كيف عرفت ذلك؟! أنت من المؤكّد قرأت عنها في مكان ما؟!
– لا أذكر، لكن لدي سؤال آخر.. هل يوجد على السطح شقتان صغيرتان منخفضتان، خصصتا فيما مضى للخدم؟
استغربت سارة جدًا، وقالت: هل كنت هنا من قبل؟!
– لا، ولكنني كما يبدو أعرف جميع الأمكنة، ربما يكون الأمر مجرّد حلم راودني.. فالبيت على ما اعتقد مكون من طابقين، مساحة كل طابق (180) متر مرصوف ببلاط قديم وجميل جدا، لم تر عيني بيتًا أجمل منه، فقد صممه آنذاك، مهندس انجليزي من “التمبلريم” في حيفا في زمن الانتداب البريطاني، لمدير الميناء في حيفا، وهو صاحب نفوذ كبير، اختار هذا المكان ليطل بنفسه ويشرف على الميناء حتى عندما يكون في بيته.
– ثقافتك ظاهرة للعيان، فلا داعي لإخفاء ذلك.. انك تنظفين البيوت، لا يعني أنك غير مثقفة!
– صدقيني يا سارة أنه ليس لديّ فكرة، من أين أعرف كل ذلك. ففي داخل البيت غرف عديدة ولكنك تستطيعي أن تتخطي الغرف وتجولي في البيت دون أن تزعجي أصحابه، وهذه الممرّات صنعت خصيصًا للخدم في بيت هذا السيد الانجليزي الثري. تحت البيت، هناك سرداب بنفس مساحة البيت، ولكنه منخفض العلو وهو عبارة عن بئر مياه تتجمع فيه مياه الشتاء لحاجات أهل البيت، واليوم هو فارغ مع أن مواسير المياه ما زالت موجهة إليه.
– هل حصل لك أمر غريب كهذا من قبل؟
– لا، ولكن أهلي أخبروني بأن الأمر الغريب الوحيد الذي حصل معي هو أنني تحدثت الانجليزية بطلاقة وأنا طفلة، حتى قبل أن أدرسها في المدرسة.
قالت سارة وهي تفكر بشيء ما: يبدو أن ما يحصل لك حصل معي نوعًا ما، فقد اشتريت هذا البيت من عائلة ليفوفيتش اليهودية التي سكنت فيه منذ أكثر من (60) عاما، وعندما رأيت البيت أول مرّة كنت أشعر كأنني رأيته من قبل.. أنظري للأبواب والشبابيك، فهي من الخشب القديم. الهواء في بيتها منعش ولذيذ. أمام البيت ثلاث حواكير واسعة ومدرجة على سفح الكرمل، مزروعة بأشجار الحمضيات، ويمكن رؤية مدينة عكا وأيضا رأس الناقورة وكل منطقة الجليل من شرفة البيت.. كل هذا كنت قد رسمته لنفسي قبل أن أشتري البيت، وكنت على يقين بأنني سأسكن بمثل هذا البيت.. لا أعرف ماذا يحدث، ربما الاشباح تسكن فيه، ولكنني لم أرى شيء مزعج، فأنا أتحرك براحتي وأحب كل زاوية فيه.. الأغرب من كل ذلك، أنني عزفت على هذا البيانو بمهارة، رغم أنني لم المس البيانو منذ أن كنت طفلة صغيرة، عند أحدى صديقات والدتي، التي كانت تدرّس العزف.
أخذت سارة نرجس من يدها وأدخلتها إلى غرفة حماها المسن فحيّته، وبدا بكامل صحته رغم أنه طريح الفراش. له غرفة جميلة ونظيفة ومكيّفة الهواء.. قرّرت سارة وزوجها نقل حماها المسن ذي الرجل المقطوعة، ليسكن معها في بيتها ليكون بقربهما وتحت رعايتهما.. ردّد حماها أمام نرجس: أنا ما زلت على قيد الحياة بسبب وجودي بينكم يا سارة.
همست سارة لنرجس وهي خارجة من الغرفة: بعنا بيت حماي وهكذا استطعنا تجميع الأموال وشراء هذا البيت الذي وصل ثمنه إلى ثمانية ملايين شاقل، وبمساعدة راتب حماي التقاعدي استطعنا تسديد ديون البيت، ولكن البيت بقي على حاله لأننا لا نملك المال من أجل إصلاحه وترميمه من الداخل، وما زال بيت سارة عازفة البيانو كما هو منذ أكثر من ستين عامًا، وقد ترك لنا أبناء سارة العازفة مكتبة غنية بالكتب الموسيقية وتركوا لنا “ختم” باسم والدتهم لنتمكن من إهداء أي كتاب من كتبها شرط أن نضع ختمها عليه.
سألتها نرجس: أين حماتك؟
– حماتي ماتت منذ سنوات طويلة.
– إذًا هي أمك، أين هي؟
– أمي أيضا ماتت منذ زمن بعيد.
– ومن تكون تلك السيدة ذات الضفائر الطويلة التي استقبلتني ملوّحة بيدها من النافذة عندما قدمت؟!
– لا يوجد في هذا البيت سيدة غيري وليس لدي ضفائر!!
– لا عليك، يبدو أنني كنت واهمة..
ثم أردفت نرجس وهي تنظر مباشرة لعيني سارة: ألا تعتقدين بأن هناك رابطا بينك وبين سارة الأصلية صاحبة هذا البيت؟
فأجابتها سارة: هل تؤمنين بذلك؟
– طبعا أومن، واعتقد بأنك ستعيشين مثلها حتى 95 عاما.. فأنت طيبة النفس وكريمة ومحبة وصادقة، وما سمعته منك عن سارة الأصلية يؤكد لي أنها تشبهك إلى حد ما.. نظرت سارة إلى نرجس مستغربة وقالت: لن تصدقي ما سأقوله لك الآن.. لقد اشتريت قبل عشرين عامًا أدوات بلاستيكية من شركة “تيبر واير” وهي ذو جودة عالية وقد اشتريت قالبا للكعك كبير الحجم لكنني أضعت غطاءه، ولكنني لم أرم القالب، وكنت قد استعملته على مدار سنوات طويلة. عندما انتقلت إلى هذا البيت وجدت أن سارة عازفة البيانو تحتفظ بغطاء لهذا القالب وكما يبدو بأنها أضاعت أرضية القالب ولكنها لم ترم الغطاء…
جلست سارة ونرجس تحتسيان الشاي، وقد تحدثتا عن العمل واتفقتا على اليوم الذي ستحضر فيه نرجس لتنظيف البيت، لم تشعر الواحدة منهن بأن الشخص المقابل غريب عنه وكأنهما تعرفان بعضهما منذ زمن بعيد، وقبل أن تغادر نرجس، لمحت صورة معلقة في إحدى الزوايا، فسألتها بشكل مفاجئ: من هذه التي في الصورة؟
أجابت سارة: إنها سارة صاحبت البيت الأصلية، كانت معلقة في وسط الصالون، لكن عندما سكنّا هنا، أزحناها إلى تلك الزاوية.
– ألم تلاحظي بأن لها ضفائر؟
– صحيح.. هل تقصدين بأنها هي المرأة التي شاهدتها تلوح لك من النافذة عندما قدمت؟!
– هي بشحمها ولحمها، لكن لا عليك، ودعك من التفكير بذلك، فأنا على عجلة من أمري.. وأريد الذهاب.
رغم الأفكار التي داهمتهما وبعض لحظات الصمت التي كانت بينهما، إلا أن المرأتين سعدتا جدًا لهذه الزيارة وشعرت نرجس كأنها في بيتها فتصرفت معظم الوقت على سجيتها، فقد أحاطتها طاقة ايجابية من هذا البيت خاصّة بعد أن تعرفت على زوج سارة وابنها وحماها المسن، وكانت تتحرّك مثل حمامة ترفرف فوق سفح جبل الكرمل، فلم تحب حيفا يومًا كما أحبّتها اليوم في هذا البيت الجميل.. رافقت سارة نرجس حتى البوابة الرئيسية، وخلال سيرهما التفتتا إلى الوراء بشكل أوتوماتيكي، ثم تسمرتا بأرضهما، فقد شاهدتا سويًا صاحبة الصورة تلوّح بيدها لهما وهي مبتسمة.. نظرتا الواحدة للأخرى وهما فاغرتا الفم، ثم توجهتا بنظرهما نحو النافذة، حيث شاهدتا المرأة، فلم تكن هناك..كانت الجملة الأخيرة التي قالتها سارة لنرجس: أنا أريدك بشدّة هنا، حتى لو لا تريدين العمل في التنظيف، أريدك أن تزوريني دائمًا..افترقت المرأتان، بعد أن اتفقتا على اللقاء القادم..
ميسون أسدي