أن تكتب يعني أن تكون لا أنت

تاريخ النشر: 02/11/13 | 6:44

الكتابة هي قدر، قد يبتدئ بأن يكون مرادف كسرة خبز، ليرتقي لأن يكون طوق نجاة من البله الساكن في هذا الوجود المكتظ بالبشاعة، وأن تكتب بروعة يعني أن تكون بالضرورة شخص يهرب من جنونٍ ما أومن موت ما، والرائعون هم هكذا كما أعرفهم، كائنات داعبت خيوط الجنون والموت ما من مرة، كائنات كان الأصل فيها البلاهة والاعتياد، لكن في لحظة ما يتمزق البعض من وجودهم، فينذرون ما تبقى فيهم لكتابة المفتقد منهم.

في الكتابة شفاءٌ ما، أن تكتب يعني أن تسجل حضورك في هذا العالم.. قل كلمتك قبل أن تموت … هكذا قالها محمد شكري ذات بوح حارق، أن تكتب، لا لأن تكون نجم كتابة، أن تكتب، لا لأن تصير متعهد ثرثرة وأقاويل.. أن تكتب فقط لأن تغتسل من كل الحقارة والبله الذي يتلبسك في كل لحظة تنضاف لك في هذا العالم، أن تكتب لكي تجيب نفسك عن أشياء تخجل من الوشوشة بها لداخلك، أن تكتب لكي تضفي على إمكانك الضئيل شبر تحقق إضافي..

الحياة هي محض كذبة، كذبة جميلة وهلامية لا حقيقة فيها، محض فقاعة لزجة ومنتفخة، تنتفي وتتلاشى مع أول سؤال حارق، كذبة يجب علينا أن نتعايش معها ونتفهمها، أونصنع لنا سردابا فيها، سرداب يحمل مذخراتنا، تلك التي تعطي لوجودنا في هذاالعالم/الكذبة معنى.. وأنا بعيدا عن كل هذا أفعل ذلك، ولي سردابي الخاص، فيه أشياء عديدة، ولي فيه تراجيع وزاد كزاد العابر. لي صوت السديسي الذي أحبه وهو يتلو القرءان بعين دامعة؛ صلاة الفجر في أول رمضان؛ لي جلسات أصدقائي الفاسقين وضحكاتهم المرتفعة، لي نكتهم البذيئة عن الله والعالم، ولي حيرتهم، وحبهم للعدم والحياة ! لي مكر الأطفال، وضحكاتهم حبر السلام في العالم، لي لا مبالات العدميين، وهتاف التابعين، وحكاوي الصحراء والساحات..

وتراجيع الماضي تمتد أيما امتداد، ما نحن سوى ماضي لا ينفك يكتب نفسه، وبه كنت وكان أول ما كان ذاك الصبي الراحل عن عزيب الخيام، التارك ورائه صحراءً تمتد ما بين البحر والرمل، رسولا لوصايا القبائل.. أياك يا آبننا ثلاثا: النهر.. وقصور السلاطين (…) وواحدة أخيرة رفض الانصات لها. يتقلد لثاما مخضبا بعطر صبية سمراء تركها قرب شجر الطلح، وتميمة أمه تقيه من شر الأعين ونساء المدينة. كان طيبا وتتلبسه بداوة وعهد بالوفاء للصحراء لا ينمحي، ففيها أناس يحبهم وينتظرونه، أقصى أمانيهم أن تمطر السماء بانتظام، فيها السماء تهديدهم النجوم، وصوت سدوم ذاك الذي يبكي سكان الصحراء، وما أصعب أن يبكي سكان الصحراء.

رحل وفي جعابه بُرد كتابة، يد في روحه تثبت الذكرى، وأخرى تخط على البُرد ما تحكيه الرحلة، فكان الناس والعِبر، بعضهم يعلق في أهذاب الذاكرة وأخرين لا جديد فيهم كجل سكان الأرض، يولدون ويرحلون، صادف نساء لا كاللواتي يعرف، نساءٌ ينفثون بدخانهم تاريخ الذكورة المتكدس، وأخريات بلباس الأعاجم، لكن روائح بخور الحريم والسبي تنز من أجسادهم، رأى مهووسي الثورة، واللامبالين، خدام السلاطين، وعجم يستهويهم الإله الشرقي، وعرب يستهويهم الإنسان الغربي، رأى ورأى .. وما كان منه إلا صار ما رآه أو يكاد..

لتكتب عن الحياة أو تكتب هي عنك يعني أن تصعد قطار ماكندو، وتصلي مع السحرة، وتعتكف في حانة مع قديسٍ عابر، أن تمارس الحب العذري مع عاهرة طيبة، وأن تضاجع بتول مهووسة بالقيامة. لتكتب عليك أن تجلس مع إميل سيوران ليحدثك عن كتبه المكدسة لثلاثين سنة دون أن يقرأها أحد، أن تمر على لوسالومي لتسألها أأحَبك نيتشه؟ أم كنت شئمه المنذور لنا بسخاء، لتمر بقلب حزين على زنزانة بوئثيوس كاتبا عزائك معه ومنصتا بخنوع لوصايا إلهة الفلسفة، وعند الانتهاء إستأذن إرازموس لتطلب من سقراط أن يصلي من أجلنا جميعا، وقبل هذا لا تنسى نداء الهنود القدامى، أن لا تثق لا بالحصان ولا بالحداثة.

وللحب حظوة أو يزيد، حمق الحضارة الأقصى، ذاك المتساوي بؤسه بفرحه، لا سطح له ونخاله عمق العمق، هائمين حينا كهيبا الناذر نفسه للرب، اعتكف وترّحل، في الطريق خذله قلبه فشطره لثلاث، أو كالوقور بافل فلاسوف ذات ثورة نسي قلبه فخذله، وغير بعيد عنه تُخنّق بيلاجيا فيلوفنا التي نذرت نفسها فداءً للعمال بعد أن فقدت أفظعهم .. تاريخ مديد طويلٌ من الطهرانية الفجة، خال الانسان أنه نور مضاء، ولا جسد في الأرجاء، وما الحب يا مسكين إلا أجساد ترث كبتٌ مزركش بميتافيزيقا الحضارة. والجسد هو الجسد يمارس البلقنة ويتطاول على أشباهه ليستمر.

وكانت هي في البدء والمنتهى السيدة البهية الجميلة، قدري والحيارى، شفاءٌ من الموت سيد الأسياد والقابع فوق عرش العدم. أن تكتب يعني أن تنذر نفسك لأعين ما، تأتي بعد دهر أو يزيد، لتراك، لا بالضرورة كأحد الحكماء، أو واحدا من أسياد زمانك، يكفيك أن تُقرء كنص من نصوص أرشيف الحمقى والفساق، أن تنذر ما تكتب ليمتد كحبل ود مع حمقى المستقبل وأحفادنا سفراء رفض العالم، أن تذكر أحفاد الرفض أننا لم ندخر كلمة في أن نسب العالم ونحبه، أن نكره الحياة ونمارسها بجنون، أن نكون أكبر من وجودنا الضئيل وأهم منه.. أن نكتب يعني أن نكون هم والسابقين .. والسلام السلام على العابثين الطيبين في كل زمنٍ وحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة