حلمُ ليلةِ رصد

تاريخ النشر: 22/07/16 | 2:21

الفضاء؛ ذلك الكيان السرمدي الرائع.. سيمفونية الكون الأزلية، تلك التي عُزفت بإبداع مطلق من مبدع لا ينام ولا يغفل.. حيث لا توجد نوتة واحدة في غير موضعها! لطالما ذبت في جماله، وسحرني بكل ما يحويه من روعة، وفي صغري كان هاجسي الوحيد أن أنظر نحو الأفق لأرقب حركة الشمس والقمر، وكانت أقصى متعة لي هي في النظر نحو القمر في أثناء حركة السيارة ليلًا؛ كنت أستمتع بمراقبة تغير اتجاهه كلما اتجهنا يمنة أو يسرة، وشعوري بأنه يلحق بنا في كل مكان كطفل يلهو معنا طوال الوقت..

يخفي الفضاء كمًا هائلًا من الأسرار!! إنه يخفي بين طياته المتعددة قطعًا كبيرةً من المجوهرات سُميت منذ الأزل بالنجوم، واسترشد الناس بها في ظلماتهم.. فبالنسبة للإنسان الأول لم تكن سوى مصابيح معلقة أو قطع من الألماس التي ترصع ظلام الليل الأزلي.. كل شيء في الفضاء ساحر!! كل شيء فيه ينبض بالحياة.. الحقيقة لو حاولنا التحدث عن هذا الكم الهائل من الجمال لأبخسناه حقه.. لا يوجد قطعة في الفضاء إلاّ وتحكي قصة كاملة لمن يهوى سماعها؛ قصة تكونها ونشأتها.. كل جزيء في الفضاء له قصة، وكل نجم – ولد من سديم متناغم الألوان – له حكاية لا يدركها إلاّ هواة الفلك..

النجوم هي أجسام كروية سماوية ضخمة، تتكون من غازات ملتهبة للغاية وتتماسك هذه الغازات بفعل الضغط الشديد لتشكل النجم الفتيّ، وتتفاوت ألوان النجوم بحسب درجات حراراتها؛ فأكثر النجوم حرارة هو النجم الأزرق ويليه الأبيض فالأصفر فالأحمر. وعند ولادة النجوم يتكوّن لدينا نوعان منها، فالنوع الأول ذو الحجم العادي وهو الذي يبدأ كشمسنا أصفر وفيه كمٌّ معقول من الطاقة؛ حتى تبدأ طاقته بالنفاذ ليتحول لعملاق أحمر ثم ينكمش على نفسه ليشكّل لنا سديمًا كوكبيًا وينهي حياته كقزم أبيض، أما النوع الثاني فيولد كنجم أزرق ضخم ذو حرارة عالية للغاية تتخطى النجم العادي بمراحل، ويبدأ تدريجيًا بالتحول لنجم فائق العملقة ومن بعدها ينفجر كالبلون المنفوخ ليكون المستعرات العظمى “Supernova”، وبعدها إما تزداد الجاذبية داخل النجم بشكل كبير ويتحول لثقب أسود يمتص كل شيء يقترب منه حتى الضوء، وإما يتحول لنجم نيوتروني وهذا التغير الأخير يعتمد على الحجم الأساسي للنجم ومقدار الطاقة المخزنة في نواته منذ البداية، فكلما ازدادت الطاقة المخزنة كلما ازدادت احتمالية تحوله لثقب أسود..

تُعد شمسنا من زمرة النجوم الصفراء وهي نجوم شابة لن تلبث أن تفقد طاقتها أو جزءًا منها وتصبح نجومًا عملاقة حمراء. يبدأ النجم الفتيّ حياته في إحدى حضّانات النجوم وهي السدم، ويبتعد تدريجيًا ليبدأ حياته كنجم فتيّ يعتمد في وقوده كليًا على ذرات الهليوم والتي تكونت من اندماج ذرات الهيدروجين الأساسية مع بعضها- كل 4 ذرات هيدروجين تندمج معًا مشكلةً ذرةً من الهليلوم – وتستمر الاندماجات مع ارتفاع الكثافة لنواة النجم وارتفاع درجات الحرارة حتى تصل لعدة ملايين درجة مئوية، وهنا تبدأ التفاعلات النووية بالحدوث فيتكون النجم الفتيّ، وعندما يتوقف النجم عن قدرته على حرق الهيدروجين، يبدأ بتكوين عناصر ثقيلة – كالأكسجين، الحديد، الكربون – عن طريق دمج ذرات الهيدروجين مع بعضها، ونقول عندها أن النجم قد بدأ يشيخ! فيبدأ حجم النجم بالتضخم وتقل درجة حرارة السطوح الخارجية للنجم بينما تبقى النواة متوهجة، وعندها يتحول النجم للون الأحمر، وهذا يدل على أنه أصبح شيخًا ويبدأ بعدها بفقدان طاقته تدريجيًا.

أما بالنسبة لرصد النجوم فكلما اقترب النجم منا وازداد سطوعه كلما كان رصده بالعين المجردة أسهل، حيث يمكن أن ترصد النجوم بدرجة لمعان تصل حتى 5 و 6 قدر ظاهري – وهي آخر درجة تستطيع العين المجردة رؤيتها – أما ما زاد عن هذه القيمة فيمكن رؤيته بواسطة المنظار الفلكي. والقدر النجمي هو مقياس وضعه الفلكي اليوناني هيبارخوس لقياس لمعان الأجرام السماوية والنجوم، وكان هذا في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد رتبت النجوم حسب إمكانية رؤيتها من على سطح الأرض، وهو ما يسمى بالقدر الظاهري “Apparent Magnitude”، وقد قسم هيبارخوس النجوم حسب لمعانها لستة أقسام فكان أعلى النجوم قدرًا يعطى الرقم واحد وبعده في اللمعان اثنان، وهكذا حتى الوصول للقدر السادس. استعمل الفلكي بطليموس القلوذي والفلكيون في الحضارة الإسلامية هذا الترتيب حتى تغير التصنيف بالعهد الحديث حيث أعاد العلماء ترتيب النجوم وجعلوا النجوم الأكثر سطوعًا تأخذ القدر صفر أو تعطى أقدرًا سالبة في بعض الأحيان، واعتبروا أن نجوم القدر الأول تزداد في سطوعها عن القدر السادس بمقدار 200 مرة..

في العصور القديمة حرّكت هذه النجوم خيالات القدماء فنسجوا القصص والخرافات عن كوكباتها الجميلة، وسموها باسماء مختلفة، واستمر الناس حتى يومنا هذا بتلقيبها بتلك الاسماء.. لطالما حركت هذه الكوكبات علماءًا كبارًا لرصدها بالأيام والشهور والسنوات، وبنوا عليها الكثير من الأبحاث والدراسات، بالإضافة لرسمها ووضع الجداول الفلكية التي تتحدث عن لمعانها وأماكن وأوقات ظهورها.. وقسّمت هذه الأوقات حسب فصول السنة الأربعة؛ فلكل فصل كوكباته الخاصة به، ولكل نصف من الكرة الأرضية كوكباته الخاصة به أيضًا..

الحقيقة أنني في صغري لم أر أبعد من بضعة نجوم وشمس وقمر! ووددت لو كنت أعرف معنى هذه الكوكبات، أو لو استطعت يومًا أن أحدق في بضعة نجوم وأشير لها عالمة أن هذه النجوم ما هي إلاّ كوكبة الدب الأكبر، أو الصياد، أو أي كوكبة أخرى.. لكن هذا الحلم كان بعيد المنال، حتى تخطيت مرحلة الجامعة، وبعدها تبلور الحلم بشكل أوضح، وأصبحت معلوماتي أكبر تدريجيًا، حتى وصلت لمرحلة الرصد الفلكي، وما أروعها من مرحلة!

تلك المرحلة عندما تبدأ بترقب الشهب لساعات، حتى ترى ذاك الشهاب اللامع الملتهب يخترق الفضاء بسرعة ليقفز قلبك من مكانه في سعادةّ! أن ترى تلك الروعة ماثلة أمام عينيك في لحظة الاحتراق!! لهي السعادة ذاتها.. عن نفسي كان قلبي يرقص طربًا حين شاهدتها تمر أمام عيناي لأول مرة من حيث لا أدري! في مرحلة الرصد ليس من الغريب أن تجلس على سطح منزلك وأنت تنظر نحو كوكبة الصياد متخذةً رحلتها الأزلية من المشرق للمغرب! وأن تتعرف عليها للمرة الأولى في حياتك، وتجعلها دليلك السياحي بين النجوم، ثم تتعرف على الثريا والقلائص تدريجيًا وتعرف عين الثور وتميز رأسه؛ وليس من الغريب أن تحاول التعرف على قصة كاستور وبولكس – التوأم – وأن تنجح في رؤيتهما أمامك بعد طول عناء، ثم طوال الأسبوع تتدرب على هذا مرارًا!!

قوة الرصد هي أن تملك القدرة على التمييز بين كوكبة الأرنب أو كوكبة الدب الأكبر أوالأصغر.. وأن تملك القدرة على التمييز بين الكواكب والنجوم بالعين المجردة، وتستغرق الساعات في النظر إليها بلا كلل ولا ملل! تلك الساعات الذهبية التي تقف فيها مذهولًا أمام روعة إضاءة الزهرة أو المشتري- ألمع الكواكب في السماء- ، أو أن تراقب الاقترانات الرائعة مثل اقتران ذاك النجم الأحمر مع نجم السمّاك الرامح، لتكتشف أن هذا الأحمر الرائع ماهو إلاّ المريخ! كل هذا يعد لا شيء مقارنة بلحظة استخدامك لمنظارك الفلكي الأول، وتعرفك على سديم الصياد للوهلة الأولى ووقوفك مذهولًا أمام هذا السحر الماثل أمامك بالأبيض والأسود..

k

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة