قراءة في ديوان “وجع الماء”

تاريخ النشر: 29/03/16 | 0:00

قرأتُ ديوان ” وجع الماء ” للشاعرة فردوس حبيب الله – ابنة قرية عين ماهل – الصادرِ عن دار “المكتبة الشعبية ناشرون” النابلسية للنشرِ وهو يحوي في طيّاتِه 35 قصيدةً, ولوحة غلافه بريشة الفنانة التشكيلية حنان ملكاوي .
قرأته يوم إصداره حين أهدتني نسخةً منه وكتبت لي :”منّي لك هذا اللحن الموجع علّك تُحلّق بأنينه إلى علياء الفرح ” وأوجعني ألمُها وأبرقت لها فورًا رسالةً نصيّةً وعبّرت لها عن إعجابي به وكانت في حينه قراءةً عاديّةً ورأيت أنّه من حقّي، إن لم يكن من واجبي، إبداء رأيي ووجهتي حيال قراءة ديوان شعري أو أيّ نص أدبي لأني أمثّل جمهور الهدف للكاتب والمتلقّي لتلك الكتابة.
أعجبت بالديوان من أول قراءةٍ (وقرأته ثلاث مرّات) رغم أنني لا أفهم في عروض الشعر وقوالبه وأتركها للنقّاد المهنيين لكنني أستطيع أن أجزم أنها هي أيضا(كما غيرها) لم تنظم بحسب الموازين الشعرية، ناهيك عن أن أوزان الشعر وُضِعَت بعد الشعر !
من المعروف أن بدايات الشعر كانت من الصحراء , عندما كان الأعراب يجوبون الصحراء على جِمالهم مردّدين ” هلا هلا هيا … أطوي الفلا طيَّا ” ، حيث كان الاعرابي يُرَفّه عن نفسِه ويُعبّر عن مشاعره ، لذلك ادعى البعضُ ان الشعر يأتي من الشعور ولذلك سُمي بالشعر , بينما من يكتب الشعر بحسب قوالب الشعر وقوانينه دون العاطفة، مُجرّدًا نفسه من العواطف، يُسمى ناظم.
وكما قلت بدايةً – أعجبني الديوانُ وشعرُه!
ملاحظتي للشاعر نزيه حسون – كاتب مقدمّة الديوان : ديوان فردوس الأول كان “همسات من جبل سيخ” وليس السيخ (كذلك كتاب ناجي ظاهر :”جبل سيخ”) وحذار من غضب آل صبيحات – عشيرة الصُّبح البدويّة – من تشويه الاسم ، فهناك سكنت العائلة قبل النكبة، وطمس معالمها حيّ هار يونه المقيت ومدينة “نتسيرت عليت” . ((الأمير المتمرّد عقيلة الهاشمي وجبل سيخ أجمل وأعز مكان عليه في فلسطين ، وكثيرًا ما ردد الناس الأغنية المشهورة عنه ومطلعها :”عز المنازل يا عقيلة جبل سيخ … والخيلا جانا من يم الصبيحات”)).
استاذي الأديب فتحي فوراني تطرق في تظهيره للديوان لموضوع الحداثة وعدم وقوع شاعرتنا بشركها وفي إغراءات الدجل اللفظي ، على حدّ قوله، لأن شعرَ الحداثة ساهم في الانفلات الشعري ،
الله يسامحك يا أنسي الحاج ، وقادنا إلى عالم من متاهات لا أول لها ولا آخر .
بالنسبة لهذا الهجوم على الحداثة : أود أن أستعين بعمالقة الحداثة ومنهم الشاعر المصري جورج حنين الذي شارك مع عميد السريالية العالمية اندري بريتون وغيره من العمالقة الحداثيين بالتوقيع على البيان الأول سنة 1936, وفي الأسبوع الفائت اتصل بي طيّب الذكر أنسي الحاج وطلب أن أقرأَ اعتذارَ الأديب المصري محمود خير الله (مجلّة أخبار الأدب عدد 1074 ص 5 يوم 23.02.2014) له ولديوانه – لن – وجاء فيه : ((أن قصيدة النثر لا يجب الدفاع عنها وانما الانتساب لها)) ، ونضيف إليه أدونيس الذي قال فيه : هو الأكثر نقاء بيننا، وكذلك سركون بولص وشوقي أبو شقرا ويوسف الخال – صاحب مجلة شعر – ونحن مدينون لهم بالحداثة modernity ولولا هؤلاء الشعراء والذين اتبعوهم ، أمثال شاعرنا هاشم ذياب، لما عَرَفت الشعريّةُ العربيّةُ منجزًا وبقيت متخلّفةً عن روح العصر، بعيدةً عن روح العلم، إعادة النظر في الموروث الفكري، القيم الانسانية الحديثة والابداع المستمر وعليه تحولت اهتماماتُه إلى أن يكون معنيًّا بالإنسان وبالتجربة الإنسانية، معنيًّا بحضوره في زمانه، رافضًا كل خضوع للماضي وتقاليده ومتحرّرًا من كل سلطة موروثة أو شكل مسبق وهكذا ، الشاعر الحديث، هو الإنساني، المعاصر، الرافض والمتحرّر.
الحداثة أسهمت إلى حد كبير في تحرّر الشعر العربي من أسْر التاريخ وقانون الجماعة، ومن نمطية النظرة الدينية الفقهية، أي من سلطة المعجم والماضي، مقدّساً كان أو تاريخيّاً, كما أسهمت إسهامًا واضحًاً في دفعه إلى اتجاه التفكير الفلسفي والحدس وتحريض اللاوعي وتراسل الملَكات، من خلال تخطي موضوع الشكل الشعري وتجلّياته في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر مما يطفو على سطح الحداثة إلى الأعمق مما يتصل بإعادة النظر في تعريف الشعر نفسِه، وتعميق مفهومِه ودورِه، وفتحِه على المغامرة الإنسانية الكبرى، فنصيحةٌ لي لك يا فردوس : تلحلحي وفكّي القيود وانطلقي !
قبل ثلاثة أسابيع شربت قهوة الجمعة مع إم الياس – بائعة خضار في وادي النسناس – وإذ بمسن ثمانينيّ يسألها عن ضُمّة حوّيرة فأجابه ابنها ايوب قائلًا : إنس يا عمّي من الحوّيرة والخبّيزة والعكّوب وقريباتهن، لأن صبيحات البدويّة مش مسترجية تنزل تنقّب بعد ما دفّعوها الغرامة ، وصبيحات ذكّرتني بديوان فردوس الأول “همسات من جبل سيخ” وفي تلك الليلة قرأت الديوان للمرّة الثانية وتوجّعت بوجع فردوس مرّة أخرى واستمتعت به (طبعًا بالديوان وليس بوجع فردوس).
بعد النكبة شاع مفهوم ((الأدب الملتزم)) وبرز شعرائُنا الكبار أمثال راشد حسين ،عبد الرحيم محمود ، حنا أبو حنا، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم وغيرهم ، ولكن تبين لاحقًا أن هذا المفهوم تم تجريده من جمالية الكتابة لصالح الجانب التحريضي والشعاراتية وخطابة المنابر، مما أدى إلى تنحي جماليات الكتابة الفنية وتمت صناعة صورة نمطية مُقَوْلَبة كان الخروج عليها يعد ضربًا من التابو الأدبي أو الثقافي والنضالي ، ربّما تعويضًا عن الشعور بالهزيمة والاحباط والخيبات المتلاحقة وصار النضالُ، على أشكالِه، والمقاومةُ تربة خصبة لزراعة أمنياتنا وطموحاتنا وأحلامنا التي عجزنا عن تحقيقها موضوعيًّا.

أنتجنا أدبا شعاراتي نمطيا متشابها، تتغير فيه الأسماء، وتبقى الثوابت الأساسية من دون مس، وكانت المشكلة هنا، هي أن موضوعًا كالقضية الفلسطينية، لم نستطع أن نبلوره ونشكله كخزان ضخم لكتابةٍ جماليةٍ عاليةٍ، الأمر الذي أساء إلى القضية نفسِها قبل أن يسيء إلى الأدب، لاحقًا. وعندما قرأنا أدب أميركا اللاتينية، وبعض الآداب الأوروبية المقاومة، اكتشفنا كم كنا بعيدين عن صون قضيتنا في الكتابة، واكتشفنا كم ساهمنا في إضعافِها، لأن تلك الآداب الأخرى قدمت أبطالها وقضاياها كما ينبغي لها أن تكون، لا كما تحب لها أن تكون.
فردوس , كغيرها, وقعت في فخ النمطيّة فبدل أن تكتب عن حرماننا من الحويرّة والخبّيزة والزعتر – غرّدت داخل السرب لتكتب الشعر المباشر عن مصادرة الأراضي (يصادرون أرضنا : ص 41) ورائعتها (جواب ص 53) وعشقها ليافا (يافا/خيانةٌ مشروعة ص 57) ومرثيتها (في ذكرى يوم الأرض ص 77) ; وبدل أن تكتب عن يتمنا – أبرقت الى إخوانها الحكّام العرب في (رسالة جارحة إلى حكامنا “الأشراف”: ص 35) وكذلك (الى الشاعر المغترب – طارق عون الله ص 73 ; صاحب ديوان “أغنية إلى المقاومة”) ورسالتها (إلى والدة معاذ الكساسبة ص 51) وغيرها .
آن الأوان يا فردوس لتتحرّري من تلك القيود ،لتتحدّثي (من الحداثة)، لتتحدّي كونك الضحيّة لأنك امرأة (تضحية النساء ص 97) لتُضَمِّدي جرحَك النازف وتشفين من وجعك/وجع مائك (وجع الماء ص 105) وتنطلقي بمشاعرِك المتدفقّة وشاعريتك المرهفة إلى قمم أعلى وآفاق أبعد.

المحامي حسن عبادي /كفرقرع

88

98

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة