قنديل جدي
تاريخ النشر: 31/05/16 | 5:48 لماذا لمْ أَحْكِ لكمْ حتَّى الآن عنْ قِنْديلِ جدِّي لقدْ أنْسَتْني الأحداثُ الكثيرَ مما أُحبُّ حتَّى قنديلَ جدي الذي لمْ يُحبْ شيئاً في حياته كما أحبَّ ذلكَ القنديلَ القديم الذي يعملُ على زيتِ الكاز وأذكُرُ أنَّنا كنَّا نستخدمُ أكثرَ من قنديلٍ في المنزلِ والبستان
عندما تنقطعُ الكهرباء عنا لكنَّ جَدِّي لم يكنْ يُحب إلاَّ قنْديلهَ الذي رأيته يَدْخلُ به حينَ جاءَ بالعصفورِ المُرَقَّطِ كان يسمي قنديلَهُ حبيبَ الروحِ ويُنَظِّفُهُ بعنايةٍ وحنانٍ كما تنظِّفُ الأمُّ وليدَها البكرَ ثم يقبِّلهُ ويضُمُّهُ إلى صدرِهِ
كما كان يعانقني ويضمُّني إلى صدرِه لاشكَّ في أنَّه كان يثيرُ فضولي وغيرتي وغضبي أحياناً حينَ كانّ يجلسُ إلى قنديلهِ ويسرحُ بأفكارِه بعيداً عني وكنْتُ أجلسُ أرمُقَهُ من مسافةٍ قريبةٍ وأتمنى لو أستطيعُ أنْ أُدخُلَ إلى أفكارِهِ وأطوفُ معَها في فضاءِ الذكرياتِ
تُزَرْكِشُها وتُلوِّنها طيورُ الأحلامِ السَّاحرةِ
كانَ يبتَسِمُ ويضحكُ ويبكي أحيانا وكانَ يغنِّي طويلاً بصوتٍ مَهْموسٍ فيأتيني صوتُهُ كصوتِ نايٍ حزينٍ يحكي آلامَ البَشَر وأحلامَهم عَِبْرَ دروبهم الطويلة الشائكة كان يغنِّي لأمِّه ويُكثرُ ويُسْهِبُ في ذكرِ الوفاءِ والخيانة والعهدِ والدِّيرةِ والأهلِ قبلْ أن ينهضَ ويرفعَ يديْه إلى السَّماءِ يدعو ويتضرعُ إلى الله ثم يجلسُ على المصْطَبة وأنا إلى جانبه عندئذ أشْعُرُ بأنَّهُ صَعَدَ إلى قمَّةِ جبلٍ بعدَ جهدٍ جهيدٍ وهاهو يجلسُ الآنَ على قمَّةِ الجبل
يحتفلُ بانتصارِه أمامي ثمَّ ينظرُ إليَّ ويهتفُ بكلِّ جوانحهِ: أتَدْري أنك أذكى وأطيبَ كائن رأيتُهُ في حياتي ثم يعانقني
وهو يَتَغَنَّى: حبيبُ الروح أنت حبيب الروحِ
أسأله: هل تحبُّ القنديلَ أكثرَ منِّي هل القنديلُ طيبٌ أيضاً وذكي لا يجيبُ…جدي مازالَ غارقاً في صَمْتِهِ
أسأَلُهُ: ماذا يعني ذكي هلْ يستطيع الذكيُّ أن يطردَ الصهاينةَ من أرضنا
أكرِرُ هذه الأسئلةَ غيرَ مرة
لكنَّ جدي لا يخرجُ عن صمته وهو يحدِّقُ إليَّ يَتَفَحَّصُني كأنَّه يشجعني على
طَرْحِ المزيدِ من الأسئلة
أصمتُ فَيَنْهَرُني بودٍّ: مالكَ صامتٌ يا وَلَدُ حديثُ القلوبِ يُنْعِشُ الرُّوحَ
ويحركُ الأفكارَ
أسألُه: ماذا قلتَ يا جدي فيكرِرُ وابتسامتُه المشرقَةُ ترِّفُّ على محيَّاه حديثُ القلوبِ
حديثُ القلوب
ألمْ تسمع بحديثِ القلوبِ
أسألُهُ ماذا تقصدُ يا جدِّي فيشيرُ إلى قلبِه واضعاً كَفَّهُ اليمنى
فوقَ كفه اليُسرى: إذا كانَ القلبُ تماماً
غدا كلُّ شيء تماما ثم يأخذني بمرَحٍ من يدي ويسيرُ بي مسرعاً
إلى غرفة حيواناته قبلَ أن يُتيحَ لي فرصةَ التفكيرِ بما قالَه لي ومُنْذُ تلكَ الأيامِ
أصبحتُ مساعدَهُ الأوَّلَ في عنايته بحيواناته التي تحتاج إلى مساعداتٍ وعنايةٍ خاصَّةٍ في تلكَ المرَّة
رأيتُ غزالةً فقدْت إحدى قائمتيها الأماميتين راقبْتُ جدي وهو يقومُ بمداواتها لكنَّني كنتُ عاتباً عليه
وأنا أسألُ نفسي: متى جاءَ جدي بهذه الغزالة ولماذا لم يصْطَحِبُني معه ومنذُ تلك اللحظةِ بدأتْ أفكِّرُ كثيرا
ً بتلك الغرفة الكبيرةِ التي يجْمَعُ فيها جدي العديدَ من الحيوانات وأسألُ نفسي كيفَ يأتي جدي بهذه الحيواناتِ وكيفَ يعثُرُ عليها ومتى ذاتَ يومٍ كنتُ أستعدُّ للنوم وأمِّي إلى جانبي تحكي لي إحدى حكاياتها الماتعة
رأيتُ جدي يَحْمِلُ قنديلَهُ ويَستعدُّ للخروجِ انطلقْتُ خَلْفَه راجياً متوسِّلاً أنْ يأخذُني معه
لكنَّهُ رفضَ اصطحابي أنتً صغيرٌ وعليكَ أنْ تنامَ أنا أتأخَّرُ في العوْدَة لا أدري كيفَ سيْطَرَ عليَّ العنادُ فانطلقْتُ إلى خارجِ الغرفة ورحتُ أبتعدُ
وأبتعدُ وجدِّي يحاوِلُ اللَّحاقَ بي وإمساكي أخيراً وافقَ وهو يقولُ لي: سآخذك معي وذنبُكَ على جنبك
وسارَ بي يمسِكُ يدي رأيتُ القمَر يبتَسِمُ لي من بين الأغصانِ ويُهَنِّئُني فَرِحاً برحلةٍ يَصْطَحبُني فيها جدي
أوَّلَ مرة في جولاته الليلية الطويلة في تلكَ الليلةِ مَنَحَني جدي شرفَ حمْلِ قنديلِه الغالي كيفَ أصِفُ تلكَ
اللحظات وأنا أسمعُ من جدي تلكَ العبارةَ التي حملتُها وساماً رفيعاً على صدري: أصبحتَ رجلاً يا أحمد احمِلْ القنديلَ وسرْ أمامي
شعرتُ أني أصبحتُ شريكاً لجدي ورفيقا سألني: أتذكرُ أنَّكَ ذاتَ يومٍ وكانَ عمرُكَ لا يزيدُ عن ثلاث سنوات وتَبِعْتَني دونَ أن يلحظَكَ أحدوكانت الليلةُ مقمرةً مثل ليلتنا هذه فجأة سمعتُ صوت أمِّك
يأتيني من بعيد هرعْتُ تجاه الصوت حتى رأيتُ أمَّك تتَّجِه إلي بكلِّ ما تملك من قوة وهي تصرخ متَقَطِّعةُ الأنفاسِ يا عمي
ضاعَ أحمد كان نائماً إلى جانبي استيقظتُ فلمْ أجدْهُ وراحتْ تبكي وتُوَلْوِلُ وتستغيثُ وهي تكادُ تختنقُ من شدَّة الهَلَعِ وبدأنا نبحث ُعنك
كنتُ مطمئناً إلى أنَّنِي سأجدُكَ سالماً معافى لكنَّني كنتُ خائفاً على أمِّكَ من أن تموتَ رعبا لم نترُكْ زاويةً لم نبحثْ فيها عنك انهارتْ أمُّك ووقعتْ على الأرضِ في هذه اللحظةِ سمعتُ صوتَك يأتيني من بعيد
ركضتُ باتجاه الصوت رأيتُك تسيرُ وتقفزُ وإلى جانبكَ أفعى كبيرةٌ عندما رأتني رفعتْ رأسَها إلى الأعلى
وبدأت تميسُ نحو اليمين ونحو الشمالِ وإلى الأسفلِ والأعلى رفعتُ القنديلَ إلى الأعلى فانْسَلَّتْ الأفعى ومضتْ في حالِ سبيلها وجئتَ تركضُ إلي في تلك الليلة حمَّلتُكَ القنديل
لأنِّي حملتُ أمَّك إلى المنزل وهي فاقدةُ الوعي أوصلتُ أمَّك ووضعتُها على فراشِها واندسستَ إلى جانبها ونمتما معا وفي الصباح
جلستْ أمُّكَ إلى جانبي تحكي لي أنَّها رأتك تضيعُ منها في المنام وتطلبُ مني تفسيرَ هذا الحلم المزعج
قلتُ لها إنَّ الأحلامَ المزعجةَ هي كوابيسٌ أراحنا الله من شرِّها في اليقظةِ والمنام والصهاينة يا أمِّ أحمد هم الكابوسُ اللعينُ خزاهم الله وأمام كوابيس الصهيونية تهونُ كلُّ الكوابيس وأسألُ نفسي الآن ما الذي كان سيحدثُ لأمِّي لو رأتْ الأفعى إلى جانبي وأنا ألعبُ معها أتذَكَّرُ الكثيرَ من هذه الأحداث هذه أحلامٌ وقدْ تختلطُ الأحلامُ بالحقيقة وحتى الآن كثيراً ما أرى نفسي ضائعاً في حقل واسع أبحثُ عن جدِّي حتى أجده والتفاصيلُ كثيرةٌ لا تُحصى وأذكرُ منها الكثيرَ إنَّها كالعناقيدِ تنتشرُ في كرومِ خيالي وذاكرتي فهلْ ما أقصُّه عليكمْ الآنَ كان حلماً أمْ حقيقةً عشْتُها في الواقعِ أمْ أنَّها من أزهارِ خيالي وغيومِ أفكاري وأنا مُسْتلقٍ هنا على هذا السريرِ في المشفى أحلمُ بالشِّفاءِ والعودةِ إلى دارِ أبناء الشهداءِ
إلى جانبِ صديقيَّ عيسى ومهيار.