أخناتون ومزامير داود

تاريخ النشر: 10/12/15 | 14:12

مقدِّمة: المزاميرُ هي عبارة ٌ عن أناشيد وتسابيح وترانيم في تمجيدِ عظمةِ الخالق حملتهَا كتبُ التوراةِ إلى العبرانيِّين لتصبحَ عنصرًا من عناصرالعقيدةِ،وتصوّر ركنا من شعائِرِهَا خَصَّت بها النبيَّ داود الذي كان يُرَدِّدُها بجمالِ الصوتِ الذي وَهبَهُ إيَّاهُ الإلهُ، وقد نَسبَها مؤَرِّخُو الأديان إلى النبي داود الذي ارتبطت باسمِهِ على مَرِّ الاجيال ولم يَرِدْ لها ذكرٌ بالنسبةِ لمن سبقهُ من أنبياء بني إسرائيل *1.

مدخل: إنَّ مصدرَ المزامير كانَ موضعَ شكٍّ عندَ الكثيرين من مؤَرِّخي العقائد والدياناتِ والمُدوِّنين وَكُتّابِ الحضاراتِ، والبعضُ نسبَ مصدرَها إلى كتبِ التوراة نفسها لأنَّ أسلوبَ كتابتها هو أسلوبُ الشعر الغنائي الذي اشتهرَ بهِ المصريُّون القدماء في أدبِ العقيدةِ وترتيلِ الأناشيد الدينيّةِ في المعابد بمرافقةِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ وهو ما نقلتهُ جميعُ الأديان التي خرجت من مصر لتصاحبَ الموسيقى طقوسَ العبادة في دور العبادةِ المسيحيَّة واليهوديَّة وغيرها. وعصرُ فرعون “أخناتون” تَميَّزَ ، بصفةٍ خاصَّةٍ ، بالأناشيد والتسابيح المنظومة بالشعر الغنائي المُرَتَّل. وتحوي المزاميرُ الكثيرَ من مخطوط برديَّة “جولو نشيف التي وُصِفَتْ بأنها الحلقة التي تربطُ التسابيحَ بالمزامير.
لقد أثمرت وكشفت الحملة ُ العالميَّة ُ ، في بدايتِهَا، على النصِّ الفرعوني للمزمور رقم (104) من مزامير داود ضمنَ مجموعةِ برديَّات حفريَّات تل العمارنة وبعض المقطوعات من المزامير (125، 126) ضمن برديَّات (بريسن دافن) المشهورة.. هذا وتتوالى بلاغاتُ الإكتِشافاتِ من مختلفِ المتاحفِ،حتى أن وصَلَ عددُ المزامير التي اكتُشِفَتْ أصولُهَا المصريَّة بما يزيدُعن عشرة برديَّات جديدة مُوزَّعةٍ على متاحف اللّوفر وتورين وبرلين.
في الأبحاث التي قامَ بها المؤرِّخُ والعالم المصري ” سليم خميس ” الخاصَّة بالأدبِ المصري القديم إتَّضحَ أنَّ مقدِّمة َ المزامير العبرانيَّة لا تختلفُ أبدا صيغة ُ نصوصِهَاعن النشيدِ الكبير الذي يبدأ بهِ أخناتونُ تسابيحَهُ المشهورة َ. والجديرُ بالذكر أنهُ لم يغفلْ معظمُ دارسي أخناتون عن هذا التشابه والتماثل بين أجزاءِ النشيد المصري الذي قالهُ أخناتون في تسبيح الإله الأوحد “أتون” خالق العالم ومبدع الوجود ومقدِّمةِ المزامير*2.
إنَّ النشيدَ المصري الذي نحن في صَددِهِ سبقَ مجيىءَ النبي أشعيا بسبعةِ قرونٍ كاملة هذا مما يُؤَكّدُ لنا ولا يجعلُ أيَّ مجالٍ للشَّكِّ أنَّ العبرانيِّين قد أخذوا واقتبسوا من النشيدِ المصري كثيرًا من آرائِهم وأفكارِهِم وفلسفتهم في التوحيد.
السؤال الهام ّ الذي يقرضُ نفسَهُ هنا: متى وكيف انتقلت الأناشيدُ والترانيم الدينيَّة التوحيديَّة من الفرعون “أخناتون” إلى النبي والملك داود والتوراة ؟؟.

داود والمزامير: في الكتابِ المقدس- العهد القديم – (كتاب صموئيل النبي والملوك) ، نادى صموئيل (عام 1025 – ق. م) وأعلنَ ليكونَ شاؤل أوَّلَ ملكٍ لإسرائيل (قبله كان عصر القضاة).. وحسب ما وُصِفَ شاول انهُ كان فارسًا يُحبُّ الحروبَ والملذات فابتعدَ عن الدينِ والعقيدة أثناء فترة حكمهِ فنزلت عليه اللعنة ُ الإلهيَّة ليختمَ حياتَهُ بيديهِ. وقد قُتِلَ في إحدى المعارك على جبل الجلبوع مع أولادِهِ الثلاثة ولم يخلفهُ ابنهُ يونتان حيثُ قُتِلَ مع أبيهِ ولا أحدٌ من أحفادِهِ بل تولَّى الحكمَ بعدَهُ داودُ الذي احتلَّ مدينة َ أورشليم من اليبُّوسيِّين العرب وكان اسمُهَا ” أور سالم “… وللملكِ داود قصيدة رائعة قالها في رثاءِ الملك شاول وابنه يونتان الذي كان صديقا حميما لداود تُسَمَّى ” نشيد القوس”.. وقد طلبَ من بني يهودا أن يتعلَّمُوا هذا النشيد (العهد القديم – سفر صموئيل الثاني – الإصحاح الأوَّل)…وكان داودُ الملك رجلَ حربٍ إنتصرَ على البلادِ المحيطةِ بهِ وجمعَ بين محاسن البشر ومساوئِهِ وتزوَّجَ من ” بَتشبع ” زوجة قائدِ جيشهِ ” أوريا الحثّي” الذي أرسَلهُ إلى الحربِ لهدفِ الإستيلاء على زوجتهِ التي أغراهُ وجذبهُ جمالُها ومفاتنها.هذا وتصفُ قصصُ الأنبياء- للنيسابوري – مزامير داود كما جاءَ: (” إنَّ اللهَ قد أنعمَ على داود بالصوتِ الجميل السَّاحر ونعمةِ التّرجيع والألحان ولم يُعط أحدٌ من البشر مثلَ صوتهِ. وكان يقرأ المزاميرَ بستين لحنا حتى إذا غنَّى تستمعُ إليهِ الإنسُ والجنُّ وتقفُ لهُ الوحوشُ وتظلّلهُ الطيورُ وتسكنُ الريحُ ويقفُ خريرُ المياهِ في النهر…وكانت الجبالُ تجاوبُهُ بالتسبيح.. وما صُنِعَت المزامير والبرابط والصنوج إلا على صوتِهِ.وجاءَ في القرآن الكريم، في سبأ والأنبياء *3: (” وقد أتينا داود فضلا منَّا يا جبالُ أوبي معهُ والطير، وألنَّا لهُ الحديد “). (“وسخِّرنا مع داود الجبال يُسَبِّحنَ والطير وكنَّا فاعلين “). وجاءَ في كتاب الانبياء: (“عندما عصى داود الإلهَ وارتكبَ الخطيئة َ نقصتْ نعمتهُ وفقدَت تأثيرَهَا على من حولهُ وعلى من يسمَعُهُ وغيَّرت صوتَهُ وحالهُ فتوقَّفَ عن ترديدِ المزامير. والخطيئة ُالكبيرة التي ارتكبَها داود هي عندما أخرجهُ الشيطانُ من محرابِهِ اثناءَ صلاتِهِ وأغراهُ ليتبعَهُ إلى الحديقةِ ليطلِعَهُ على كنزٍ مدفون ، فتبعهُ داود حتى أشرفَ على امرأةٍ تغتسلُ في بحيرةِ القصر فهامَ في حسنِها وخلقِها، فلما رأت ظلّهُ على الأرض غطَّت جسَدَها بشعرِها فزادَهُ ذلك إعجابا بها ولمَّا سألَ عنها قيلَ لهُ إنَّها زوجة ُ “أوريا ” قائد الجيش فعملَ على إرسالِهِ في مهمَّةٍ حربيَّةٍ، في مكان بعيد، إذ بلغهُ قتلهُ ولن يرجع. فخطبهَا داود لنفسِهِ وتزوَّجَها.. وكانَ لداود عندما تزوَّجها تسعٌ وتسعون (99) امرأة وزوجة. وبعدَ أن تمَّ هذا الشيىء دخلَ الملاكُ جبرائيل على داود في محرابِهِ وهو يتغنَّى بالمزامير وقالَ لهُ: كيفَ تتغنَّى بالمزامير وخطيئتكَ قائمة فأوريا لم يمت في الحرب ، بل ماتَ كمدًا ، عندما تزوَّجتَ زوجتهُ وهي في عصمتِهِ. فأمرَ اللهُ بحرمانِهِ من نعمةِ جمالِ الصّوتِ الذي يرتِّلُ بهِ المزاميرَ ونعمة َ الفنِّ التي تعزفُ بهِ أصابعُهُ على القيثار – (آلة موسيقيَّة قديمة). وأما في الكتاب المقدس – العهد القديم (سفر صموئيل الثاني- إصحاح 11 -12) وفي سفر المزامير فقد وردَ: انَّ النبي ناثان هو الذي جاءَ إلى داود ليوَبِّخَهُ على خطيئتهِ وعصيانِهِ لمشيئةِ الله بعد أن دخلَ على ” بَتْشَبْعَ ” وليسَ النبي جبرائيل.. وهنالك مزمورٌ لداود يتحدَّثُ عن خطيئتهِ هذه ويطلبُ الرحمة والغفرانَ من الرَّب.. ويقول في هذا المزمور*4:
(” إرْحَمني يا اللهُ حَسَبَ رحمَتِكَ. حَسَبَ كُثرةِ رأفتِكَ أمْحُ مَعَاصيَّ. اغسلني كثيرا من إثمي وَمن خطيئتي طهِّزني. لأنِّي عارفٌ بمعاصيَّ وخطيئتي أمامي دائما. إليكَ وحدَكَ أخطأتُ والشَّرَّ قدَّامَ عينيكَ صنعتُ ،لكي تتبرَّر في أقوالِكَ وتزكو في قضائِكَ. هَئنذا بالإثم ِ صُوِّرْتُ وبالخطيئةِ حَبِلَتْ بي أمِّي.”)… إلخ..

أخناتون ومزامير داود: – وصَفَ المؤَرِّخونَ أخناتونَ أنَّهُ فيلسوفٌ وَمُتعبِّدٌ فقط… ولكنَهُ إضافة ً إلى ذلك كانَ حكيمًا وأديبًا وفنَّانا وموسيقيًّا وشاعرًّا مُحِبًّا للنّحتِ والتّصوير الذي أوحى للكثير من الفنّانين بعدَهُ بتجسيدِ الطبيعةِ الحيَّةِ في فنونِ النّحتِ والتصوير والتعبير بالألوانِ المستوحاة والمُستمدَّة من الطبيعة. ويُذكرُ أنَّ أخناتون قد وَرثَ فلسفة َ الفنِّ عن أبيهِ الفرعون ” أمنحتب الثالث “. وكان أخناتونُ مُحبًّا للموسيقى والرَّقص وعملَ على تطويرها والخروج بها من المعبدِ إلى مسرح الحياة العامَّة.. وانتقلَ بالتمثيلِ من تمثيلِ الأساطير الدينيَّةِ في المعبدِ والمناسباتِ الدينيَّةِ إلى تمثيل طبيعةِ الحياةِ في الأعيادِ والمناسباتِ الإجتماعيَّة. وخرجَ وقفزَ بجميع أنواع الفنونِ من القيودِ الدينيَّةِ إلى التحرُّر الإجتماعي ووضعَ مبدأ ” الفنّ الحُرّ ” في جميع فنون الحياةِ إبتداءً من التصوير والزخرفة والأزياءِ والأدواتِ المنزليَّةِ والأثاثِ وامتدادً إلى التعبير عن متون العقيدة وتشاريع السَّماءِ التي برزت كمقطوعاتٍ أدبيَّة فنّيَّةٍ راقية رائعة على شكل تسابيح منظومة بالشعر ومصحوبة بالنغم والموسيقى.
وفي كتاب ” فجر الضَّمير” للمؤرِّخ ” برستد ” – ترجمة الدكتور “سليم حسن”*5 جاءَ ما يلي: (” أعلنَ أخناتون أنَّهُ رسولُ الإله الواحد للناس كافّة ليظهرَهم وليطلِعَهم على جمالهِ ويشعرون بقوَّةِ خالِقهم وسلطانِهِ..جاءَ لينقلَ للناسِ جمالَ كلام اللهِ وتعاليمه التي تنطقُ بها التسابيحُ الشعريَّة المنظومة التي تصاحبُهَا أنغامُ الموسيقى…لغة السماء. ويقولُ المؤَرِّخُ ” إيرمان” في ” كنوز الحضارة “: (” إنَّ شخصيَّة أخناتون كانت مُثلَّثة القوى ، حيث وَرثَ فلسفة َ الفنِّ عن أبيهِ ” أمنحتب الثالث ” والعقيدة عن أمِّهِ الملكة ” تي” ، والشَّجاعة عن جدِّهِ “تحتمس الثاالث “. وهكذا جمعت شخصيَّتُهُ الحسَّاسة الحالمة ُ بين القوَّةِ والإحترام الكافيين للوقوفِ أمامَ أقوى نفوذ في البلاد، في ذلك الوقت، وهو نفوذ كهنة آمون. فالفرعونُ أخناتون هو أوَّلُ حاكم في التاريخ يقومُ بثورةٍ دينيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وفنيَّةٍ.. وقد تمكَّنَ من تحقيقِ أهدافِهِ وفكرتِهِ في الدَّعوةِ لعقيدةِ ” التوحيد “.. أي الإيمان بإلهٍ واحدٍ حيٍّ أزليٍّ خالق جميع المخلوقات والعالم ولا إله غيره ونبذ عبادة الأصنام والآلهة الأخرى التي لا تجدي ولا تنفع (عدم الشرك بالإله الواحد). فقامَ أخناتون بنقلِ مقرِّ حُكمِهِ من مدينةِ ” طيبة ” مركز ومعقل عبادة آمون إلى مدينةٍ أخرى وعاصمةٍ جديدة لنشر العقيدةِ وللحُكم، أطلقَ عليهَا إسمَ (أخت آتون) أي أفق الإله. واختارَ أخناتونُ للمدينتِهِ الجديدةِ موقعًا استراتيجيًّا هامًّا بين كلٍّ من (هيليوبوليس) وطيبة مركزيّ عبادةِ كلٍّ من “رع ” و “آمون”. وأصبحَ الموقعُ الجديدُ مقرًّا لحُكمِهِ.
إنَّ الثورة َ والإنقلابَ الديني الذي قامَ بهِ أخناتونُ لم يكن مقيَّدًا في حدودِ إحياءِ ونشر عقيدةِ التوحيد باسم آتون فقط ، بل تخطَّت ثورتُهُ أبعادًا وأمورًا أوسعَ فتحوَّلتْ إلى ثورةٍ وانقلابٍ شامل في جميع المفاهيم والأصعدةِ والمجالاتِ…خاصَّة في الفنِّ المصري وطرائفهِ، والذي كانَ جزءًا هامًّا من مناهجِهِ وامتدَّ إلى التصوير الأدبي للعقيدةِ بالتعبير عنها من خلال الشعر المنظوم والأناشيد والتسابيح التي تُرَتَّلُ في المعابد وَتُرتَّلُ في المناسبات والندواتِ والأعياد وتنتقلُ منها إلى أسفار التوراة، بشكلٍ مباشر، لتصلَ إلى بيت المقدس (أورشليم) ليتغنَّى بها الملكُ داود في مزاميرهِ.
لم تستمرّ ثورة ُ آتون التّوحيديَّة ُ فترة ً طويلة، فبعدَ سقوطِ ثورتهِ لم يترك أعداؤُهُ حجرًا واحدًا لم يقلبوهُ لإزالةِ كلِّ شيىءٍ باقٍ يدلُّ على مُدَّةِ حُكمِهِ الممقوتِ عندهم فأحرقووا وأتلفوا مؤلفات ومخطوطات أخناتون وكلَّ شيىء يختصُّ بمبادىء عقيدتِهِ (التّوحيد) وما ارتبطَ بها من أسس وشرائع وتعاليم سماويَّة عبَّرَ عنها بأناشيدِهِ وتسابيحِهِ المعروفة…وما تبقى وما وصلَ إلينا منها من نصوص ما كانَ يُزيِّنُ بهِ أشرافُ رجالِهِ جدرانَ مقابرهم أو بقايا بعض البرديَّات ولفائفِها التي وجدت ضمن موميات مقابر مدينتِهِ المقدَّسة.
ما زالَ علماءُ الآثار من حينٍ لآخر يكتشفون بعضَ البرديَّات الأثريَّة المدفونة المثيرة التي تلقي الأضواءَ على العلاقة بين أسفار التوراة – العهد القديم – ومزامير داود وعقيدة أخاتون المصريَّة. وهذا ممَّا جعلَ الكثيرَ من العلماء والباحثين يهتمُّون بالموضوع والمبادرة في محاولةِ ترجمة الكثير من البرديّاتِ والنقوش التي كشفتهَا حفريَّاتُ تل العمارنة – (مدينة أخت أتون – عاصمة أخناتون) والمكدَّسة في مخازن العديدِ من متاحف العالم لحلِّ وفكِّ طلاسِمها وأسرارها ومعرفة مضامينها ومعانيها. وكانت المفاجأة الكبرى التي كشفهتا بعضُ لفائفِ البرديّاتِ أنها تحوي نصوصًا كاملة ً لأكثر من مزمور من مزامير داود المُدَوَّنة باللغةِ المصريّة القديمة والخط الهيروغليفي والتي سبقت مزاميرَ داود المدوَّنة باللغةِ العبريبَّةِ والخط العبراني بأكثر من ثلاثمئة سنة. ومن أهَمِّ المفاجآتِ أيضا ، في هذا الصَّدد، التي كشفها العالم المصري بالشتراك مع علماء متحف برلين هي وجود ثلاث صفحات من كتابِ أخناتون مطابقة لمثيلاتِها في أسفار التوراة. وهنالك مفاجآتٌ كثيره أخرى في إكتشافِ بردياتٍ نصوصها متشابهة بل متطابقة لنصوص من أسفار من العهد القديم والتوراه ،مثل سفر الأمثال لسليمان… وأحدُ العلماءِ وخبراء الآثار الأجانب عندما قام بترجمة بعض البرديات وفك رموزها وطلاسِمها أحَسَّ كأنهُ يُترجمُ فصولا من سفر الأمثال للإنجليزيةِ لتطابقِ النصِّ بيتهما حرفيًّا. وجاء في كتابِ فجر الضمير للمؤلف “جينس هنري برستد ” وترجمة الدكتور” سليم حسن “(صفحة 341) ما يلي: (” غير أنهُ قد طبعت ورقة ٌ من برديَّةٍ كانت قد مكثت مدَّة ً طويلة في المتحفِ الابريطاني ، فكشفت لنا أنَّ عن أنَّ مؤلّف هذا الجزء لم يكن سوى المصري القديم أمينموبي ! وجميع العلماء والمختصِّين بكتابِ العهد القديم الذين يُعتزّ بآرائِهم وأبحاثِهم فيه يجزمون الآن بأنَّ محتويات ذلك الجزء الذي يؤلِّفُ نحو فصلَ ونصف فصل ” كتاب الأمثال ” قد أخذ َ معظمُهُ بالنصّ عن حِكَم ِالحكيم للمصري أمينموبي ، أيّ أنَّ النسخة العبرانيَّة هي ترجمة ٌ حرفيَّة ٌ من الأصل الهيروغليفي العتيق. وكذلك صارَ من الواضح أيضا أنَّ حكمَ ” أمينموبي ” شائعة ٌ في مواضع عدَّة من كتاب العهد القديم ،حيث نراها مصدرًا لتلكَ الأفكار والتشبيهات والمقاييس الخلقيَّة وبخاصَّة لروح الشفقة الإنسانيَّة الحارَّة ،لا في كتاب الأمثال فحسب بل القوانين العبرانيِّة وفي سفر”أيوب ” وكما ذكرنا سابقا في سفر شاول و” إرميا ” أيضا. وقد أشرنا آنفا إلى وجودِ عناصر أجنبيَّة في كتاب الأمثال لم يتردَّد المصنّفُ القديم في الإشارةِ إليهَا في العناوين ، لأنَّ الحكيم “أجور” الذي تؤلفُ حكمُهُ الفصلَ الثلاثين والملكَ ” لمويل ” الذي يدينُ لأمِّهِ بحكمِهِ التي تؤلِّفُ الفصل الحادي والثلاثين لم يكونا بداهة ً من أصل عبراني “)… إلخ. وهنالك الكثيرُ من الشواهد لأسفار أخرى ولكن تفاديا من الإطالة سأكتفي بموضوع مزامير داود وتسابيح أخناتون. وكما يَتّضِحُ جليًّا في جميع هذه الأسفار ((من التوراه والعهد القديم وخاصة سفر أيوب والمزامير والأمثال وغيرها والتسابيح والترانيم من النصوص الفرعونيَّة القديمة)) أنها كلَّها تفتقرُ إلى مفهوم وموضوع الخلاص لأنَّها كُتِبَتْ في حقبةٍ زمنيَّة قديمة جدا قبل مجيىءِ السيد المسيح عليه السلام وكأنَّها توحي وتشيرُ بشكلٍ غير مباشر أنَّ البشرَ بحاجةٍ إلى مُخَلّص وفادٍ يحملُ عنهم آلامَهم وأحزانَهم وأثقالهم ويخلّصُهم روحيًّا ويوصلهم إلى الخلود الأبدي وللجنةِ السماويَّة.

أخناتون وموسى..والمزامير: إنَّ علاقة َ أخناتون بموسى كليم الله كما وصفتها كتبُ العقيدةِ وقصصُ الأنبياء تبدأ بزواج يوسف الصدِّيق عليه السلام اسمهُ المصري (يويا) من أسنات إبنة ” فوتيفارع ” كبير كهنة معبد أون معقل عقيدة التّوحيد فأنجبَ منها ابنتهُ الجميلة طاي (تي) التي تَربَّت في قصر “تحتمس الرابع” فأحَبَّهَا ابنهُ أمنحتب الثالث وتزوَّجَها بعدَ توليهِ العرش بعام وجعلها ملكة مصر. وقد نسي المؤرِّخون النزاعَ والنفورَ الذي جرى بين كهنةِ معبد آمون والأسرة المالكة والملكة ” تي ” وخاصَّة انها تنتمي إلى عقيدةِ إلهِ الشَّمس (رَع) التي يرعاهَا معبدُ “أون” الذي تربَّت فيهِ ويرأسُهُ جدُّها ” فوتيفارغ “… وهذا مما جعلهَا ترسلُ ” أخناتون ” منذ طفولتهِ للإلتحاق بمعبد ” أون ” بعيدا عن كهنةِ آمون بطيبة…وتتلمذ َ وَتشبَّعَ هناكَ بعقيدةِ توحيد ” رَع ” الإله الواحد الأزلي السرمدي التي كانَ يؤمنُ بها جدُّهُ النبي يوسف بن يعقوب. أمَّا بالنسبةِ لعلاقة أخناتون بموسى فتوضحُهَا وتفسِّرُها علاقة ُ موسى بيوسف الصدّيق جدّ أخناتون. ويذكرُ كتابُ (سفرالأنبياء) في التوراةِ تلكَ العلاقة كما يلي: (“وذهبَ رجلٌ من بيتِ لاوي وأخذ َ بنتَ لاوي، فحملت وولدت ابنا “)*6… إلخ…وهذا الإبنُ هو كليم الله موسى وبيت لاوي هم أحفاد يوسف (سفر الخروج إصحاح 2). أما العالم المعروف ” فرويد ” فيقولُ في كتابهِ (اليهود في مصر): (” إنَّ موسى تلقى علومَهُ ومعارفهُ في معبدِ “أون ” الذي تخرَّجَ منهُ أخناتونُ وكان يُؤمنُ (موسى) بعقيدةِ التوحيدِ التي نادى بها أخناتون وحارَبَها المصريُّون إرضاءً لكهنةِ آمون…وعملَ وعملَ موسى بشكلٍ سرِّيّ على نشر عقيدةِ التوحيد بين طوائف وصفوفِ وصفوفِ اليهود بعدَ انحرافِ المصريِّين عنها، بعد ثورةِ كهنةِ آمون عليها.
وكانَ اليهودُ يرتلونِ تسابيحَ أخناتون في معابدِهم ويتغنُّون بأناشيدِهِ بمرافقةِ الموسيقى في مختلفِ مناسباتِهم الدينيَّةِ والإجتماعَّةِ وهي التسابيح التي نقلها موسى مع التوراه وَحُمِلت إلى بيتِ المقدس فيما بعد لتُصبحَ من شعائر الدين التي يرتلها اليهودُ في معابدِهم والطقوس التسي يمارسونها بمصاحبةِ الموسيقى التي نقلوها عن المعابد المصريَّة…ولا زالت تُمَارَسُ وَتُرَدَّدُ حتى اليوم في أنحاءِ العالم. وبإنتقال هذه التسابيح والأناشيد وما ارتبطَ منها من شعائر وتقاليد وبانتقالها إلى مدينة القدس (أورشليم) التي نزلَ بها (اليهود) وتوالى ظهورُ الأنبياءِ على أرضِها تعلَّقَ بها النبي داود الذي اشتهرَ بجمالِ وعذوبةِ صوتِهِ واتقانه العزف على آلةِ ” القيثار” أحد الآلاتِ الموسيقيَّة الفرعونيَّة المعروفة آنذاك التي نقلهَا اليهودُ معهم من مصر، مع غيرها من الآلاتِ الأخرى التي نقلوها على العالم ولا زالت إلى يومنا هذا تحتفظُ بأشكالِها وتتردَّدُ أنغامُهَا داخل المعابد وخارجها…ذلك القيثار المصري الذي احتفظ بهِ النبي داود ليعزفَ عليهِ تسابيحَ أخناتون المصريَّة بعدَ مرورِ حقبةٍ من الزَّمن.
لقد وصفَ كتابُ الأنبياءِ مزاميرَ داود أنها نزلت بالعبرانيّةِ في مائة وخمسين عامودا (مزمورا). خمسون منها في ذكر الله ولآيات خلقه. وخمسون في التسابيح بحمدِهِ وخصائص نعمه، وخمسون منها في الحِكَم والمواعظ.. وهو الذي يتفقُ عليه في النصوص وتتابعها ، إلى حدٍّ كبير ، مع أناشيد أخناتون وتسابيحهُ. إنَّ مطلعَ مزامير داود يتشابهُ مع فاتحة ” النشيد الكبير” الذي يبدأ بهِ أخناتون تسابيحَهُ في مناجاةِ الله الخالق الذي لا شريك لهُ ، والذي رمزَ لهُ بقرص الشَّمس “آتون “..أي (القوى الخفيَّة التي تهبُ الحياة َ والحركة) وصوَّرهَا وشبَّهَها بقرص الشَّمس الذي تمتدُّ أذرعُهُ وأياديه حاملة هبة العطاءَ الإلهي ومنحه مع مفتاح الحياة إلى البشر.
ويبدأ النشيدُ الكبيرُ أو تسابيحُ أخناتون بقولِهِ:
(” أنتَ الإلهُ الأحدُ الذي وُجِدَ منذ الأزل
أنتَ آية ُ الحياةِ وموهبُ الحياة ولا حياة إلا بك.
أيُّهَا المشرقُ البهيُّ القريبُ البعيد
تعاليتَ فامتدَّ نورُكَ ليضيىءَ الكونَ كلَهُ
أنتَ تدركُ آخرَ الأرض رُغمَ ارتفاعِكَ منها
لا تكادُ تقذفُ بأشِعَّتِكَ حتى يتمزَّقَ رداءُ الليل
فإذا الأرضُ تُهَلّلُ وإذا الناسُ إيقاض…”)… إلخ.
وتمتدُّ تسابيحُ النشييدُ الكبيرُ لتغطِّي عدَّةَ بردياتٍ متفرّقة ولويحات الأوستراكا والنقوش الزخرفيَّة التي تزيِّنُ بعضَ مقابر العمارنة وبقايا أحجار معابد أبيدوس وأخيمم والتي تحتلّ حاليًّا معظم المتاحف ومراكز الآثار العالميَّة.
ومن بين أناشيد الخلق التي انتقلت بغير تبديل من تسابيح أخناتون إلى مزامير داود:
(” يا بارىء الفرخ في البيضةِ تعطيهِ النفس
ليحفظَهُ حياة في وسطها ويتحرك فيها بأمرك
وقدَّرتَ لهُ ميقاتا ليخرجَ منها // ولا يخرجُ منها إلا في ميقاتِهِ
فترزقُهُ القوَّة َ على كسرِها فيمشي // ساعيا على قدميهِ
ليخرجَ منها إلى الدنيا
يا من خلقتَ الحياة َ من الجمادِ فأخرجتَ الفرخَ من البيضة
يا مُبدِعَ الأجِنَّة في الأرحام // وخالق النطفة في أصلابِ الرجال
يا مُطعمَ الجنين في بطنِ أمِّهِ مُهَدِّئا إيَّاهُ حتى لا يبكي
ونافخا الحياة َ من أنفاسِكَ في أديمهِ “).. إلخ.

ويعودُ الفضلُ الأكبرُ لاكتشافِ العلاقةِ بين أناشيدِ أخناتون وتسابيحهِ ومزامير داود إلى العالم الأثري الشهير “جولونشف” في أوائل القرن العشرين عندما كانَ يقومُ بترجمةِ بعض البرديَّاتِ الفرعونيَّةِ التي يحتفضُ بها متحف بتروجراد حيث تفاجأ عند قيامِه بترجمةِ إحدى البرديَّاتِ التي حصلَ عليها المتحف من حفريَّاتِ مقابر العمارنة والمُدَوَّنة بالخطّ الهيروغليفي والهيراطيقي.. وأثناء مقارنتِها بنصوص مزامير داود التي كان يحتفظُ بها، في مكتبتِهِ الخاصَّةِ ظهرت المفاجأة ُ بأنَّها صورة ٌ طبقَ الأصل، من ناحيةِ اللهجةِ والنصّ والأسلوب الشّعري من المزمور الثامن من مزامير داود..وهذا الإكتشافُ الهام والمُثيرُ كانَ لهُ الحافز الكبير للفتِ أنظار العلماء والمؤَرِّخين وباحثي الآثار من مختلفِ الجامعاتِ والمتاحف العالميَّةِ ، وبدؤُوا وشرَعُوا في التنقيبِ والبحثِ بين أكوام البرديَّاتِ التي تحتفظُ بها مخازنُهُم. وقد أعلنَ بعدها المتحفُ البريطاني باكتشافِ نصٍّ فرعونيٍّ للمزمور (104) ضمن برديَّاِت “بريس” المشهورة ،وتتوالى الإكتشافات التي تعلنها كلٌّ من متاحف اللُّوفر وتورين ليصلَ عددُ المزامير التي تمكنوا من إثباتِها أكثر من عشرين برديَّة. وفي صددِ موضوع المزامير لا نستطيعُ إنكارَ وتجاهلَ فضل العالم الأثري المصري الكبير ” سليم حسن ” وما قامَ بهِ من بحوثٍ مُثمرةٍ والتي تتعلَّق بعقيدةِ أخناتون وعلاقة كلٍّ من التوراةِ والمزامير بها مباشرة ً وترجمات البرديَّات التي أعلنهَا متحف برلين عام 1935 حيثُ كانَ الفضلُ الأكبرُ لهُ في اكتشافِ بعِضِ صفحاتٍ من التوراةِ لا مجالٌ فيها للشكِّ في اتفاق نصوصِها وصيغتِها مع وثائق عقيدةِ أخناتون.
وحتى الآن وحتى كتابة (هذه السطور) لا يزالُ الكثيرُ من علماءِ الآثار الباحثين مستمرِّين ومنغرقين في البحث والتنقيبِ بين برديَّات المتاحفِ التي لم تترجَمْ بعد أو ضمن حفريَّات الآثار ، وبالذات في المناطق والمواقع التي كانت تهتمُّ بعقيدةِ اخناتون التوحيديَّة وتمارسُ شعائرَها ، مثل منطقةِ أخميم وأبيدوس التي أقيمَ لأخناتون فيها اكثر من معبد ومزار، وما زالت بين الحين والآخر البعثات المصريَّة والأجنبيَّة تعثرُعلى العديد من أحجار تلكَ المعابد والمنشآتِ التي خرَّبَهَا ودمَّرَها كهنة ُ آمون أعداء التوحيدِ في ثورتِهم المعروفةِ ضدَّ عقيدة أخناتون.
ومن آوخر الإكتشافات التي قامَ بها العلماء المصريِّين قبل عدَّةِ أعوام في منطقةِ المضلّ ببني سويف هي إكتشاف مخطوط كامل للمزامير وُجِدَ على شكلِ كتلةٍ متماسكةٍ تتكوَّنُ صفحاتُها من الرّق…عثرَ عليها الأثري ” إبراهيم جاد ” والمخطوطُ مكتوبٌ باللغة البَهنسيَّةِ المصريَّة القديمة التي يُطلقُ عليها لهجة مصر الوسسطى ويدخلُ فيها الكثيرُ من الكلماتِ اليونانيَّةِ.. ويُعتبرُ هذا المخطوطُ أقربَ للمزامير من الأصل..وقد وُجِدَ هذا المخطوط القيِّمُ تحت رأسِ أحدِ المومياتِ ، وهو يُعتبر استمراريَّة ً تقليديَّة لبعضِ العاداتِ المصريّةِ، إذ كانوا يضعونَ “كتابَ الموتى ” تحت رأس المومياء (الجثة المُحَنَّطة)، ولقد عملَ وَبذلَ العلماءُ والباحثون جُهدًا كبيرًا على فكِّ رموز المخطوط الذي لهُ أساسٌ جذريٌّ مباشر في حقيقةِ العلاقةِ بين تسابيح أخناتون ومزامير داود.

(بقلم: حاتم جوعيه)

………………………………………………………………………………..
*1 يُقصدُ وَيُعنى بالتوراةِ الأسفار الخمسة الأولى فقط من الكتاب المقدس (العهد القديم) والتي كتبَ نصوصَها النبي موسى ، وهي: سفر التكوين ، سفر الخروج ، سفر اللاويين ، سفر العدد ، وسفر التثنية… وأما باقي الأسفار فكتبهَا العديدُ من أنبياء وحكماء بني إسرائيل..وهنالك أسفارٌ لم يُعرف حتى الآن كاتبُهَا ومؤلفها، مثل: سفر النبي أيوب… بَيْدَ أنَّ الكثيرين يطلقونَ اسم ومصطلح التوراة على الكتاب المقدس – العهد القديم – بأجمعهِ وليس على الأسفار الخمسة الأولى التي تقعُ عليها هذه التسمية والتي كتبها النبي موسى.
*2 مجلة الهلال.
*3 القرأن الكريم.
*4 الكتاب المقدس – العهد القديم (سفر المزامير – مزمور 51).
*5 كتاب فجر الضمير – تأليف: جيمس هنري برستد – ترجمة الكدتور سليم حسن – إصدار (الناشر): مكتبة مصر – دار مصر للطباعة.
*6 الكتاب المقدس – العهد القديم (سفر الخروج – إصحاح 2).

7atemjo3eh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة