حِفظ الأسرار في سيرة النبي المختار
تاريخ النشر: 17/06/16 | 7:05السر أمانة، وإفشاؤه خيانة ومدعاة إلى إفساد ذات البَيْن، وقطع الأواصر والصلات، ومن تأمل الأضرار التي تقع بسبب هتك الأسرار علم مدى حرمة إفشاء السر وآثاره، فكم من بيوت هدمت، وكم من جرائم ارتكبت، وكم من مفاسد وقعت في المجتمع بسبب إفشاء الأسرار وعدم المحافظة عليها، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمانة والتي منها حفظ السر، وحذر من الخيانة والتي منها إفشاء السر، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدَّث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) رواه أحمد وحسنه الألباني, ومعنى “ثم التفت” أي: التفت يمينا وشمالا خشية أن يراه أحد، وجاء في عون المعبود: “لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد وأنه قد خصَّه سره، فكان الالتفات قائماً مقام: اكتم هذا عني، أي خذه عني واكتمه وهو عندك أمانة”.
وصور ونماذج حفظ السر وكتمانه في السيرة النبوية كثيرة، منها:
بين الزوجين: الأسرار الزوجية من الأمور التي يجب على الزوجين حفظها وعدم إفشائها، ويتأكد أمر حفظ السر بين الزوجين خاصة فيما يتعلق بأمور الجماع، فهو أولًا: حق متبادل للزوج والزوجة في عدم إفشاء ما يكون بينهما، وهو ثانياً: حق الآداب الإسلامية العامة التي توصي بستر مثل هذه الأمور حفاظاً على العفة في المجتمع، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من إفشاء السر بين الزوجين، فعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتُفضي إليه، ثم ينشر سرَّها) رواه مسلم.
قال النووي: “فيه تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه”، بل وصل الأمر إلى أن شبه النبي صلى الله عليه وسلم بمن يفشي ما يقع بينه وبين زوجته بشيطان أتى شيطانة في الطريق والناس ينظرون، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال: (لعل الرّجل يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ فَأَرَمَّ القوم (سكتوا ولم يجيبوا)، فقلت: إِي والله، يا رسول الله، إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ، وإنهم ليفعلون، قال: فلا تفعلوا، فإنّما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فَغَشِيَهَا والناس ينظرون) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفْضِي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم، ومعنى: (يفضي إلى امرأته) كناية عن الجماع، و (من أعظم الأمانة) أي: من أعظم خيانة الأمانة، والرجل في الحديث تشمل الزوجين.
وفي رواية أخرى: (إنَّ من أشرِّ النَّاسِ عند الله منزلة يوم القيامة الرَّجُلَ يفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثمَّ ينشر سرَّها).
بين الصاحبين: على الصاحب إذا استأمنه صاحبه على سر أن يحافظَ عليه ولا يفشيه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب حين تأَيَّمَتْ (مات زوج) حفصة بنت عمر من خُنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتُوُفِّيَ بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيتُ عثمان بن عفان فعرضْتُ عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري فلبثتُ ليالي ثم لقيني، فقال: قدْ بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلتُ: إن شِئْتَ زوجتك حفصة بنت عمر، فصمتَ أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ (أغضب) عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وَجَدْتَ (غضبت) عَلَيَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك (أجيبك) فيما عرضتَ عليَّ إلا أني كنتُ علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأُفْشِيَ سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا) رواه البخاري.
قال النووي: “فالإنسان المؤمن مطالب شرعاً بأن يحافظ على الأسرار، سواء كانت أسرار بيته، أو أسرار الناس، وأنه إن اطلع على سر، أو أسر إليه إنسان بسر فلا يجوز له أن يفشي هذا السر وأن يفضح صاحبه”. وقال ابن حجر: “وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمَّن سَمِعَه”. وقال الماوردي: “إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال، كان على الأسرار مؤتمَناً”.
بين الأب وابنته: أسرَّ النبي صلى الله علي وسلم خبر قرب موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لابنته فاطمة رضي الله عنها وحدها، صراحة ومشافهة دون غيرها فبكت، ثم أَسرَّ إليها ثانية بعد حُزنها على سماع خبر فِراقه، بأنها ستكون أول أهله لحوقًا به، فَسُرَّتْ بذلك وضحكت، وحفظت سر أبيها صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنَّ أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنده لم يُغادِرْ منهنَّ واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تُخطئُ مِشيتُها من مِشيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فلما رآها رحَّب بها فقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه ـ أو عن شماله ـ ثم سارَّها (أسرَّ لها بكلام) فبكت بكاءً شديداً، فلما رأى جزَعَها سارَّها الثانية فضحكتْ، فقلتُ لها: خصَّكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكِين؟ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها: ما قال لك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت أُفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سِرَّه، قالت: فلما تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلتُ: عزمتُ عليكِ بما لي عليك من الحقِّ، لما حدَّثتِني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارَّني في المرةِ الأولى، فأخبَرَني أنَّ جبريل كان يُعارِضُه القرآن في كلِّ سنة مرةً أو مرتين، وإنه عارضَه الآنَ مرَّتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتَّقي الله واصبِري، فإنه نِعمَ السَّلَف أنا لك، قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزَعي سارَّني الثانيةَ فقال: يا فاطمة! أما ترضَي أن تكوني سيَّدة نساء المؤمنِين، أو سيدة نساءِ هذه الأمة؟ قالت: فضحِكتُ ضحِكي الذي رأيتِ) رواه البخاري.
يجب حِفْظ سرّ الحيّ ويَحرم البوْح به، وكذلك الميِّت، فالمسلم حرمتُه ميِّتًا كحُرْمتِه حيّاً، أمَّا ما كان يفعلُه الميت من وجوه الخير الَّتي كان يسرُّ بِها أو فضائله الَّتي لا تُعْرف، فتُذْكَر إذا كان في ذكرها مصْلحة، ومن ثم أخبرت فاطمة رضي الله عنها بسرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما في ذلك من المصلحة في بيان دليل من دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه في إخباره عن أمر غيبي لم يقع بعد،، وبيان منزلتها وقدْرِها عند الله عز وجل.
بين العامل وصاحب العمل، والخادم وسيده: قال أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم : (أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سِرَّاً، فما أخبرتُ به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم (أمه) فما أخبرتها به) رواه البخاري. وفي رواية مسلم عن أنس رضي الله عنه: (فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك (أخرك)؟ قلتُ: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجةٍ، قالت: ما حاجتُه؟ قلتُ: إنها سرٌّ، قالت: لا تُحدثَنَّ بسرِّ رسول الله صلَى الله عليه وسلم أحداً).
وليس من شرط الأمانة في حفظ السر وكتمانه أن يخبر المتكلمُ السامعَ بأن هذا الكلام سرٌّ فلا تخبر به أحداً، بل يكفي أن تدلَّ القرينة على ذلك، قال ابن عثيمين في شرحه لرياض الصالحين :”والسر هو ما يقع خفية بينك وبين صاحبك، ولا يحل لك أن تفشي هذا السر أو أن تبينه لأحد، سواء قال لك لا تبينه لأحد، أو علم بالقرينة الفعلية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد، أو علم بالقرينة الحالية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد. مثال الأول : اللفظ أن يحدثك بحديث ثم يقول لا تخبر أحدا، هو معك أمانة. ومثال الثاني: القرينة الفعلية أن يحدثك وهو في حال تحديثه إياك يلتفت يخشى أن يكون أحد يسمع، لأن معنى التفاته أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد. ومثال الثالث: القرينة الحالية أن يكون هذا الذي حدثك به أو أخبرك به من الأمور التي يستحي من ذكرها أو يخشى من ذكرها أو ما أشبه ذلك، فلا يحل لك أن تبين وتفشي هذا السر”.
إن حفظ السر وكتمانه من الفضائل التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وهو من أخلاق المؤمنين، وإفشاؤه ونشره من أخلاق المنافقين التي نهى وحذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، إذ إنه يدخل في خيانة الأمانة، والخيانة من علامات النفاق، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع مَن كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري.. والسيرة النبوية المشرفة فيها الكثير من المواقف في بيان فضل حفظ السر وكتمه، والتحذير من نشره وإفشائه.