مديح الغربان… أو هجاء الداخل
تاريخ النشر: 08/09/13 | 2:39 لماذا تحنّ شعوب بأكملها إلى العيش في عصور أخرى؟ ما الذي يدفعها إلى حلم أحلام أمم غابرة؟ لماذا يتشبّهون بأبطال لم يعد لبطولاتهم أيّ معنى في أفق أنفسنا الجديدة؟ يبدو أنّ فقرا مدقعا في الإحساس بالحاضر هو الذي حوّل الجيل الأخير من شعوبنا إلى وُرثاء سيّئين جدّا لكل ما كنا نمثله من أشياء رائعة لأنفسنا منذ عهد طويل..لقد تحوّل شعورنا بأنفسنا العميقة إلى معمل ضخم للحنين..الحنين كآخر قشّة خلاص لشعوب لم تعد تملك أيّ برنامج موجب وصحّي لمستقبلها..وإذا بالهوية – وهي علامة حديثة ورائعة على نزع السحر عن العالم- تنقلب إلى متراس أخلاقي للدفاع عن كلّ أنواع الآخرة..وإذا بشباب أهملته الدولة وقتلت فيه كل أنواع المستقبل لفترة طويلة ـ قد أصبح جاهزا لحراسة الآخرة كآخر تبرير أخلاقي لوجوده القليل..يا لهذا الشباب الرائع كيف يُسرق من نفسه بأيسر السبل؟ ويا للعنة الدولة الحديثة التي تحوّلت إلى عسس خبيث لحماية أحلام الأغنياء من كوابيس الفقراء؟ ويا للعنة الانتماء الذي يسمح لدعاة يسقطون من الآفاق للاستيلاء على قلوب أبنائنا وتحويلها إلى كمائن لاهوتية لانتاج الريبة من الأهل والصديق والجار وابن البلد؟
هل هذه هي العالمية التي كنّا نمتاز بها عن الأمم الأخرى : أن نصبح الأمة الوحيدة التي نكصت على عقبيها من تقدّم الإنسانية متسلحة بأكبر كمية من العنف الرمزي لا يمتلكها اليوم أي شعب آخر ..انّ تحويل الهويّة إلى معمل للحنين اللاهوتي إلى آخرة مسلّحة – هي رغم ذلك تحرص على إذلال العالم بعالمية موهومة ولا علاقة لها بعالمية نفوسنا القديمة -، إنّ تحويل الهوية إلى حنين أخروي هو الذي يقود إلى التعصّب كموقف واسع النطاق من الكينونة في العالم …ولكن هل يمكن لشعوب بأكملها أن تتآمر على نفسها؟ هل مازلنا نحن أنفسنا بعد كل ما حدث إلى حدّ الآن؟ هل يكفي أن نحوّل انتماءنا إلى هوية دعوية حتى نحمي أنفسنا من المستقبل ؟ لماذا لا تملك هذه الشعوب من كل ثرواتها الأخلاقية غير الدفاع عن نفسها حتى تبرّر وجودها الأخلاقي كعضو في نادي الإنسانية؟
لا يحتاج إلى الدفاع عن نفسه إلّا شخص لم يبق من هويّته إلّا مجرّد الحنين إلى أمّة لم تعد موجودة فصار يعيش فيها مثل الناجين من إعصار مرّ دون أن يشعر به أحد..نحن مؤرّخون سيّؤون لذواتنا الجديدة، وكلّنا لا يملك من شعوره بالانتماء إلا الحنين المؤلم والمزعج إلى أمّة اندثرت تحت جلده، لكنه مازال يصرّ على الانتماء إليها كآخر جدار أخلاقيّ لنفسه يحرص كلّ الحرص على ألّا يسقط..هل سقط علينا جدار أنفسنا دون أن نعلم؟ ولماذا لا نملك من عناصر الانتماء إلّا مجرّد الحنين؟
ولكن لأنّ كلّ حنين هو مجرّد وعد شكليّ بسعادة لم تعد تملك أفق الفهم المناسب لنفسها، فإنّ شكل التعبير الوحيد الذي يلجأ إليه مثل هذا الحنين هو التعصّب الهووي أي الاستعمال العنيف لإحساسنا بأنفسنا وقد تحوّلت إلى بؤر حنين فارغة من الانتماء..بعضنا قد ينتحر ولا ضرّ أن يتمّ ذلك بأرقى الوسائل رفاهية : الصمت اليائس من انتظار أي شيء، أو الإيمان الفارغ من الدين، أو حتى الحكم الفارغ من الدولة..نحن شرعيون إلى حدّ اللعنة في أيّ مكان نقف فيه إن كنّا الدولة أو ضدّها كغربان الوقت..وعجبي من الذين ينتصبون في الكتيبة الخرساء يدافعون عن هذا الحاكم أو ذاك، أو هذا الانتماء أو ذاك، ويقسّمون العالم بسكّين مريح وغليظ كأنّ أحد الآلهة قد وعدهم بعدالة لا تخطئ أبدا..وحذار أن تزعج راحة العقل لديهم بهذا الرأي المخالف أو هذا الألم الزائد عن النطاق أو هذا الحياء الذي لم يعد له أيّ مكان أو هذا الودّ الاستثنائي لمحمّد أو لقرآن محمّد..كلّ شكل من الوفاء الاستثنائي- أي الذي يحتفظ بحقّه في ألّا يكون منّا إذا لم نكن من أنفسنا- ، هو حالة ممنوعة من الانتماء لدى تجّار الحنين إلى آخرة بلا عالم يُروّج لها كأنّها إمكانية الهوية الوحيدة المتبقية لنا..من علينا أن نلعن إذن إذا وُضعنا بين كمّاشة الحنين والتعصّب كبرنامج هووي لأنفسنا الجديدة؟ وإلى أيّ حدّ يمكننا أو يحقّ لنا أن نحتمي بمظلّة الدولة الحديثة وجيوشها المظفّرة وأمنييها المحترفين في تعذيب أجيال سابقة من الأجسام الحرّة، من أجل أن نعبر إلى الضفّة الأخرى من حريّتنا؟ – يا لهذه الحرية المستعصية على كلّ أنواع الانتماء ولكن أيضا على كل أنواع الدولة..الدولة كشاهد زور حديث تماما على جنائز الديمقراطية التي بدأت في عالمنا الكبير.. لكنّ الميّت مهما كان خصما هو دائما من أهل الدار..إلى متى سنظلّ نشيّع جثامين جديدة من أنفسنا؟ أليس ثمّة حدّ للتضحية لدى شعب ما حتى يصبح جديرا بحريته؟
إذا نام شعب راقبته عينان مريبتان تقدحان رعبا وحسدا: عين الخائفين من الحرية، حرية أن تستأنف هوية ما طريقها نحو الحياة فتراجع سرديّة مولدها وتفاوض جيّدا على شروط بقائها..هؤلاء هم الدعاة في كل ثقافة الذين يزايدون على الشعوب في انتمائها لنفسها ويحوّلون مشاعرها العميقة بالانتماء إلى قيود دعوية خبيثة للسيطرة عليها..وعين الطامعين في لحم الدولة الحديثة وكل دولة، الطامعين في تحويلنا إلى أدوات للرغبة اللامحدودة في استهلاك أجسامنا ووجودنا اليومي وهويّاتنا وبصماتنا الخاصّة وحتى قدرتنا على الإنجاب وعدم الإنجاب لأطفال المستقبل..من يحمي الشعوب من عين الداعية التي تحسد الحرية على حريتها، ومن عين الحاكم الذي يطمع في استعبادنا بأرقى وسائل القانون؟
قد يظنّ المتعجّل أنّ ثنائية الكينونة التي تؤرقنا هي مجرد زئبقية في التعبير حتى نحافظ على توازن ما بين طرفين والحال أنّ التناقض العميق في تصوّرنا الحديث لأنفسنا، التناقض بين الهوية والحرية، هو ليس خدعة بصر، بل واقعة أخلاقية وسياسية لا مردّ لها. نحن واقعة أخلاقية حديثة لكنّ شعورنا بالانتماء لا يزال هو الثروة السياسية الوحيدة لأجيال متواترة من أنفسنا. كيف نصالح بين الهوية والحرية؟ هذا سؤال ليس من حقّ أيّ منتمٍ بشكل مسبق أن يفكّر فيه. فكلّ من يعوّل على الانتماء الجاهز لنفسه أو لحزبه أو لطائفته هو حيوان الجماعة، وليس عضوا في نادي الإنسانية. وكثير كثير من النقاش الدائر حول الديمقراطية – وهي الإطار الجديد للنزاع حول الهوية- هو نقاش مزيّف لأنّه يدور بين منتمين جاهزين، يدافعون عن جدار أخلاقيّ للانتماء، وليس بين عقول حرّة مستعدّة لمراجعة شروط انتمائها لنفسها أو تحسينها. ولكن من يجرؤ على مراجعة انتمائه أو معتقده أو جنسه…؟ وطالما نحن بعيدون عن مثل هذه الجسارة على الانتماء الصحّي والموجب والحرّ والمفتوح لذواتنا الجديدة، نحن سنبقى عرضة لأيّ شبهة أو تهمة أو عقوبة أو ثأر أو ضغينة من تجّار الحنين وحيوانات الانتماء الجاهز، حرّاس أوهام جلاديهم، ولا ضرّ إن كان هذا الوهم أخروّيا أو علمانيا. وقد تبيّن منذ وقت أنّ الدولة الحديثة هي نفسها مواصلة لسلطة الاستبداد الشرقيّ بطرق ووسائل أخرى.
لا تتحرّر أيّة هويّة إلّا بقدر ما تستغني عن ثقافة الحنين – وتلك هي الطريقة الوحيدة لصدّ باب الآخرة على الدعاة ومنعهم من التسلّل إلى المساحة العميقة لأنفسنا..ولا يتحرر أيّ شعب إلا بقدر ما يستغني عن الحاجة الأخلاقية إلى التعصّب الهووي ،- وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تحميه من أطماع الدولة الحديثة في أن تسرق منه قدرته على التشريع لنفسه واستحقاق حريته.