البطة والعصفور

تاريخ النشر: 23/02/16 | 2:03

كانْ ياما كانْ في قديمَ الزّمان، وَنبدأُ قصَّتَنا الصَّغيرَة بِاسمِ الله العزيزِ الرّحمن، والصّلاة على رُسُلِهِ أجمعين، والحبيب المُصطفى العدنان…
في زَمنٍ بعيدٍ عن هذا الزّمان، لَربّما قبل ولادَة الحقدِ والكُرْهِ بينَ الأنام.. في زمنٍ خلا من كلِّ شرٍّ وَحَسَدٍ فاقَ الوَصفَ وَالكلام.
في هذا الزّمنِ وُلِدَتْ فيه بطّةٌ صغيرةٌ، بيضاءُ الرِّيشِ، جَمِيلةُ المَنظرِ والمِنقارْ، لطيفةُ الكلامِ وكريمةُ الأَخلاق.
وَفِي ذاتِ السَّنة وُلِدَ عُصفورُنا الصَّغير، مُلوّن الرّيش وَالجناح، المُتمتِّعُ دائِمًا بالطَّير والسّفرِ مِن مكانٍ إلى مكان.
وَللأَسفْ فَرغمَ جمال الاثنان وأَخلاقِهِما الطَّيبةَ الجميلة،
وَحُبِّهِما لِمَا خلقهما اللهُ عليه، إلا أَنَّ كِلَيْهِما يغاران مِن بَعضِهِما!!!
وذاتَ يومٍ مِنَ الأَيَّام رَآهُمَا ثَعْلَبٌ مَكارْ، وَأَحَسَّ بِغَيرَتِهِما، فَقَرَرَ أَنْ يَتَّخِذّ مِنهما لعبتهُ الجديدة فَيلهو بِهِمَا قَبل أَنْ يُصبِحَا غِذاءَهُ الخَاص، وكَانَت خُطَتُه الشِرِيرة تَقْضِي بِأنْ يَخدعَهُما ثُمَّ يَتَغَذَّى عَلَيهِما، كَعَادَةِ أفْرَادِ جنْسِهِ مِنَ الثَعَالِبْ المعرُوفَة بِالمَكْرِ والخِدَاع…
وَفِي اليَومِ التالي، وبينما الجو صافي، وكلٌ يجلِسُ فِي مكانِه بارتياح، سَمِعَ عصفورُنا الغِرُّ الصَّغِير صوتَ أحَدِ الحيوانات يُنادِي مُستَغِيثاً بِأحدٍ ما، فَحَلَّق مُسرِعاً لِيطيرَ إلى هُناك بِدونِ أَنْ يُرَّكِزَ عَلى هُوِيَّةِ ذاك المُستَغِيث، ولكِنَّ بَطتنا الجميلة لَمَحَتْهُ وهو يطيرُ باتجاهِ ذاك المستغِيث وكانَت قَدِ انتَبَهَتْ لصَوتِهِ وعَلِمَتْ بِأنَّهُ الثَعْلبُ المَكَار، فَأَسرَعَت تسبحُ باتجاهِ العصفُور وهي تصيحُ بصوتِها، محاولةً لَفتَ انتباهِهِ لِنِيَّةِ مَن يظنُّه مستغيث، ولِتنبيههِ أَنَّ لا أحدَ قدْ تَحرَّكَ لنجدتِهِ لمعرفتهم بمَن يكُونْ، ولا شَكَّ بِأَنَّ استغاثَتَهُ تِلكَ خطةٌ جديدةٌ لافتراسِ أحدِ الحيوانات…
لَمْ يَنتَبِهِ العصفُورُ للبطةِ واستمرَّ يُحلِّقُ حتى وَصَلَ للثعلبِ المكار، والذي كانَ يضَعُ أَحَدَ الأغصانِ على جَسَدِهِ، مُدَّعِيَّاً أنَّهُ قدْ سَقَطَ عَلَيهِ مِنْ احدَى الأشجار، تحرَّكَ العصفُورُ بِكُلِّ طِيبةٍ مُحاوِلاً دَفْعَ غصنَ الشجرةِ وإنقاذَ الثعلب، وعِندَهَا وصَلَتِ البطةُ صَائِحَةً بالعصفُورِ موقِفَةً إياه: توقفْ أيُّها العصفُورُ الصغيرُ فهذا ثعلبٌ مكار، وقد وَضَعَ الغصنَ على جسدِهِ مُتَعَمِدَاً خِدَاعَ الحيواناتِ، لتقومَ بمساعدتِهِ ثُمَّ يتناوَلُها غِذاءً لَهُ بَعْدَ ذاك، فاحذرْ مِنه، وابتعِدْ عَنْهُ بسرعة.
تأوَهَ الثعلبُ عندما سمِعَ ما قالتهُ البطةُ مدعياً الألمَ لئَلا يُكْشَفَ، ثمَّ قالَ للعصفُور: آآآآه، لا تُصدِقهَا أيُّها الصَّغِير فلستُ أخدعُ أيَّ أحدٍ، فَأَنَا فعلاً أَتَأَلَم، آآآآآه “وَتَابَعَ بِخُبثٍ أَكبَرْ” دَعْكَ مِنَ البطةِ فقد رَأَيْتُ بِأَنهَا تغارُ مِنْكَ مُنذُ أيامٍ وتحقِدُ عليك، وتحسَدكُ على جناحيكَ فلا تستمِعْ لَهَا وساعِدنِي، آآآآآآآآه.
نفضَتِ البطةُ رِيشها برفضٍ لِما قال، وتابعتْ محادثةً العصفُور: لا تُصدِقهُ أيُّها العصفُورُ الجميلُ فلستُ أحقِدُ عليكَ أبداً ولا أغار، أما جناحاكَ فَلا أُنكِرُ أنَنِي أَتمَنَى لو كانَ لديَّ مِثلَهُما، ولكنني أثِقُ بِأَنَّ اللهَ قَد خَلَقَ كُلَّ كائنٍ وحيوانٍ بمميزاتٍ ونِعَمٍ لن تَصلُحَ لغيرِهِ من الكائِنات، فلا تُصَدِق كَذِبَ وخداعَ ثعلبٍ مكار.
صدقَّ العصفُورُ قولَ البطة بَعْدَ أنْ فَكَرَ فِيمَا قَالتْ، فَهُوَ أَيضاً يُشبِهُهَا، فَصحِيحٌ أنَّهُ يتَمنى لو كانَ يعيشُ في البحيرةِ، ولكِنَّهُ لا يحسَدُها على ذَلِكَ أَبَداً، كما وأنَّه مقتنعٌ بأنَّهُ لو عاشَ حقاً فِيها فَلنْ يكونَ سعيداً كما هو الآن…
رفرفَ العصفُورُ بجناحيهِ مُقترباً مِنَ البطةِ وقال: أُصَدِقُكِ أيَّتُها البطةُ فكلامكِ صحيحٌ، ولكنَّ الثعلبَ بحاجةٍ إلى مساعدتِنا الآن، وأنا لا أستطيعُ إِزاحةَ الغصنِ لوحدي، فهلا تساعِدينِي فِي تحريكِهِ؟
رفضتِ البطةُ المساعدةَ وقالت: يا عصفُوريَ العزيزَ إنَّهُ مكار، اِنْظُر إليهِ وهُوَ هُنَاك، فلا شجرةَ بجوارِهِ فمن أينَ أَتَى ذاكَ الغصنُ ليسقُطَ عَليهِ وهُوَ هُناك؟!!!
التفت العصفُورُ لِينظُرَ إلَى المكان، وانتبهَ فعلاً بِأَنَّ الثعلبَ يرقُدُ في مكانٍ بعيدٍ عن أيِّ شجرةٍ قريبةٍ، وما كانَ يحيطُ بِهِ فقط هُوَ الأعشابْ…
تَنَبَّهَ الثعلبُ لِوَضعِهِ وَفَشَلِ خُطَّتِهِ للإيقاعِ بِهِمَا فَصَرَخَ بِهِمَا مُنَادِياً عِندَما لاحظَ استدارَتَهُمَا لِيُغادِرَا المكان ناسيانِ إياه: هاي، أنتُما!!! أينَ تَذْهَبَان؟!!! أَبعِدَا هذا الغصنَ عَنِّي على الأقلِ قبلَ أن تذهَبَا؟!!!!
أَدَار العصفُورُ نَفسَهُ لِيَرى الثعلبَ المكارَ، ثمَّ قال: مَنْ حَفَرَ حُفْرَةً لِأخيه وقع فيها، فاحصدْ ما زَرَعَتْهُ يَدَاك…
وَرَفرَفَ لِيَعُودَ مِنْ جَدِيدْ مُقْتَرِبَاً مِنَ البطةِ لِيُتَابِعَ قَولَهُ: مَا رَأيُكِ أيَتُها البطةُ العَزِيزَةُ أَنْ نُصبِحَ صدِيقان…
وَهَكَذَا انتهتْ قصتُنا بِصَداقَةِ البطةِ والعصفُورِ الصَّغِير، وتُوتَة تُوتَة خِلصِتْ الأقصُوصَة بِصَدَاقَةٍ كبيرةٍ ومفحوصة…

روند ح. البايض

205

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة