لؤلؤة العروس
تاريخ النشر: 28/02/16 | 1:57لا أدْري ماذا حَصَلَ لي ذَلِكَ الصَّباحَ؛ أهُوَ حُلْمُ يَقَظَةٍ، أمْ حَقيقَةٌ، أمْ خَليطٌ مِنْهُما مَعاً؟!..لَكِنْ، أنْ تَصيرَ أُخْتي مُفَتِّشَةً لِلشُّرْطَةِ، وهِيَ طِفْلَةٌ، هَذا ما لا يَقْبَلُهُ عَقْلي. ولِكَيْ تُصَدِّقوني، سَأحْكي لَكُمُ الْقِصَّةَ، كَما عِشْتُها لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ: تَعْرِفونَ جَيِّداً أنَّني أنْهَضُ دائماً باكِراً، لأنَّني أنامُ باكِراً، أيْ لا أُحِبُّ السَّهَرَ، كَيْ آخُذَ قِسْطي كامِلاً مِنَ النَّوْمِ والرّاحَةِ، ولا يَتَضَرَّرَ جِسْمي، وحَتّى أسْتَطيعَ أنْ أُتابِعَ حِصَصي الدِّراسِيَّةَ بِنَشاطٍ كبيرٍ. لا عَلَيْنا، عِنْدَما اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمي، فَتَحْتُ نافِذَتي، أتَأمَّلُ حالَةَ الْجَوِّ، فَبادَرَتْ أُخْتي، دونَ أنْ أسْألَها: اَلسَّماءُ صافِيَةٌ، والْجَوُّ مُشْمِسٌ جَميلٌ. ألَيْسَ هَذا ما تَبْغيهِ؟!
أجَبْتُها باسِماً: بَلى، يَظْهَرُ أنَّ مُعَلِّمي سَيَأْخُذُني، أنا وأصْدِقائي إلى الْمَتْحَفِ، لِنَتَعَرَّفَ على حَضارَتِنا.
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دَخَلَ أخي مُحَيِّياً: صَباحُ الْخَير!.. لَمْ أوقِظْ والِدَيْنا، فَهَيَّأْتُ لَكُما ولِنَفْسي فَطوراً شَهِياًّ!
غَسَلْتُ أطْرافي، ولَبِسْتُ بَدْلَتي، ثُمَّ جَلَسْتُ إلى الْمائدَةِ بَيْنَ أخَوَيَّ، أتَناوَلُ حَليباً وخُبْزاً مَدْهوناً بِالْجُبْنِ والْمُرَبَّى. ولَمّا أنْهَيْتُ فَطوري، وَدَّعْتُهُما بِابْتِسامَةٍ، وانْصَرَفْتُ قاصِداً مَدْرَسَتي.
بِبابِ الْمَدْرَسَةِ، وَجَدْتُ حافِلَةً مُتَوَقِّفَةً، يَرْكَبُها أصْدِقائي، والْمُعَلِّمُ يَنْصَحُهُمْ بِالْجُلوسِ في أماكِنِهِمُ الْمُرَقَّمَةِ، ووَضْعِ أمْتِعَتِهِمْ مُرَتَّبَةً فَوْقَ الرَفوفِ. وقَبْلَ أنْ تَنْطَلِقَ الْحافِلَةُ، حَذَّرَنا مِنْ فَتْحِ النَّوافِذِ، أوْ إخْراجِ رُؤوسِنا وأيْدينا، أوْرَمْيِ الْفَضَلاتِ في الطَّريقِ!
ولِلْحَقيقَةِ أقولُ إنَّ أصْدِقائي عَمِلوا بِنَصائحِ الْمُعَلِّمِ، لِيُحافِظوا على صِحَّتِهِمْ، ونَظافَةِ بيئَتِهِمْ. لَكِنَّ شَيْئاً ما حَدَثَ في الْمَتْحَفِ، لَمْ نَكُنْ نَتَوَقَّعُهُ أبَداً، ولَيْسَ لَنا يَدٌ فيهِ، كادَ يَحْرِمُنا مِنَ الرِّحْلَةِ، لَوْلا ذَكاءُ أخْتي. وبِالْمُناسَبَةِ، فَإنَّ أخَوَيَّ أصْغَرُ مِنِّي سِناًّ، ويَتَعَلَّمانِ في مَدْرَسَةٍ أُخْرى.
بَيْنَماكُنّا نَتَجَوَّلُ بَيْنَ أرْوِقَةِ الْمَتْحَفِ، إذْ بِنا نَلْمَحُ فَوْجاً مِنَ السُّيّاحِ، كانَوا يَتَقَدَّمونَنا، ويَلْتَقِطُونَ صُوَراً لِلأزْياءِ التَّقْليدِيَّةِ والْحُلِيِّ والْمَنْسوجاتِ، والأواني الْفَخّارِيَّةِ والنُّحاسِيَّةِ والزُّجاجِيَّةِ الَّتي تُمَثِّلُ كُلَّ الْمَراحِلِ التَّاريخِيَّةِ لِوَطَني الْعَزيزِ؛ مِنْ إفْريقِيَّةٍ وفِنيقِيَّةٍ ورومانِيَّةٍ وعَرَبِيَّةٍ.. وعِنْدَما وَصَلوا إلى رِواقٍ يُسَمّى (عَلِي بابا) نَشِبَ خِلافٌ بَيْنَ سائِحَيْنِ شابَّيْنِ، ثُمَّ ما لَبِثَ أنْ تَطَوَّرَ إلى شِجارٍ. وهاتِ يالَكْمٌ، وهاتِ يالَطْمٌ، وهاتِ يا تَدافُعٌ، حَتّى سَقَطَ الْمُتَخاصِمانِ على تِمْثالِ عَروسٍ..لأتْرُكْ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ، فَلَرُبَّما لاتَهُمُّكُمْ: بَعْدَ أنْ شاهَدْنا باقِي الأَرْوِقَةِ، عُدْنا إلى الْمَدْرَسَةِ فَرِحينَ نَشِطينَ، ودَخَلْنا حُجْرَتَنا الدِّراسِيَّةَ لِنُناقِشَ جَوْلَتَنا الْمَتْحَفِيَّةَ، غَيْرَ أنَّنا تَفاجَأْنا بِالْمُعَلِّمِ، يَمُرُّ بَيْنَ الصُّفوفِ صامِتاً، ويَداهُ إلى خَلْفِهِ، مُتَجَهِّمَ الْوَجْهِ، يُحَمْلِقُ فينا على غَيْرِ عادَتِهِ. وبَيْنِ الْحينِ والآخَرِ يَفْرِكُ يَدَيْهِ بِعَصَبِيَّةٍ!..تَساءَلْنا في أنْفُسِنا مُسْتَغْرِبينَ:
– أيْنَ وَجْهُهُ الْبَشوشُ؟..أيْنَ عَيْناهُ الْمُتَلأْلِئَتانِ فَرَحاً؟..أيْنَ حَرَكاتُهُ النَّشيطَةُ؟..ماالَّذي هَمَّهُ؟..لَمْ نَقْتَرِفْ ذَنْباً فَيَغْضَبَ عَلَيْنا؟..وأخيراً، وَقَفَ أمامَنا، وتَساءَلَ غاضباً:
– أهَذِهِ ثِقَتي فيكُمْ؟!..أهَذِهِ تَرْبِيَتي لَكُمْ؟!..أيْنَ هِيَ نَصائحي الْغالِيَةُ مُنْذُ بِدايَةِ السَّنَةِ، بَلْ أيْنَ نَصائحُ آبائِكُمْ وأُمَّهاتِكُمْ؟!..وماذا اسْتَفَدْتُمْ مِنَ الْكُتُبِ والْمَجَلاَّتِ والْقِصَصِ الَّتي قَرَأْتُمْ؟!..هَيَّا، تكلَّموا!
رَفَعْتُ أُصْبُعي عالِياً، فَأذِنَ لي بِالْكَلامِ: لَقَدْ زُرْنا الْمَتْحَفَ ورَجَعْنا مِنْهُ في غايَةِ النِّظامِ والأدَبِ، ولَمْ نَرْتَكِبْ خَطَأً!
كَزَّ على أسْنانِهِ مُتَسائلاً: لَمْ تَرْتَكِبوا خَطَأً؟!..سُبْحانَ اللَّهِ!..وبِماذا تُسَمّي ذَلِكَ الْفِعْلَ السَّيِّئَ الَّذي أحْرَجْتُموني بِهِ أمامَ مُديرِ الْمَتْحَفِ؟!
أجَبْتُهُ في دَهْشَةٍ: نُؤَكِّدُ لَكَ، بِأنَّناكُنّا طيلَةَ الزِّيارَةِ، مُؤَدَّبينَ، لَمْ نُحْدِثْ فَوْضى أوْ ضَوْضاءَ، ولالَطَّخْنا أرْضَ وجُدْرانَ الْمَتْحَفِ، ولامَسَسْنا بِأيْدينا الْمَعْروضاتِ، ولاسَخِرْنا مِن سائحَيْنِ أساءا الأدَبَ، وتَشاجَرا أمامَنا في رِواقِ (عَلي بابا)..
قاطَعَني قائلاً: لايَهُمُّني السّائحانِ، وماقُلْتَهُ صَحيحٌ. لَكِنَّني أعْني شَيْئاً آخَرَ، لَمْ يَخْطُرْ بِبالي الْبَتَّةَ!
قُلْتُ في ذُهولٍ: اِسْمَحْ لي أنْ أقولَ إنَّ كافَّةَ أصْدِقائي لَمْ يَفْهَموا ماتَعْنيهِ!
رَدَّ عَلَيَّ: سَأُوَضِّحُ لَكُمْ جَيِّداً: إنَّ أحَدَكُمْ اسْتَغَلَّ الْمَعْرَكَةَ بَيْنَ السّائحَيْنِ، فَأخْفى في جَيْبِهِ لُؤْلُؤَةً، كانَتْ تَتَوَسَّطُ عِقْدَ تِمْثالِ الْعَروسِ الَّذي سَقَطَ..
تَبادَلْنا نَظَراتِ الدَّهْشَةِ والاسْتِغْرابِ، لانُصَدِّقُ ماحَدَثَ : هَلْ نَحْنُ تَلاميذُ أمْ…؟!..هَلْ زُرْنا الْمَتْحَفَ لِنَتَعَرَّفَ على حَضارَتِنا أمْ لِـ…؟!..أيَكونَ بَيْنَنا مَنْ يَسـْ…ونَحْنُ لانَدْري؟!..لالا، هَذا يَسْتَحيلُ أنْ يَقَعَ!
وقَبْلَ أنْ يَرِنَّ الْجَرَسُ لِنَنْصَرِفَ، نَبَّهَنا قائلاً : أرْجو في حِصَّةِ الْمَساءِ، أنْ أدْخُلَ الْفَصْلَ فَأجِدَ اللُّؤْلُؤَةَ الْمُخْتَفِيةَ فَوْقَ مَكْتَبي، أوْيَدُلَّني أحَدُكُمْ عَلى مَكانِها. إنَّكُمْ تَتَوَفَّرونَ على الْوَقْتِ الْكافي لإحْضارِها، وثِقوا بِأنَّني لَنْ أُعاقِبَ الْفاعِلَ إذا سَلَّمَها لي يَداً بِيَدٍ، واعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ!
في الْمَنْزِلِ، لاحَظَ أخَوايَ لَوْنَ وجْهي الشّاحِبَ، وسُكونيغَيْرَ الْعادِيِّ، فَسَألَني أخي: هَلْ زُرْتُمُ الْمَتْحَفَ ؟
أجَبْتُهُ: أجَلْ، لَكِنّنا سَوْفَ لانَزورُ الْحَديقَةَ!
سَألَني ثانِيَةً:ولِماذا؟!..هَلْ أسَأْتُمُ الأدَبَ، أيُّها الْعَفاريتُ؟!
أجَبْتُهُ: اِكْتَشَفَ مُديرُ الْمَتْحَفِ اخْتِفاءَ لُؤْلُؤَةٍ مِنْ عِقْدِ تِمْثالٍ في رِواقِ (عَلي بابا) ولَمْ يَجِدْ مَنْ يُلْصِقُ بِهِ التُّهْمَةَ سِوانا!
فَكَّرَ وفَكَّرَ، ثُمَّ سَألَ: وهَلْ كانَ عَلِيُّ بابا حاضِراً؟!
اِنْفَجَرْتُ ضاحِكاً: ألا تَعْرِفُ عَلِي بابا؟!..إنَّهُ بَطَلُ قِصَّةٍ قديـمةٍ في (ألْفِ لَيْلَةٍ ولَيْلَةٍ)!
وهُنا أتى دَوْرُ أُخْتي، فَبادَرَتْ بِالسُّؤالِ: وهَلْ كُنْتُمْ وَحْدَكُمْ في الرِّواقِ ؟
أجَبْتُها: لا،كانَ هُناكَ سُيّاحٌ، واثْنانِ مِنْهُمْ، أحْدَثا فَوْضى وتَشاجَرا بِالأيْدي والأرْجُلِ!
تَلأْلأَتْ عَيْناها دَهْشَةً: إيهِ، وماذا بَعْدُ ؟!..هَيّا، أكْمِلْ!
قُلْتُ: أسْقَطَ أحَدُهُما الآخَرَ على تِمْثالِ الْعَروسِ، ثُمَّ قاما كَأنَّ شَيْئاً لَمْ يَقَعْ بِالْمَرَّةِ!
فَكَّرَتْ: بَقِيَ لي سُؤالٌ!..اِبْتَسَمْتُ: اِسْألي ماشِئْتِ، أيَّتُها الْمُتَحَرِّيَّةُ!..سَأَلَتْ: هَلِ اقْتَرَبَ أحَدُكُمْ مِنْهُما؟
أكَّدْتُ: لا، طَبْعاً، لأنَّنا أطْفالٌ صِغارٌ، لانَسْتَطيعُ أنْ نَتَدَخَّلَ لِنُفَرِّقَ بَيْنَهُما!
اِبْتَسَمَتْ كَأنَّها عَثَرَتْ على رَأْسِ الْخَيْطِ: هَذا يَعْني أنَّهُما اصْطَنَعا (الشِّجارَ)!
قفزَ أخي مُسْتَفْهِماً: أتَعْنينَ أنَّ السّائحَيْنِ هُما اللَّذانِ..؟.لالا، يَأُخْتي، ماكانَ لِتُفَكِّري هَكَذا!..ألاتَعْرِفينَ أنَّهُما حَلاَّ بِبَلادِنا لِلرّاحَةِ والسِّياحَةِ؟
رَدَّتْ ضاحِكَةً: بَلى، وأنْتَ ألاتَعْرِفُ أنَّ أطْفالَنا زاروا الْمَتْحَفَ لِيَتَعَرَّفوا حَضارَتَهُمْ، لا لـِ…!
اِلْتَفَتْتُ إلى أخي: حَقاًّ ما قالَتْ؛ فَكٌلُّنا أطْفالٌ مُتَخَلِّقونَ، نُحِبُّ وَطَنَنا حُباًّ كَبيراً. وما الْمَتْحَفُ إلاّ الْوَجْهُ الْحَقيقِيُّ
لِتاريخِ هَذا الْوَطَنِ وحَضارَتِهِ الْعَظيمَةِ. فَكَيْفَ نُخْفي شَيْئاً هُوَ مِلْكُنا جَميعاً؟!
فَكَّرَ قَليلاً، ثُمَّ قالَ لَها: إذَنْ، تُريدينَ أنْ تَقولي إنَّ السّائحَيْنِ هُما اللَّذانِ أخْفَيا اللُّؤْلُؤَةَ؟
أيَّدَتْهُ: أجَلْ، ولِكَيْ نَتَأكَّدَ، يَنْبَغي أنْ نَتَّصِلَ فَوْراً بِالْمُعَلِّمِ، ونُقْنِعَهُ بِأدِلَّتِنا، لِيَعْرِضَ الأمْرَ على مُديرِ الْمَتْحَفِ والشُّرْطَةِ.
وبِما أنَّ مُعَلِّمَنا انْتَظَرَ طَويلاً أنْ يَظْهَرَ الْفاعِلُ، أوْ يَجِدَ اللُّؤْلُؤَةَ مَوْضوعَةً فَوْقَ مَكْتَبِهِ، فَقَدْ فَكَّرَ في أنْ يَنْقُلَ رَأْيَ أُخْتي إلى عَميدِ الشُّرْطَةِ، الَّذي لَمْ يَتَرَدَّدْ في التَّعْبيرِ عَنْ إعْجابِهِ بِها: لَوْ كانَتْ هَذِهِ الطِّفْلَةُ كَبيرَةً، لَطَلَبْنا مِنْها أنْ تَشْتَغِلَ مَعَنا مُتَحَرِّيَّةً!
مَرَّتْ أيّامٌ قَليلَةٌ، وإذا بِأبي يَتَوَصَّلُ بِرِسالَةٍ مِنَ الْعَميدِ، يَطْلُبُ فيها إذْنَهُ بِأخْذي إلى الْمَطارِ، فَمُوافَقَةُ والِدي ضَرورِيَّةٌ، لأنَّني طِفْلٌ قاصِرٌ، أيْ دونَ السِّنِّ الْقانونِيَّةِ. ولَمّا وافَقَ أبي، تَوَجَّهْنا، أنا والْعَميدُ إلى الْمَطارِ. أدْخَلَني قاعَةً، وهَمَسَ في أُذْني: سَتُشاهِدُ مِنْ هَذِهِ النّافِذَةِ سُيّاحاً يَمُرّونَ أمامَكَ، وماعَلَيْكَ إلاّ أنْ تَدُلَّني على السّائحَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأيْتَهُما يَتَشاجَرانِ في الْمَتْحَفِ. وحاذِرْ أنْ تَكْذِبَ أوْ تُخْطِئَ!
صُدْفَةً، الْتَفَتُّ نَحْوَ النّافِذَةِ، وهُوَ يَنْصَحُني، فَسحَرَتْني حَرَكَةُ الطّائراتُ، تَنْزِلُ وتَرْتَفِعُ، وأضْواءُ بُرْجِ الْمُراقَبَةِ، ومَصابيحُ الْمُدَرَّجاتِ تَلْمَعُ مِنْ بَعيدٍ، ووُفودُ الْمُسافِرينَ تَتَقاطَرُ على الْبَوّاباتِ، والْجُمْرُكِيّونَ يَذْرَعونَ الْمَمَرّاتِ جيئَةً وذَهاباً..وأنا أتَتَبَّعُ الْحَرَكاتِ، إذْ بِعَيْنيَّ تَقَعانِ على السّائحَيْنِ مارَّيْنِ أمامي، يَجُرّانِ بِصُعوبَةٍ حَقيبَتَيْنِ كَبيرَتَيْنِ ثَقيلَتَيْنِ، ويُرْسِلانِ نَظَراتٍ خائفَةً، يَميناً ويَساراً، كَأنَّهُما يَتَوَجَّسانِ شَيْئاً سَيِّئاً، لِدَرَجَةِ أنَّ أحَدَهُما عَثَرَ في حَقيبَتِهِ، وكادَ يَسْقُطُ على وَجْهِهِ، لَوْلا أنْ تَمَسَّكَ بِكُمِّ قَميصِ صَديقِهِ: ألاتَسْمَعُني، يابُنَيَّ؟!..أنا أُكَلِّمُكَ، وأنْتَ تَنْظُرُ مِنَ النّافِذَةِ؟!
سَألَني الْعَميدُ، فَأجَبْتُهُ: اُنْظُرْ، هاهُما السّائحانِ الْمَعْنِيانِ!
قالَ مُرْتَبِكاً، وفَتَحَ الْبابَ بِسُرْعَةٍ: اِنْتَظِرْني هُنا، لاتَنْصَرِفْ حَتّى أعودَ!
وبِكامِلِ اللِّياقَةِ، تَقَدَّمَ مِنْهُما،كاشِفاً لَهُما بِطاقَةَ الشُّرْطَةِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُما أنْ يَتَفَضَّلا بِالدُّخولِ إلى الْقاعَةِ، فَتَبِعاهُ رِجْلاً بِرِجْلٍ. وَضَعَا حَقيبَتَيْهِما فَوْقَ طاوِلَةٍ طَويلَةٍ، وأمَرَهُما بِفَتْحِهِما. فَتَرَدَّدا في الْبِدايَةِ، وأمامَ إصْرارِ الْعَميدِ، لَمْ يَجِدا بُداًّ مِنْ ذَلِكَ!
هَلْ تَعْرِفونَ ماذا كانا يُخَبِّئانِ؟!..لَنْ تُصَدِّقوني إذا قُلْتُ لَكُمْ: كُؤوساً وصُحوناً نُحاسِيَّةً، وألْبِسَةً ولَوْحاتٍ وكُتُباً ووَثائقَ وصُوَراً وعُمْلاتٍ، وهاتِ ياتُحَفٌ!..غَيْرَ أنَّ الْمُفاجَأةَ الَّتي أخْرَسَتْنا، هِيَ عِنْدَما قَلَبَ كَأساً فَسَقَطَتْ مِنْهُ (اللُّؤْلُؤَةُ)..ولَمْ أشْعُرْ بِنَفْسي، إلاّ وأنا أمُدُّ يَدي داخِلَ باقي الْكُؤوسِ، فَإذا بِها تَلْمَسُ أوْراقا نَقْدِيَّةً: ما هَذا الَّذي سَتَنْقُلانِهِ إلى بِلادِكُما؟!
سَألَهُما مُسْتَغْرِباً، فَرَدَّ أحَدُهُما مُتَلَعْثِماً:
ـ هَذِهِ مُجَرَّدُ..تُحَفٍ..اشْتَرَيْناها مِنَ الأسْواقِ!
ـ حَسَناً، لِنَفْتَرِضْ أنَّكُما فِعْلاً اشْتَرَيْتُماها، فَهَلْ لَدَيْكُما وُصولاتُ الشِّراءِ؟
ـ لا، لَقَدِ اشْتَرَيْناها مِنْ بائعينَ مُتَجَوِّلينَ، الْتَقَيْناهُمْ صُدْفَةً في الطَّريقِ!
اِقْتَرَبَ مِنْهُما قائلاً: أمْعِنا النَّظَرَ مَعي في هَذِهِ التُّحَفِ، ألا تَرَيانِ أنَّها تَحْمِلُ طابَعَ دارِ الآثارِ؟.. هَذا يَعْني شَيْئَيْنِ: أوَّلاً،
لاتُباعُ ولاتُشْتَرى، لأنَّها مِلْكٌ لي ولِهَذا الطِّفْلِ، ولِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أفْرادِ شَعْبِنا. وثانِياً، أُخِذَتْ بِدونِ إذْنٍ، وكِدْنا نَفْقِدُها
لَوْلا يَقَظَةُ أطْفالِنا النُّبَهاءِ، الَّذينَ يُحافِظونَ على تُراثِ آبائِهِمْ وأجْدادِهِمْ!
سَكَتَ بُرْهَةً، فيما طَأْطَأَ السّائحانِ رَأْسَيْهِما خَجَلاً، ثُمَّ أرْدَفَ قائلاً، وهُوَ يَضَعُ الْقَيْدَ في يَدَيْهِما: يُؤْسِفُني أنْ أعْرِضَكُما على الْمَحْكَمَةِ، لِتَقولَ كَلِمَتَها الْفَصْلَ في حَقِّكُما!
وساقَهُما أمامَهُ مُقَيَّدَيْنِ، فيما عُدْتُ أنا إلى مَدْرَسَتي، أزُفُّ لِمُعَلِّمي وأصْدِقائي خَبَرَ بَراءَتِنا، وفَضْلاً عَنْ كُلِّ ذَلِكَ: ضَمِنْتُ لَهُمْ ثِقَةَ آبائنا وأُمَّهاتِنا بِنا، وثِقَةَ الْوَطَنِ فينا كَأبْناءٍ أبْرارٍ، يَصونونَ تُراثَهُمْ..!
العربي بنجلون