نحولة والذّبابة

تاريخ النشر: 22/02/16 | 12:06

فِي كُلِّ يَوْمٍ جَمِيلٍ مِنْ أَيَّامِ الْرَّبِيعِ،كَانَ سِرْبُ الْنَّحْلِ يَخْرُجُ إِلَى الْطَّبِيعَةِ مُتَنَقِّلًا بَيْنَ الْحَدَائِقِ وَالْحُقُولِ، بَحْثًا عَنْ رَحِيقِ الْأَزْهَاِر الْنَّدِيَّةِ، فَيَحْمَلُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْهُ دَاخِلَ بَطْنِهِ،ثُمَّ يُخَزِّنُهُ دَاخِلَ الْخَلِيَةِ فَيَصْنَعُ مِنْهُ عَسَلًا شَهِيًّا، فِيهِ شِفَاٌء لِلْنَّاسِ، وَ كانَ هَذَا الْعَمَلُ يَتَطَلَّبُ مِنَ الْنَّحْلِ جُهْدًا كَبِيرًا، وَ انْضِبَاطًا شَدِيدًا، لِذَلِكَ فَهُوَ يَعِيشُ فِي مُجْتَمَعٍ مُنَظَّمٍ، لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْخَلِيَّةِ وَظِيفَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَ لِكُلِّ خَلِيَّةٍ مَلِكَةٌ تَقُومُ بِوَضْعِ الْبَيْضِ، وَ الْعِنَايَةِ بهِ حَتِّى يَفْقِسَ، فَيَكْبُرَ وَ يُصْبِحَ نَحْلًا عَامِلًا نَشِيطًا.
لَكِنَّ الْنَّحْلَةَ الْصَّغِيرَةَ سَئِمَتْ مُرَافَقَةَ نَفْسِ الْأَصْدِقَاءِ دَائِمًا، وَالْقِيَامِ بِنَفْسِ الْأَعْمَالِ الْشَّاقَةِ، وَالإِنْصِيَاعِ لِلْقَوَانِينِ الْصَّارِمَةِ وَزِيَارَةِ نَفْسِ الْأَمَاكِنِ، فَقَرَّرَتْ أَنْ تَنْسَحِبَ مِنَ الْمَجْمُوعَةِ،مُتَّجِهَةً نَحْوَ عَالَمٍ جَدِيدٍ،بَحْثًا عَنْ الْتَّغْيِير وَالْتَّجْدِيدِ..
فَطَارَتْ بَعِيدًا إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ مُجَاوِرَةٍ، وَلَفَّتْ شَوَارِعَهَا حَتَى دَخَلَتْ أَحَدَ مَحَلَّاتِ الْحَلَوِيَّاتِ، وَهُنَاكَ لَمَحَتْ مَخْلُوقًا آخَرَ يَطِيرُ بِجَانِبِهَا،فَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: لَمْ أَرَ مِثْلَكِ مِنْ قَبْلُ، هَلْ يُمْكِنُنِي أَنْ أَتَعَرَّفَ عَلَيْكِ؟ أَنَا نَحُّولَةُ الْصَّغِيرَةُ. فَرَدَّتْ الْحَشَرَةُ الْسَّوْدَاءُ نَعَمْ يَسُرُّنِي ذَلِكَ،أَنَا ذُبَابَةُ، وَ أَعِيشُ هُنَا فِي الْقَرْيَةِ،لَكِنَّكَ تَبْدِينَ غَرِيبَةً عَنْ الْمَكَانِ يَا نَحُّولَةُ. فَقَالَتْ نَحُّولَةُ: نَعَمْ أَنَا غَرِيبَةٌ عَنْ الْمَكَانِ، فَقَدْ جِئْتُ مِنَ الْحُقُولِ.
و َبَعْدَ أَخْذٍ وَ رَدٍ فِي الْحَدِيثِ،دَعَتْهَا الْذُّبَابَةُ إِلَى نُزْهَةٍ كَيْ تُعَرِّفُهَا عَلَى أَزِقَّةِ الْقَرْيَةِ وَشَوَارِعِهَا، وَفِي الْنِّهَايَةِ دَعَتْهَا إِلَى بَيْتِهَا. وَ ظَلَّتَا تِلْكَ الْلَّيْلَةَ مَعًا، وَ رَغْمَ تَرْحِيبِ الْذُّبَابَةِ إِلَّا أَنَّ نَحُّولَةُ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ
الْنَّوْمِ، فَالْمَكَانُ كَانَ قَذِرًا جِدًا، وَ تَنْبَعِثُ مِنْهُ رَائِحَةٌ نَتِنَةٌ.
وَ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ الْتَّالِي، قَرَّرَتْ نَحُّولَةُ أَنْ تَعُودُ إِلَى بَيْتِهَا، فَقَدْ كَانَتْ مُتْعَبَةً جِدًا مِنْ قِلَّةِ الْنَّوْمِ. وَطَلَبَتْ مِنْهَا الْذُّبَابَةُ أَنْ تَظَلَّ مَعَهَا قَلِيلًا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ قَدْ تَعَرَّفَتْ عَلَيْهَا بِشَكْلٍ جَيِّدٍ، لَكَنَّ نَحُّولَةَ اعْتَذَرَتْ، وَاقْتَرَحَتْ عَلَيْهَا اقْتِرَاحًا آَخَرَ، قَائِلَةً: أَشْكُرُكِ جِدًا عَلَى الْتَّرْحِيبِ الَّذِي أَحَطْتِنِي بِهِ، لَكِنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ هُنَا،وَصَمَتَتْ بُرْهَةً ثُمَّ قَالَتْ: يُمْكِنُكِ مُرَافَقَتِي إِلَى بَيْتِي إِنْ أَرِدْتِ ذَلِكَ، وَأَرْجُو أَنْ تُوَافِقِي. وَوَافَقَتْ الْذُّبَابَةُ عَلَى دَعْوَتِهَا، وَطَارَتَا مَعًا حَتَّى وَصَلَتَا إِلَى الْخَلِيَّةِ، أَيْنَ كَانَتْ مَلِكَةُ الْنَّحْلِ تَنْتَظِرُ ابْنَتَهَا- الَّتِي تَخَلَّفَتْ عَنْ الْمَجْمُوعَةِ- بِقَلَقٍ شَدِيدٍ. وَسُرْعَانَ مَا رَاحَتْ تُؤَنِّبُهَا عَلَى مَا فَعَلَتْهُ،وَتَحْضُنُهَا فِي نَفْسِ الْوَقْتِ فَرْحَةً بِعَوْدَتِهَا سَالِمَةً، وَفَجْأَةً انْتَبَهَتْ إِلَى وُجُودِ الْذُّبُابَةِ، فَسَأَلَتْ نَحُّولَةُ: أَلَنْ تُعَرِّفِينَنِي عَلَى صَدِيقَتِكِ الْجَدِيدَةِ؟ فَرَدَّتْ نَحُّولَةُ: إِنَّهَا صَدِيقَتِي ذُبَابَةُ، لَقَدْ تَعَرَّفْتُ عَلَيْهَا فِي الْقَرْيَةِ، وَاسْتَقْبَلَتْنِي فِي بَيْتِهَا اسْتِقْبَالًا حَارًّا، فَدَعَوْتُهَا أَنَا أَيْضًا إِلَى بَيْتِي، فَهَلْ تَسْمَحِينَ لَهَا بِالْمُكُوثِ مَعَنَا يَا أُمِّي؟.
كَانَتْ الْمَلِكَةُ قَلِقَةً عَلَى صَغِيرَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْصَّدِيقَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا، وَلَا تَعْرِفُ طِبَاعَهَا، لَكِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْ اِبْنَتَهَا بِقَلَقِهَا، بَلْ اكْتَفَتْ بِنُصْحِهَا عَلَى انْفِرَادٍ،قَائِلَةً: نَحْنُ لَمْ نَعْتَدْ الْتَّعَامُلَ مَعَ الْغُرَبَاءِ يَا ابْنَتِي، وَ رَغْمَ ذَلِكَ لَنْ أَمْنَعَكِ عَنْ اتِّخَاذِ الْأَصْدِقَاءِ، لَكَنَّنِي أُوصِيكِ أَنْ تُحْسِنِي الْإِخْتِيَارَ، فَهَزَّتْ نَحُولَةُ رَأْسَهَا مُوَافِقَةً، وَهِيَ تَقُولُ: حَاضِرْ يَا أُمِّي، أَعِدُكِ أَنَّنِي سَأَكُونُ حَذِرَةً، لَا تَقْلَقِي عَلَيْ، وَمِنْ ثَمَّةَ ابْتَسَمَتْ الْمَلِكَةُ، وَطَلَبَتْ مِنْ ابْنَتِهَا أَنْ تَأْخُذَ صَدِيقَتَهَا، وَتُنَظِّفَهَا وَتُعْطِيهَا جَنَاحًا بِالْخَلِيَّةِ كَيْ تَرْتَاحَ. قَبَّلَتْ نَحُّولَةُ أُمَّهَا فَرِحَةً بِمُوَافَقَتِهَا، وَأَسْرَعَتْ إِلَى صَدِيقَتِهَا، وَسَاعَدَتْهَا عَلَى تَنْظِيفِ نَفْسِهَا، رَغْمَ أَنَّ الْذُّبَابَةَ لَمْ يُعْجِبْهَا أَمْرُ الْتَّنْظِيفِ هَذَا.
وَ أَثْنَاءَ مُكُوثِ الْذُّبَابَةِ فِي الْخَلِيَّةِ مَعَ الْنَّحْلِ، كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهَا لَا تُعْجِبُ الْمَلِكَةَ الْأُمَّ، فَقَدْ كَانَتْ كَسُولَةً لَا تَنْهَضُ بَاكِرًا مُهْمِلَةً تُبَعْثِرُ أَغْرَاضَهَا هُنَا وَهُنَاكَ، تُلَطِّخُ أَيَّ مَكَانٍ تَجْلِسُ فِيهِ بِبَقَايَا الْأَكْلِ، وَكَانَتْ كُلَّمَا خَرَجَتْ مِنَ الْخَلِيَّةِ، تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّسِخَةً جِدًّا تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ لَا تُطَاقُ، وَرَغْمَ كُلِّ الْجُهُودِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْمَلِكَةُ مَعَ ابْنَتِهَا الْصَّغِيرَةِ لِتَغْيِيرِ طِبَاعِ الْذُّبَابَةِ، وَتَحْسِين ِ سُلُوكِهَا، إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَبَاءَتْ كُلُّ مُحَاوَلَاتِهِمَا بِالْفَشَلِ.وَتَحَمَّلَتْ الْمَلِكَةُ طَوِيلًا، إِلَى أَنْ حَدَثَ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، أَنْ انْتَشَرَ مَرَضٌ دَاخِلَ الْخَلِيَّةِ، بِسَبَبِ الْجَرَاثِيمِ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْذُّبَابَةُ فِي جِسْمِهَا كُلَّمَا عَادَتْ مِنْ رِحْلَتِهَا نَحْوَ أَمَاكِنِ رَمْيِ الْنُّفَايَاتِ، وَانْتَقَلَتْ عَدْوَاهُ بِسُرْعَةٍ،وَأُصِيبَ بِهِ الْكَثِيرُ مِنَ الْنَّحْلِ، وَكَادَتْ تَقْضِي عَلَى أَفْرَادِ الْخَلِيَّةِ بِأَكْمَلِهَا.
وَعِنْدَئِذٍ نَفَذَ صَبْرُ الْأُمِّ، فَطَلَبَتْ لِقَاَءَ ابْنَتِهَا عَلَى انْفِرَادٍ، وَقَالَتْ لَهَا بِغَضَبٍ: لَقَدْ فَعَلْنَا كُلَّ مَا فِي وُسْعِنَا كَيْ نَتَحَمَّلَ وُجُودَ صَدِيقَتِكِ مَعَنَا، لَكِنَّنِي لَنْ أَسْمَحَ أَبَدًا أَنْ تَضُرَّ بِخَلِيَّتِي، وَعَلَيْكِ أَنْ تَطْلُبِي مِنْهَا أَنْ تَرْحَلَ فَوْرًا.
لَمْ يَكُنْ سَهْلًا عَلَى نَحُّولَةَ الْطَيِّبَةَ أَنْ تَطْرُدَ صَدِيقَتَهَا، فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَكْتَشِفَ الْعَالَمَ أَكْثَرَ وَادَّعَتْ أَنَّ وَالِدَتَهَا سَمَحَتْ لَهَا بِالْمُغَادَرَةِ، وَغَادَرَتْ الْنَّحْلَةُ الْصَّغِيرَةُ بَيْتَهَا بِرُفْقَةِ الْذُّبَابَةِ الْمُهْمِلَةِ، وَفِي طَرِيقِهِمَا حِينَ كَانَتَا تَتَجَاذَبَانَ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ، وَرَغْمَ كُلِّ الْحَفَاوَةِ وَالْتَّرْحِيبِ الَّتِي اسْتُقْبِلَتْ بِهَا الْذُّبَابَةُ، إَلَّا أَنَّهَا رَاحَتْ تَقُولُ: حَيَاتُكُمْ مُمِلَّةٌ جِدًا يَا نَحُّولَةُ كَيْفَ كُنْتِ تَتَحَمَّلِينَهَا؟ كُلُّ يَوْمٍ عَمَلٌ، كُلُّ يَوْمٍ نِظَامٌ، كُلُّ يَوْمٍ تَنْظِيفٌ، لِمَاذَا تُتْعِبُونَ أَنْفَسُكَمْ هَكَذَا، فَقَطْ مِنْ أَجْلِ لُقْمَةٍ صَغِيرَةٍ، سَتَرَيْنَ كَيْفَ أَعِيشُ أَنَا حُرَّةً طَلِيقَةً، لَا يَهُمُّنِي شَيْءٌ فِي الْحَيَاةِ، وَ لَا أَحَدَ يَتَحَكَّمُ بِي، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، وَفِي أَيِ وَقْتٍ أُرِيدُ، وَأَذْهَبُ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ أَشَاءُ.
وَبَعْدَ رِحْلَةٍ طَوِيلَةٍ، وَصَلَتَا إِلَى الْقَرْيَةِ وَكَانَتَا جَائِعَتَيْنِ جِدًا، وَبَعْدَ الْبَحْثِ طَوِيلًا، وَجَدَتَا بَيْتَ إِنْسَانٍ كَانَتْ كُلُّ نَوَافِذِهِ مَفْتُوحَةٌ، فَتَسَلَّلَتَا إِلَى الْمَطْبَخِ أَيْنَ كَانَتْ تَنْبَعِثَ رَائِحَةُ الْطَّعَامِ الْمُوَظَّبِ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَرَاحَتَا تَتَنَقَّلَانِ بَينَ أَصْنَافِ الْأَكْلِ الْشَّهِيِّ، لَكِنَّهُمَا أَصْدَرَتَا صَوْتًا، لَفَتَ انْتِبَاهَ رَبَّةَ الْبَيْتِ، الَّتِي جَاءَتْ مُسْرِعَةً تَحْمِلُ فِي يَدِهَا مِضْرَبًا، وَبَدَأَتْ تَضْرِبُهُمَا بِهِ، وَتُحَاوِلُ طَرْدَهُمَا، دُونَ أَنْ تَنْتَبِهَ إِلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَكُنْ ذُبَابَةً، فَأَصْبَحَتْ نَحُّولَةُ وَالْذُّبَابَةُ تَطِيرَانِ هُنَا وَهُنَاكَ، فَتَصْطَدِمَانِ بِالْجُدْرَانِ تُحَاوِلَانِ الْفِرَارَ مِنَ الْمِضْرَبِ، وَبِصُعُوبَةٍ بَالِغَةٍ تَمَكَّنَتْ نَحُولَةُ فَقَطْ مِنِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ فَتَحَاتِ الْسَّتَائِرِ، لَكِنَّهَا سُرْعَانَ مَا انْتَبَهَتْ إِلَى أَنَّ صَدِيقَتَهَا لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ الْهَرَبِ، فَأَطَلَّتْ بِرَأْسِهَا مِنَ الْنَّافِذَةِ الْكبِيرَةِ، فَرَأَتْ ذُبَابَةَ لَا تَزَالُ تَطِيرُ وَتُحَاوِلُ أَنْ تَنْجُو َبِنَفْسِهَا، فَيَكَادُ الْمِضْرَبُ يُصِيبُهَا مَرَّةً، وَتُفْلِتُ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى.

وَلَمْ تَتَمَكَّنْ الْنَّحْلَةُ الْصَّغِيرَةُ أَنْ تَتْرُكَ صَدِيقَتَهَا تُصَارِعُ الْخَطَرَ لِوَحْدِهَا، وَرَغْمَ أَنَّهَا كَانَتْ خَائِفَةً جِدًا، إِلَّا أَنَّهَا تَشَجَّعَتْ، وَدَخَلَتْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْمَطْبَخِ، وَبِسُرْعَةٍ اتَّجَهَتْ نَحْوَ الْذُّبَابَةِ فَأَمْسَكَتْهَا مِنْ يَدِهَا، وَسَحَبَتْهَا مَعَهَا إِلَى الْخَارِجِ، وَ اخْتَفَتَا خَلْفَ الْجِدَارِ، وَنَفَسُ كُلٍ مِنْهُمَا يَكَادُ يَنْقَطِعُ مِنْ شِدَّةِ الْتَّعَبِ وَ الْخَوْفِ. وَنَظَرَتْ نَحُّولَةُ إِلَى رَفِيقَتِهَا قَائِلَةً: مَا بِكِ؟ أَلَمْ تَرَيْ الْنَّافِذَةَ الَّتِي دَخَلْنَا مِنْهَا؟ لِمَاذَا لَمْ تَهْرُبِي وَبَقَيْتِ هُنَاكَ تُصَارِعِينَ الْمِضْرَبَ؟
فَرَدَّتْ الْذُّبَابَةُ: لَا تُؤَنِّبِينِي أَيَّتُهَا الْنَّحْلَةُ الْمُدَلَّلَةُ، فَأَنَا لَسْتُ ذَكِيَّةً مِثْلَكِ، وَذَاكِرَتِي ضَعِيفَةٌ جِدًا، وَ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَتَذَكَّرَ مِنْ أَيْنَ دَخَلْتُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
وَعِنْدَهَا غَضِبَتْ نَحُّولَةُ أَخِيرًا، وَرَدَّتْ عَلَيْهَا قَائِلَةً: هَلْ تَصِفِينَنِي الْآَنَ بِالْمُدَلَّلَةِ؟ وَهَلْ هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْجَمِيلَةُ الَّتِي تَعِيشِينَهَا؟ أَنْتِ تَتَطَفَّلِينَ عَلَى الْنَّاسِ، وَتَسْرِقِينَ أَكْلَهُمْ، وَتُلَوِّثِينَ مُحِيطَهُمْ، وَعَرَّضْتِ حَيَاتِي وَحَيَاتَكِ لِلْخَطَرِ.
فَقَالَتْ ذُبَابَةُ: أَنَا لَا أَحْتَاجُ إِلَى نَصَائِحِكِ، هَكَذَا أعِيشُ أَنَا، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَكِ، فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَرْحَلِي فَارْحَلِي.
شَعَرَتْ نَحُّولَةُ بِالْنَّدَمِ عَلَى أَنَّهَا تَرَكَتْ بَيْتَهَا مِنْ أَجْلِ ذُبَابَةَ، فَوَدَّعَتْهَا قَائِلَةً: يَجِبُ أَنْ أَعُودَ إِلَى بَيْتِي الْآَنَ، أَعْرِفُ أَنَّ أُمِّي قَلِقَةٌ عَلَيَ جِدًا، وَدَاعًا يَا ذُبَابَةُ، وَأَتَمَنِّى لَكِ حَظًا جَيِّدًا. وَافْتَرَقَتْ الْصَّدِيقَتَانِ وَعَادَتْ نَحُولَةُ إِلَى الْخَلِيَّةِ، وَدَخَلَتْ مُسْرِعَةً،وَارْتَمَتْ بَيْنَ أَحْضَانِ أُمِّهَا تَبْكِي، وَ تَطْلُبُ مِنْهَا أَنْ تُسَامِحَهَا، وَحَكَتْ لَهَا عَمَّا حَدَثَ.
فَضَمَّتْهَا الْمَلِكَةُ بَيْنَ أَحْضَانِهَا، وَقَالَتْ لَهَا: لَقَدْ حَذَّرْتُكِ يَا ابْنَتِي، وَأَخْبَرْتُكِ أَنَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَخْتَارَ أَصْدِقَاءَنَا بِشَكْلٍ جَيِّدً، وَعَلَيْكِ أَنْ تَعْلَمِي أَنَّ لِكُلِ مَخْلُوقٍ مِنَّا طِبَاعُهُ، وَحَيَاتُهُ الَّتِي اعْتَادَ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُكِ تَغْيِيرُ الْجَمِيعِ حَسْبَمَا تُرِيدِينَ، تَأَكَّدِي أَنَّ صَدِيقَتَكِ ذُبَابَةُ تَعِيشُ سَعِيدَةً فِي بِيئَتِهَا، كَمَا نَعِيشُ نَحْنُ سُعَدَاءَ فِي بِيئَتِنَا.
وَبَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَتْ الْنَّحْلَةُ الْصَّغِيرَةُ عَهْدًا عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَكُونَ حَذِرَةً جِدًا فِي اخْتِيَارِ الْأَصْدِقَاءِ الْمُنَاسِبِينَ لَهَا.

201

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة